مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

الخيبة بوصفها نجاحاً.. قراءة في فيلم (حد الطار)

ما الرابط بين العشق والخيبة؟ لماذا احتفظ التاريخ بأسماء عشاق لم يظفروا بمعشوقاتهم، وضنَّ علينا بمن اقترن بمحبوبته؟! وكأن نصيب المحبين، إما سعادة في الحب تنسيهم، أو شقاوة تضمن لهم مكانة في التاريخ والمرويات.
من لا يعرف قيس بن الملوح؟! حتى من لا يعرفه باسم والده، سيذكره بوصفه العاشق، فحسبه اقتران اسمه بليلى وإن لم يقترن بها، بل وزاده فخراً أن يختفي اسمه ويتوارى، ويتم وصفه بالمجنون، فعلى هذا اتفق العشاق الخائبون عبر العصور، وفي كل الأمصار:
قَضى اللَه بالمَعروف منها لِغَيرِنا               وَبِالشَوقِ مِنّي وَالغَرامِ قضى ليا
فالحب باقٍ، وما دام كذلك، فالخيبة أقرب إليه من الفوز، وما دامت الخيبات تتوالى، فالنسج على منوالها أبلغ، لأن ترداد الخيبة وروايتها أولى من أحلام لا تتحقق! وهذا ما امتاز به فيلم (حد الطار) الذي لعب على المتنافرات، حين جعل من اللون الأبيض وسط لوحة سوداء سمة ومزية، فالأبيض أجمل ما يكون وسط السواد، وكذلك الأسود وسط البياض، فالشامة -وهي سوداء- تظل من علامات الجمال، وأي جمال؟!
تغنى بها الشعراء عبر التاريخ، ولا يزالون، وخصَّ نزار قباني الشامة بالسلام، فقال:
(سلام على شامة في ذراعك
تغفو كحبة هال!)
فكيف بهذه الشامة السمراء حين تعبق بأزكى العطور، وتحل في مكان آخر؟! وتكون اسماً لبطلة الفيلم.
سواد البياض/ بياض السواد
يجمع فيلم (حد الطار) من العتبة: (العنوان، البوستر) ثنائيات تتطلب قليلاً من التأمل، تكتسب مفردة (حد) تعريفها بالإضافة إلى (الطار) المعرفة بـ(أل) التعريف، ومع هذه الثنائية في التعريف، إلا أن المعنى يظل حائراً، وبخاصة عندما لا يحمل (بوستر) الفيلم وصورته سوى (بدرية) أم شامة وهي تخيط الطار الذي عاف حده الدائري، وتشكل في صورة قلب!
يخفي (البوستر) بطلي الفيلم فيصل الدوخي الذي يجسد شخصية (دايل)، وأضوى التي تجسد شخصية (شامة)، ولذلك ينحاز إلى أسرة الطقاقة منذ التعريف بالطار، وتنكير الحد، فيحار المعنى هل هو بلوغ الطار إلى أقصى ما يستطيع؟ فمن معاني الحد منتهى وأقصى الشيء، غير أن البوستر يواري معنى لا يريد إيضاحه منذ البوستر، بينما لا يتجاهله، فهو يكتب باللون الأبيض على خلفية سوداء، وهذا ما يدعوك إلى مطاردة سواد الليل الذي يحتضن مهنة الطقاقة، وبياض الصبح الذي يحتضن مهنة السياف ولمعان النصل، ويؤكد على السيف في حرف الراء من رسم أيقونة الفيلم بالخط العربي في آخر حرف، ويكفي حرف الراء أنه يحمل صفات متقابلة ما بين الجهر قوةً، والترقيق ضعفاً، وتأثره بمكانه من الكلمة، وهنا يأتي في الآخر، لذلك ستظل مطاردة المعنى حتى آخر الفيلم، محاولاً استكناه المعنى الذي يأتي متأخراً أحياناً.
السيف أصدق
يبدأ الفيلم بقراءة القاضي للحكم بتنفيذ القصاص بالجاني (سرور)، ويقفز صوب عرس تؤدي فيه بدرية وصلتها الغنائية، وكأن السيف يبتر حبل صوتها فلا يصل منساباً للجمهور، ويظل السيف حاضراً/غائباً، فالحد الفاصل ما بين الرجال والنساء في الأفراح، يقضي بعدم السماح للرجل بالاقتراب من أماكن النساء، فضلاً عن دخول هذا الرجل الغريب إلى بيت العرس، ولو كان حضور الرجل من وراء حجاب في غرفة منزوية، للعزف على آلة (الأورج) اضطراراً لعدم وجود من يعزف على تلك الآلة من النساء آنذاك، ولذلك يحضر السيف بصورة حاسمة، متمثلاً بطرد العازف عندما ينكشف أمره، بل ويطال فعل الطرد الفرقة بأكملها وإقصاء وسيلة البهجة المتمثلة في العزف، وطرد سبيلها من الفرح، بل وتمادي الصبية لمطاردتهم حفاة، وكسر زجاج السيارة.
خيانة الورق
أخفت الورقة ما اقترفه الحجر، عندما ضمد جرح الزجاج بورقة كتب عليها (للبيع)، وتكفي هذه الورقة للتعبير عمَّا تعانيه هذه الأسرة من مشقة لإسعاد الآخرين ومشاركة أفراحهم، تغني وتبارك (عليك سعيد يا نور حيه) بينما تخفي أحزانها، وتضمدها بسرور تبديه، بدرية التي تغني في الفرح، هي ذاتها التي تعمل من أجل جمع دية لتخليص ابن أختها (سرور) المهدد بالقصاص!
جاء الورق إما مخفياً كما في تلك الورقة التي رقعت ثقب الزجاجة، أو متخفياً حين كان وسيلة التراسل بين دايل وشامة، مدسوساً في عنق الدمية التي لم تسلم على لونها، فهي دخيلة ببياضها على سواد وجب عليها أن ترضخ له، وضريبة ذلك أن يتلطخ وجهها بالسواد أسوة بمن حولها، وظل الورق وسيلة لنقل مشاعر دايل لشامة، وضريبة وصوله بذل دايل من ماله قيمة دمية تقوم مقام حصان طروادة، لتدخل منزل شامة، وتخرج ما بداخلها من ورق يبلغها محبته، وتكون ميعاداً للقاء يجمعهما على سطح المنزل، في رحلة تسجل ذكاء دايل واختباءه من أخيها بأخيها، فالوهم بالورقة التي ينفحها لأخيها لتضليل جمعان شقيق سماهر، ما هي إلا وسيلة لتضليله.
فضة الكلام.. وذهب السكوت
يرسل فيصل الدوخي رسالته الأخيرة لشامة، ويقرأ نص الرسالة التي كانت خاتمة الفيلم ورسالته، أتفهم كثيراً هذه القفلة التي برَّر لها عبدالعزيز الشلاحي ببذر تلك الرسائل منذ البداية في النص، غير أنه كان من الممكن أن يترك مساحة للمتلقي أن يتكهن نص الرسالة، أن يشاركه الكتابة، أن يعبّر بما يريد ما دام أسَّسَ للأمر في أحداث الفيلم، بمساهمة العاشق عندما أخرج منافسه على حب شامة، وزواجها من ابن خالتها التي تحب، ورحيل العاشق الذي فضّل سعادة حبيبته على زواجه منها منذ الدرس الذي تعلمه من عمه: يا تحب، يا تتزوج! لذلك قَدَّم الحب على الزواج، وهذا ما سيصل للمشاهد دون إملاءات، فقدر من الصمت يترجم كثيراً من الحوار، وهذا ما فعله مارلون براندو في فيلم The young Lions عندما أوجز مشهداً مكتوباً في ثلاث صفحات تتطلب حواراً مطولاً متخذاً قراراه بالعودة إلى الجيش وهو ينظر إلى دمية صغيرة تضاء بحرارة شمعة وهي تدور وتصدر ضجيجاً، دون أن ينطق، فمن تشاركه المشهد ستعرف ذلك، وهو يعرف ذلك، والجمهور سيعرف ذلك، وختم كلامه:(حين أذهب إلى الفراش، سيعرف الجمهور أنها المرة الأخيرة.. لا يتعين عليك أن تقول أي شيء)، وكان على دايل أن لا يقول شيئاً ما دام أرسل رسالته، وحزم متاعه راحلاً عن سعاف.
الماء القبيح الجميل
صورة الماء من أجمل الصور، لعبت عليها السينما من وقت مبكر، فمنذ فيلم المخرج الأمريكي رالف شتاينر H2o عام 1929 الذي جعل من الماء بطلاً في 12 دقيقة، وصورة الماء تلعب دوراً تعبيرياً، وقد وظف الشلاحي الماء في ثنائية توهم وتكشف في آن واحد، فوهم الجمال ليس على إطلاقه، لأن تكوين الصورة، وهي تنقل جمالية الماء، وانعكاس الصورة في ثناياها، ما هي إلا بطانة لقبح متوارٍ، فالماء في الشارع قبح غير مبرر، صورة تجسد خيبة الماء في تحقيق تطلعاته، فكل قطرة ماء تحلم أن تكون جزءاً من نهر، سبباً في حلم شجرة بثمرة، أما وفي تلك الصورة عندما تكون بقعة في شارع، فلا رجاء لنبت يخرج! ولا سبيل لعودته ثانية في رحلة قطرة الماء من المحيط للسحاب، لذلك كان ضرر الماء في تلك الصورة أبلغ من نفعه، وهنا يكمن ما يستحق الكشف، ومحاولة القفز وتجاوز ما أصبح وسيلة للتلطيخ بدلاً من الغسل والتنظيف، الماء عندما يكون في الوقت والمكان الخطأ، أشبه ما يكون بدايل العاشق للمرأة الخطأ، فهو الوافد في غير مكانه، ويجب عليه أن يحزم أمره، ويتخذ قراره، فهل يفعل؟
لا يصح إلا الصحيح
الحب لا يقبل القسمة على اثنين، ولذلك اتخذت شامة قرارها، ضحَّت بكل شيء من أجل من تحب، حتى أن تقبل بوهم القرب من دايل لأجل المساعدة في إخراج حبيبها من السجن، أن تعيش بقرب أبدان لا قلوب، وهذا ما لم يعلمه دايل الذي أحب شامة بنت الطقاقة، وأراد أن يضحي بكل شيء: الزهد في وظيفته، التفريط في سمعته، الانسلاخ من عائلته، كل ذلك من أجل شامة، ولكن لحظة إدراكه لحقيقة شامة، وحبها لسرور، انقلب كل شيء، عاد ليمتهن مهنة السياف، وانتقل الفيلم إلى مرحلة من التصعيد الجميل عند القرب من النهاية صوب أغنية طلال التي حضرت في ذاكرتي لحظتها، ولم تحضر في الفيلم: (من هو حبيبك غايتي بس أهنيه.. على حسن حظه عشانه حبيبك).
إنها مرحلة التصالح مع الجرح، القبول بالخيبة عندما تكون قمة النجاح، والرضا بسعادة من يحب، والإقدام على خطوة ربما يتم وصفها باللا منطقية أو الجنون، وكما يرى نيتشه في الحب بعض الجنون: يَجِدُ المنطق في ذلك الجنون! لذلك حسم دايل أمره وقبل بحكمة عمه متأخراً: (يا تحب، يا تتزوج؟!) فرضي بالأولى دون الثانية ولو كانت بين يديه بمكالمتها الأخيرة له، فأن يبقي على حبها في قلبه، خير من أن يفقده وهي بين يديه.

ذو صلة