تتخذ العناصر التاريخية والجمالية بُعدها الدرامي الشغوف بأسلوب الحياة في القرن الثامن عشر، ضمن مسلسل (طباخة كاستامار) La cocinera de castamar الذي يُعرض على شاشة نتفليكس، وبمتابعة جماهيرية كبيرة جداً. إذ تبدو قصة المسلسل حقيقية تاريخياً، وهو مقتبس من رواية تحمل الاسم نفسه للروائي الإسباني (فرناندو ج.مونييز) الذي استطاع إثارة اهتمام كتاب السيناريو لما تحمله من خيوط رومانسية وتاريخية ممزوجة بثقافة المطبخ الإسباني، والمؤمرات السياسية، ولا سيما أثناء تولي (فيليب الخامس) الحكم، مع الاهتمام بالكثير من الخيانات التي وقعت في كاستامار.
فالأزياء الفخمة والأمكنة التاريخية ساعدت في منح المسلسل رؤية مختلفة عن الأدب الإسباني، وتطلعاته الدرامية، وإن ابتعد في كثير من الأحيان عن وحدة الموضوع. إلا أنه اقتحم شاشات نتفليكس بمسلسل نافس (LA casa De Papel) من حيث عدد المتابعات الجماهيرية له. فهو يتحدث من خلال كلارا بيلمونتي (ميشيل جينز) ابنة الطبيب المرموق المتهم بالخيانة، وبقتل عقيد أثناء الحرب، كما كانت تعتقد هي، قبل أن تكتشف أنه بريء وسيعدم لاحقاً. وهي شابة جميلة، كانت تعيش في أمان؛ قبل وقوع الاحتلال الفرنسي لإسبانيا، وصدمتها من الفقر الذي وقعت فيه وهي مصابة بفوبيا الخروج إلى الضوء. فتدخل من خلال بعض الرهبان إلى مطبخ الدوق النبيل (دييغو كاستامار) (روبرتو أنريكيز) دوق كاستامار ودوق إسبانيا كلها، وهو اليد اليمنى للملك فيليب الخامس الذي تسحره بمأكولاتها وسلوكها النبيل، وهو الذي ابتعد عن النساء بعد موت زوجته ألبا. إذ تقول: (يتزيف الوقت ليدع المرء يتذوق كل طبق. وكلمة مذاق لها معنيان، فيمكنك تذوق طعمها أو الاستمتاع بها. أن تطهو وأن تتشارك وأن تنقل وأن تفك رموز الوصفات وتحولها؛ إلى أن تجد ما هو مهم للمكون الرئيس الفريد من نوعه لكل طبق. ولكل واحد منا ذلك الشيء الذي يجعلنا مميزين، الشيء الذي نحتاج إليه لنعرف: من نحن؟ وماذا سنصبح؟). فهل حافظ طباخة كاستامار على وحدة الموضوع؟ أم أن إخراج إيناكي بينافيل ونوربيرتو لوبيز أمادو منح المسلسل جمالية فنية تفاعلية امتازت بالتشويق البصري؟
أصر المؤلف الروائي وكاتب السيناريو من بعده على إظهار أطروحات تذوق الطعام الإسباني وأهميته في القرن السابع عشر. فتيارات المأكولات في إسبانيا عكست لحظات الدمج بين: المطبخ الإسباني الحار والتقليدي، وبين الأطباق المتأثرة بالفرنسية، وفترة حكم الملك فيليب الخامس. فالحرب التذوقية بين قصر فرساي مع فيليب الخامس ومطبخ كاستامار أو المطبخ الإسباني برز في المسلسل بوضوح من خلال صنع عجينة السكر مع الدوق وكلارا، وكيفية النجاح بصنعها لتقديمها في حفل سيوجد فيه فيليب الخامس، من خلال فن المطبخ والمعجنات والبسكويت والتعليب الذي نشره في عام 1611 فرانسيسكو مارتينيز مونتنيو، رئيس المطابخ لمدة أربعة وثلاثين عاماً، من فترة فيليب الثاني إلى فيليب السادس، حيث تم جمع الكثير من الوصفات في كتاب أشار إليه المؤلف من خلال كلارا طباخة كاستامار التي خلطت بين الوصفات الشعبية من خلال ابنة القاتل في نهاية المسلسل، وبين وصفاتها المخصصة للنبلاء، خصوصاً عجينة السكر التي اشتهرت بها كلارا في القصر، والمؤرخة في كتاب أصدرته قبيل خروجها من قلعة كاستامار بعد الصراع الكبير بين الشخصيات المتعطشة للخداع وللمؤامرات وللانتقام الذي يتبدد تدريجياً في كل حلقة من مسلسل أعطى للبطلة معنى درامياً للمرأة الإسبانية ودورها في حرب الخلافة من 1701 إلى 1714 وحتى 1720. فهل تسلل الأدب الإسباني على شاشات نتفليكس من خلال طباخة كاستامار؟ وهل من تشابه بين الكتابة السينمائية والكتابة الأدبية؟ أم أن فرناندو وضع المشاهد قيد التنفيذ كتابياً قبل أن يترجمها المخرج بفن حسي انسجمت معه كافة المكونات الإخراجية سينمائياً؟
(أحياناً لا يكون الفهم كافياً، فيتوجب علينا أن نؤمن، رغم أننا نضع ثقتنا في الأشخاص الخطأ، وعندما يحدث ذلك؛ فإن الأمر الوحيد الذي يمكننا فعله هو أن نفهم كي نبدأ الإيمان مجدداً، وبعدها يبدأ اللغز من جديد). فالمفاهيم المعرفية المستنتجة من خلال حياة طباخة اختبرت الحياة بمكوناتها البشرية، كما اختبرت الطعام بمكوناته التذوقية؛ هي حكمة استخرجها الكاتب، لتكون مطعمة بمختلف الطبقات الاجتماعية ورموزها المتقلبة بين الشر والخير، والانتقام والتسامح، والحب والكره، حيث تدور الأحداث في شبه الجزيرة الأيبيرية في القرن الثامن عشر، وضمن ما تمثله المرأة من خلال الطباخة المثقفة والقوية بقوة الرجل الدوق دييغو الذي عشقته، وهذا أحد أكثر الأشياء التي تلفت الانتباه إلى القرن الثامن عشر في إسبانيا، ألا وهو المجتمع الذي يحتاج إلى قوة فكرية لإحداث تغيير مجتمعي وسياسي للبعد عن ما تشكله فرنسا في تلك الفترة، وإلغاء الطبقات أو الأحرى التنازل عن الكثير للحصول على ما نريد في عصر اتسم بالدوقية والنبلاء والتخلي عن الصراعات التي تأكل من حياتنا الكثير. فهل يمكن أن تتغير لغة الحب من خلال الخيوط الرومانسية في دراما ارتكزت على إظهار التراث الإسباني بكل مقوماته، قبل أن يتأثر بالفترة الفرنسية فيه؟ أم أن الإشكالية التاريخية للواقع السياسي في طباخة كاستامار تناغم مع الرومانسية المطلقة لقصة الحب بين الدوق والطباخة؟
نهج اختزالي حصر العلاقة بين الرواية والسيناريو، أو الأحرى بين قدرة الإخراج على ترجمة رؤية الكاتب من خلال المشاهد المفتوحة على ما هو قديم وتراثي من المفارش إلى الأزياء، وصولاً إلى كيفية الطبخ في المحافل الإسبانية والموسيقى والمؤدي الأوبرالي فارنيللي الإسباني الذي دخل عصر الأوبرا في المحافل الملكية، والتحضير للمناسبات التي كانت تحدث في قلعة كاستامار، وهي نقطة ذات صلة مباشرة بالقصر الرئيس. فالاهتمام بمختلف الأشكال الجمالية في المشهد الواحد نجح لإثارة البصر، وترك بصمة أدبية وسينمائية اشترك بها المؤلف الروائي والمخرج بعيداً عن كاتب السيناريو وقدرته في إيجاد حلقة وصل بينهما. فربط الشخصيات مع كلارا ودييغو، وهما الحبكة التي قامت عليها فكرة النص أو المسلسل لإظهار فترة إسبانية خام، قبل أن يبدأ التأثر الإسباني بالوجود الفرنسي، والسمة الأساسية التي تحدد المعنى الدرامي لحبكة إخراجية؛ توازي الحبكة الروائية، من أجل تحقيق المتانة في الهيكل الإخراجي، والتكوين السردي الذي اعتمد على التسلسل في إظهار ما هو متوافق مع الشخوص، والديناميكية التي امتاز بها كل منهم. فهل التآزر التمثيلي في المسلسل هو ما منحه قوة درامية حركية، بمعنى ترجمة تفاعلية بين الشخوص وديناميكية المكائد التي فككتها العلاقة الرومانسية وأبعادها العاطفية؟ أم أن فترة فيليب الخامس هي الفترة التي بدأت تتغير معها الحياة في إسبانيا؟ وهل المطبخ الفرنسي تواءم مع المطبخ الإسباني؛ بينما استمر الخلاف والنزاع بينهما؟ أم أن التخلي عن الدوقية كان يمثل الخروج الإسباني من حقبة ودخوله حقبة مختلفة؟
يبدو من المثير للاهتمام الحديث عن الأدب الروائي الذي عاد ليكتسح سينمائياً الكثير من الأعمال، مثل: مسلسل (راتشيد)، وهو مأخوذ عن رواية (كين كيسي) بعنوان (طيران فوق عش الوقواق). ومستشفى الأمراض العصبية لفترة زمنية في أمريكا. ورواية الإسباني فرناندو ج.مونييز الذي ولد في مدريد عام 1972، ونجح في إثارة القارئ والمنتج لمسلسل طباخة كاستامار، باسترجاع إيجازي لتاريخ مفهوم الرومانسية في الأعمال الأدبية قبل السينمائية، لحبكة تعود أصولها إلى فترة مهمة من أجل فهم تطور المرأة الإسبانية التي تمثلت بكلارا ووعيها وثقافتها، وديناميكيتها في تقبل الواقع والإيمان بالقدر المترسخ بقوة بسلوكياتها القائمة على النبل الأخلاقي الذي فقدته إسبانيا في فترة حكم الملك فيليب الخامس. فسعي المرء للانتماء إلى عالم دخل إليه مجدداً؛ هو أصعب من الولادة في بيئة خذلته، فدلالات الأفعال لا تعني تجاهل الطرق التي قدمتها سول وهي المرأة التي تعرضت لرجل متسلط وعاقبته بالقتل بعيداً عن البيئة المخملية التي عاشت فيها، وانسلخت عنها كلار بلمونتي، إنها إشارات إلى التاريخ والتناقض بينه وبين العصر الحديث من خلال الأشكال المختلفة معيشياً، ولكنه إنسانيا ما زال يحمل القيم الإنسانية ذاتها والرومانسية القادرة على تحمل الصعاب وتذليلها لتبقى الحياة بطعمها التناقضي هي الرسالة الحقيقية للمجتمعات بأسرها، والإنسان هو الإنسان في مدريد أو فرنسا أو أي دولة أخرى. فهل استطاعت طباخة كاستامار أن تتحدى العصر الحديث سينمائياً وروائياً بما تحمله من رؤية حقيقية للإنسان في كل زمان ومكان؟ أم أن الرومانسية طغت على وحدة الموضوع الدرامي وانتشلته من الضعف؟