مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

مبررات رفض الثقافة لتفسير الاختلافات في التقدم

يرى بعض المحللين (أننا قبل أن نلجأ إلى الثقافة اليوم لتفسير الاختلافات في التقدم الاقتصادي بين الأمم والجماعات العرقية نفضل أولاً أن نجد تفسيرات أخرى. فالثقافة من أقل المقولات التفسيرية تفضيلاً في نظر التفكير المعاصر، وأقل العوامل استحساناً وقبولاً هو العنصر أو سلالة الخصائص الوراثية (الجينية)، والذي كان له دور كبير على مدى أطول فترة في النصف الأول من القرن العشرين، بكل ما ترتب عليه من نتائج سيئة، والتي لا تزال مستمرة في الظهور بين الحين والآخر، ونحن نفضل ألا نشير إليه أو أن نستخدمه اليوم، وإن بدا أن ثمة رابطة بين السلالة والثقافة، ولكن ربما على نحو عرضي فقط، ونعرف أن السلالات الكبرى إجمالاً تميزها ثقافات مختلفة، وأن هذه الرابطة بين الثقافة والسلالة هي أحد أسباب ضيقنا من التفسيرات الثقافية).
وجاء حين من الزمن بدت الثقافة فيه أكثر نفعاً واستحساناً من السلالة لتفسير الاختلاف. ولنتأمل كتاب روث بينديكت (أنماط الثقافة)، وهو عمل شديد الاحترام صدر عام 1930م، وكان مقروءاً على نطاق واسع في الجامعات خلال الخمسينات والستينات؛ لأنه فسر الاختلاف بين الجماعات في ضوء أسس غير جينية وغير عنصرية. واعتادت التفسيرات العنصرية أن تكون تفسيرات محافظة، أو أسوأ من محافظة، وتبدو وكأنها لا تسمح بالتغير. وقاوم علماء الأنثروبولوجيا التقدميون، وهاجموا اتخاذ السلالة أو العنصر أساساً للتصنيف والتفسير الاجتماعي. وبدت التفسيرات الثقافية على النقيض تفسيرات ليبرالية تفاؤلية. إن المرء لا يسعه أن يغير سلالته، ولكن بإمكانه أن يغير ثقافته. ولم يطل الزمن الذي اعتبر فيه الباحثون الثقافة كمتغير تفسيري عاملاً أثيراً ومستحسناً. أولاً، هناك الرابطة الحتمية، ليست رابطة منطقية بل واقعية، بين السلالة والثقافة. ثانياً بدا من الأمور البغيضة استخدام الثقافة لتفسير السبب في أن جماعة أو أمة ما لم تزدهر. وحيث أننا جميعاً نرى التقدم الاقتصادي أمراً مرغوباً فيه؛ إذن لا بد من سبب، أي: من شيء غير مرغوب فيه كامن في الثقافة ويعوق التقدم الاقتصادي، حقاً إن بعض الاتجاهات في التفكير المعاصر (مثل الاتجاهات التي تنتقد النتائج البيئية الناجمة عن التطوير الاقتصادي أو النتائج الثقافية للعولمة)؛ يمكن أن تنظر باستحسان إلى الثقافات التي تشجع التقدم الاقتصادي، ولكن الملاحظ أن التفكير يتخذ مساراً آخر في أغلب المجالات، وأحسب أن التأويلات الجغرافية ستكون أكثر شيوعاً، ذلك أن بالإمكان كمثال ودون اللجوء إلى السلالة أو الثقافة أن تفسر لنا التأويلات الجغرافية لتخلف أفريقيا، حيث نجد المرافئ الطبيعية الجيدة والمحدودة القائمة على سواحلها كان لها دور محدود في التجارة والتبادل بالقياس إلى اليونان أو أوروبا.
وبنى اليسار السياسي تفسيراته على أساس الاختلافات في القوة ودرجة الاستقلال، وأثّر هذا التوجه لتفسير الفوارق بين الأمم والقارات، وكذا الفوارق بين الجماعات العرقية والعنصرية الأمريكية، ولكن الراديكاليين وكذلك الليبراليين نظروا بارتياب إلى التفسيرات الثقافية. وبدا أنهم (يلومون الضحية).
وهكذا فقدت التفسيرات الثقافية الهالة الليبرالية والتقدمية التي كانت لها أيام فرانز باوس، وروث بينديكت، ومرجريت ميد. وهكذا وضح أن السلالة أمر غير قابل للتغيير على عكس الثقافة. وها نحن اليوم نجد الثقافة مقاومة للتغيير شأن السلالة.
ثمة هفوات وفجوات كثيرة على طول الطريق أثناء الانتقال من التراث العام (الذي يمكن وصفه في ضوء نصوصه الشرعية الرئيسة والحواشي والطقوس والمراسم والتاريخ الخاص به)، وصولاً إلى هؤلاء الذين ربما يمارسون صوراً متباينة منه، إلى تراثات صغرى ربما لا تربطها سوى علاقات بعيدة. ترى إلى أي حد يمكن للتراث العام أن يفيد في تفسير مصير أولئك الذين تربطهم به علاقات بعيدة؟
لقد شد انتباهي تعليق مثير للشك على لسان رجل الاقتصاد السنغافوري جون وونج بشأن الدور المحتمل للكونفوشية في نجاح الاقتصاد في سنغافورة وشرق آسيا بعامة، (إنني لا أرى تعليقات كثيرة مماثلة مثيرة للشك مما يجعلني أهتم بهذا التعليق). يقول وونج إن الاقتصاديين لن يأخذوا التفسير الكونفوشي مأخذاً جاداً إلا إذا: تجلى في ضوء فرض قابل للاختبار، إذ لا يكفي الدفع بعبارات عامة بأن السلوك الكونفوشي يفضي إلى مزيد من المدخرات الشخصية، ومن ثم إلى مزيد من التكوين الرأسمالي. وإنما يتعين البرهنة بدليل قوي ومحدد على ما إذا كانت مثل هذه المدخرات تم استثمارها على نحو إنتاجي في مشروعات أعمال أو صناعة، أم تم تبديدها في مصاريف غير اقتصادية مثل الوفاء بالتزامات خاصة، والتي هي أيضاً -وفي النهاية- جزء من نظام القيم الكونفوشي. ويتعين كذلك توضيح كيف أن القيم الكونفوشية أدت بالفعل إلى تطوير فعال للقوى البشرية في ضوء دعم عملية الارتقاء بالمهارات وليس فقط التثقيف الفكري الذاتي أو الالتزام بمسارات أدبية تعود بالفائدة على صاحبها فقط. ولقد كان السيد الكونفوشي في صورته النموذجية في الماضي يكشف عن ازدراء سافر للعمل الوضيع.
إن ما سأل عنه وونج بارتياب هو ما إذا كان بإمكاننا حقيقة أن نجري تجربة الانتقال من التراث الأعم للكونفوشية إلى نجاح تلك المجتمعات، أو -وهو ما يضيفه البعض- نجاح الجماعات العرقية التي يمكن ربطها بها.
وليس جون وونج وحده المتشكك في جدوى التراث الكونفوشي أو الثقافة الكونفوشية من أجل التطوير الاقتصادي؛ ذلك أن صن يات صن وغيره من الإصلاحيين والثوريين لم يكونوا متشككين فقط في قيمة التقاليد الكونفوشية، بل نعوا عليها لما لها من دور رئيس في الإبقاء على الصين متخلفة، وشجبوا الثقافة التقليدية الصينية التي أدت إلى تخلف الصين اقتصادياً، فهل كانوا على خطأ؟ هل تغيرت الكونفوشية بحيث إنها في فترة ما قيدت التطور الحديث للصين بينما يسرته في فترة أخرى؟ ألسنا الآن منشغلين بمحاولة تفسير واقع بعد حدوثه؟ ما حدود الكونفوشية في النجاح التعليمي والاقتصادي لأبناء الصين في أمريكا؟
وطبيعي. وعلى الرغم من الاهتمام بالتراثات الكبرى والديانات الكبرى والأخلاق البروتستانتية، وكل ما هو مناظر لها في العالم؛ ربما نستطيع تقديم تفسير جيد تماماً ودفاع جيد أيضاً عن دور الثقافة في الإنجاز الاقتصادي للجماعات العرقية. وسبيلنا أن نلجأ إلى التراثات الصغرى، والثقافات المتمايزة لمجتمع تجاري ومجتمع مشروعات.

ذو صلة