من شباك الفرن لمحتها.
تجلس تحت الجميزة المقابلة كملاك صغير، تنقر بفرشاة اسودت شعيراتها على صندوق أمامها، تنبه المارين من أمامها لعل أحدهم يستجيب فيلمع حذاءه!
الناس يأخذون خبزهم ويسرعون الخطى بدون التفات..
الوباء اللعين أخلى الشوارع، سرق الوقت، وملأ النفوس بالخوف.
عندما أنهيت توزيع الخبز كانت تضع يدها الصغيرة على وجنتيها وصفار ضربهما من شدة التعب وربما الجوع، لم تبرح مكانها منذ رأيتها، ربما خشية أن يسرق صندوقها أو أن تفقد زبوناً محتملاً، لم تفقد الأمل برغم خلو المكان تقريباً.
هاجس في صدري مخيف حدثني بأن مصير فرحة ابنتي سيكون مثل هذه الصغيرة لو حدث لي شيء -لا قدر الله- كانت في نفس سنها وحجمها وملامحها الملائكية الشاحبة.
وضعت نصف نصيبي من الخبز في كيس وذهبت إليها: فرحة يا ابنتي خذي هذا.
ناديتها فرحة لا شعورياً، ترددت، كسرت عينيها في خجل، زاد من اصفرار وجهها، لحست شفتيها بلسانها، ثم أحنت رأسها.
(يا ربي نفس تعابيرها، نفس تصرفاتها، يا رب احمها لي واحمني لها يا رب).
سألتها عن طريق بيتها فأشارت لي بيدها الصغيرة، عرضت عليها أن أحمل لها صندوقها لأقرب مكان من بيتها.
في الطريق روت لي أن والدها أقعده المرض والحزن لما صار يعود إلى البيت بلا نقود لقلة الزبائن، فالمقاهي حيث كان يتردد لالتقاط رزقه أغلقت، والتجمعات منعت والناس لم تعد تخرج من بيوتها.
تركت مع الصغيرة قطعة من قلبي، كان الهم يسيطر على أفكاري، طريقة حديثها مشيتها تعبها وهي تضع الصندوق الثقيل على كتفها خلفت ندبة على فؤادي وغشاوة في عيني.
احتضنت بناتي الثلاث بقسوة بمجرد وصولي للبيت.
حاولن التملص مني كدت أخنقهن.
قصصت عليهن قصة الطفلة فرحة أصغت إحداهن باهتمام، لحست شفتيها بلسانها وغابت في تفكير عميق.
اقتربت مني وأنا أشرب الشاي، التصقت بي: بابا أريد مساعدة البنت فرحة؟
أتمنى ذلك ولكن ضيق الحال لم تمهلني.
بابا عندي مشروع لا يكلف كثيراً ومربح.
نظرت لها متعجباً، كانت متلهفة، سعيدة كأنها اكتشفت الخميرة.
سأعمل معها، نتشارك أنا وهي ما رأيك؟
وضعت ذراعها حول عنقي، قبلتني لتضمن استسلامي للحل يا الله على البنات ما أجملهن، ما أحلى عشرتهن، حنونات، يغزون القلب بلا جهد.
ما مشروعك؟ بادلتها القبلات وهي تضحك، لأن ذقني تدغدغها.
أحضرت قطعة ورق مقوى مربعة، خططت عليها بألوان طفولتها عبارة: ممنوع الاقتراب من شباك الفرن إلا بالكمامة.
سنبيع كمامات!
انفطرت عيناي بالدموع وأنا أرى فرحتيّ ترفرفان بخفة كفراشتين جميلتين بين زبائن المخبز، واحدة تقبض وأخرى تسلم الكمامة، وأنا خلف بيت النار في انتظار نصيبي من الخبز حتى نقتسمه كالعادة.