تناولت في الحلقة السابقة شخصيات احتضنها فضاء البلدة الطاهرة، كما فعل مع شخصيات عدة على مر العصور والحقب الماضية. فلقد ذكرت طرفاً من حياة الدبلوماسي والقاص محمّد عالم أفغان -رحمه الله-، وفعلت مثل ذلك مع الدبلوماسي والأديب عبدالله سلامة الجهني -رحمه الله رحمة الأبرار-، فلقد كان هذا الأخير -وأعني الجهني- من الذكاء والقدرة على الكتابة الأدبية مع كثير من الورع والاستقامة في السلوك مع من حوله. ويبدو أنه اصطدم بسلوكيات البعض، فاختار العزلة، وآثر الانزواء والابتعاد، مع أنّ آخر عمل كُلّف به هو قيامه بمهام مستشار في إدارة التعليم بمنطقة المدينة المنورة. ويبدو أنه لم يفهم القوم، وكذلك الحال بالنسبة للقوم، فهم عجزوا أيضاً عن فهم شخصيته، أو لم يألفوا شخصية بمثل هذا السلوك، والذي يمكن القول بأنه أقرب إلى الزهد في متاع الدنيا الفاني، والاكتفاء بالقليل من الزاد. ورغم محدودية ما يحصل عليه من المال، إلا أنّ هذا القليل من المال كان الفيلسوف الجهني ينفقه على من يطرق بابه طالباً المؤازرة، وخصوصاً أولئك الذين يعتبرونه شخصية تؤثر الآخرين على نفسها، وذلك مصداقاً للآية الكريمة: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).
كان الرائد الجهني يقضي معظم وقته صباحاً في مكتبة الملك عبدالعزيز، التي تضم مكتبات عديدة لبعض علماء المدينة المنوّرة، وقام أبناؤهم بعد رحيل آبائهم من أهل العلم بإهداء تلك المكتبات إلى المكتبة الأم، أعني المكتبة العامة.. وإذا ما صلّى صلاة العصر في الحرم النبوي الشريف، حمل حقيبته المتواضعة، وسلك الدّرب إلى مكتبة عارف حكمت، التي كانت تحتوي على ما يقرب من خمسة آلاف مخطوطة، فيقضي وقته قارئاً للكتب، التي كان يعتبر بعضها فريداً ونادراً، وأشير هنا إلى مخطوطة ثمينة احتوت عليها هذه المكتبة، وهي (المسافات وصور الأقاليم)، لأبي زيد البلخي، ويعدّه بعض الباحثين أوّل كتاب علمي في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية.. وكان أستاذنا الجهني إذا ما صلّى المكتوبة، صلاة العشاء توجّه إلى باب يدعى (باب جبريل)، ثم إلى ما يعرف بـ(فرش الحجر)، ويستقرّ في مجلسه في هذا المكان، مكتفياً في هذا الوقت بقراءة القرآن الكريم.
عرفت هذه الشخصية ذات المواهب المتعدّدة حوالي عام 1390هـ، وذلك عندما طلب منّي أستاذنا المرحوم حسين الخطيب، وكان رجلاً بصيراً، بأن أرافقه إلى المكان الذي يُصلّي بالقرب منه المرحوم الجهني، وكانت تلك لحظة وانعطافة مهمة في حياتي، فالإنسان الأسطورة، الذي كنت أراه عن بعد، أجدني أقف أمامه.. وبعد أن سلّمنا عليه، طلب منه أستاذنا الخطيب إذا ما كان لديه وقت يخصّصه لقراءة بعض الكتب للأستاذ الخطيب، نظراً لعدم قدرته على القراءة لفقدانه حاسة النظر.. وساد صمت بين الرجلين، وكان أستاذنا الجهني يصيخ السّمع لقارئ يرتّل آيات من القرآن الكريم بصوت يملؤه الخشوع والتبتّل، وبأصوات المرشدين ترتفع من أمام المثوى مسلّمة على صاحبه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى صاحبيه رضي الله عنهما، وإذا بالجهني يعود من جديد للحديث بعد انقطاع مفاجئ، توهّم أستاذنا الخطيب بأنّه خاتمة تلك الجلسة التي جمعت بين رجلين يختلفان في الكثير، ويتفقان على القليل، إلا أنّ الجهني لم يرد أن يجعل الأستاذ الخطيب متردّداً أو حائراً أو ممسكاً بالوهم أو الأماني والتطلّعات، فنظر إلى الأفق البعيد، وقال: (سبحان الله.. هذه الدنيا يا أستاذنا حسين زهدت فيها منذ زمن، فإذا بها تقتحم عليَّ عزلتي وأنا في رحاب المسجد الطّاهر).. ثم أردف قائلاً: (لا يمكنني القيام بما ترغب فيه).. وأمسكت بيد الأستاذ الخطيب، فسمعته يتمتم بكلمات مفادها ومؤداها أنّه -أي الجهني- رجل صادق مع نفسه والآخرين.. وعندما وصلنا إلى مقعدنا في الصُفّة الصغيرة تركته، وسلكت الدّرب إلى الحارة قاصداً الرستمية، ومقهى المُعلّم طيفور، وتلك حكاية أخرى، سوف أعود إليها بإذن الله في القادم من الحلقات.