مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

مطاردة

الصمت يُطبق على المكان، الشوارع خالية تماماً، تبدو البيوت والعمارات هياكل عملاقة تثير الرهبة في النفس، أصوات خافتة تأتي من بعيد، سرعان ما تتلاشى، أضواء الشوارع شاحبة ذابلة تصارع من أجل البقاء، ينوس بعضها ثم يعود بوهن. الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، لأول مرة في حياتي أضطر للتأخر إلى هذا الوقت، بسبب حضور حفلة لزميل في العمل، لم أكن راغباً في الحضور، ولست من هواة الحفلات والمناسبات الاجتماعية، ولكن وقعت في فخ الزملاء وتعليقاتهم الساخرة، وغمزهم ولمزهم، واتهاماتهم المبطنة، وتشكيكهم بأني إنسان مريض نفسياً، وربما شاذ غير سوي، فشاركت معهم، ويا ليتني لم أفعل، ولم أستطع المغادرة مبكراً، فمن المشين أن أكون أول من يغادر، وأنا الذي أعيش وحيداً، (لا سائل ولا مسؤول).
كنت أستعيد شريط الحفلة من بداياتها، وأستعرض سخافاتها وتفاهاتها وعبثيتها، عندما سمعت صوت خطوات من خلفي، جفلت وخفت، ولكن سرعان ما استعدت توازني، فهذا شارع عام، ولست وحيداً، ومن المؤكد أنه يوجد من تأخر في العودة إلى بيته لسبب أو آخر. تابعت السير، فتتابعت الخطوات من خلفي. توقفت، والتفت، فلم أر أحداً، ولم أسمع شيئاً. قلت في نفسي، لعله سلك طريقاً آخر، أو وصل إلى بيته. تابعت سيري، وعادت الخطوات من خلفي، تسلل الخوف إلى نفسي، وواصلت خطواتي. لم أجرؤ على النظر خلفي، تجنباً لأي مفاجأة، أو حدث غير متوقع. خطواتي تطرق الشارع، والخطوات من خلفي تطرق رأسي فتزيد من خوفي.
في خطوة سريعة لم أخطط لها، التجأت إلى زاوية مخفية، لأتيح المجال لمن خلفي أن يتجاوزني، وأخذت أتلصص، ولكن، لا أحد، لا خطوات، لا صوت. وخيَّم الصمت المشبع بالخوف. تجرأت وأكملت طريقي، وعادت الخطوات من خلفي كلطمات على رأسي، أصابني الذعر وأسرعت في المسير، ركضت، وأسرعت الخطوات من خلفي تلاحقني. لم يعد لدي أي شك أني المقصود بالمطاردة، ودبَّ الذعر في نفسي، وأنا أتوقع أن يمسك بي في أي لحظة، ليقتلني أو يطعنني على أقل تقدير. المسافة إلى بيتي لا تزيد عن مئتي متر، ولكني أراها مئتي كيلو متر. تتراءى لي خيالات، أشباح تمر بسرعة خاطفة من أمامي ومن حولي، فتزيد من رعبي ومن ركضي.
عندما دخلت الشارع الفرعي المفضي إلى بيتي، توقفت الخطوات من خلفي، فعدت للمشي وقلبي يرتجف، فربما يترصدني من زاوية ما ليعرف البيت، ثم ينفذ جريمته بصمت. اجتزت مدخل العمارة وأنا أتلفت يميناً وشمالاً، صعدت الدرجات بصعوبة وكدت أتعثر، فالخوف أصاب قدمي بالشلل. دخلت شقتي بعد عناء وتلبك في فتح الباب، أغلقته، وسقطت على ركبتيَّ من الهلع، أترقب ما سيحدث، ولا شك عندي أنها النهاية، أن أموت وحدي دون أن يدري بي أحد.
في محاولة يائسة لتأخير ما ليس منه بد، سحبت بوهن مكتباً معدنياً ووضعته خلف الباب لمزيد من المقاومة، ووضعت فوقه حقيبة ملابس ثقيلة. أغلقت النوافذ بإحكام، وأسدلت الستائر جيداً، وأطفأت الأنوار، علّه يظن أن لا أحد في البيت. سمعت صوتاً يعدو على الدرجات، فتوقف قلبي، لكني أدركت أنها قطة، ربما تلاحق فأراً. من طرف إحدى الستائر، أخذت أتلصص فلم أر شيئاً، تفقدت كل الأطراف الممكنة؛ (لا أحد، لا حركة، لا صوت، لا شيء).
الخوف يتلبسني، يمنعني من النوم أو حتى التفكير فيه، بقيت أتنقل دون صوت داخل الشقة، أتنصت عند الباب، عند كل نافذة، أترقب أي صوت، أنتظر قدري، وأخذت أفكر في سبب هذه الملاحقة الشرسة، هل يمكن أن يكون أحد زملاء العمل، لأني وشيت مضطراً غيابه عند المدير؟ ربما يكون أخي، ولكن لماذا، وقد تنازلت له عن كل شيء مقابل أن يترك لي هذه الشقة، ربما يطمع في هذه الشقة أيضاً؟ أيعقل أن يكون صاحب الكلب الذي زجرته بقدمي قبل أسبوع، عندما ظننت أن سيعضني، وعوى حزيناً متألماً؟ هل يلاحقني صاحبه لأني جرحت قلب كلبه وكسرت خاطره؟ هل يمكن أن أكون ملاحقاً أمنياً؟ مستحيل، فأنا لا علاقة لي بشيء، ولا أفقه بالسياسة والأحزاب والجماعات، بل وأبتعد وأقاطع كل من له علاقة بها. لا أحمل أي فكر أو أيديولوجيا، ولست صاحب موقف أو رأي، لم أعتصم يوماً أو أتظاهر أو أتوقف عن العمل، بل لم أحتج على زحام الشوارع، وسوء الطرق، وصعوبة المواصلات، وغلاء الأسعار، وقلة الأدب، وارتفاع المهور. لم أؤمن يوماً بوجود فساد أو استغلال مناصب أو سرقات مقوننة، فهذه كلها ترهات حساد حقودين لا أكثر.
لا يوجد في حياتي ما يبرر هذه الملاحقة بعد منتصف الليل، فكرت أن أتصل بالشرطة، لكني أخاف، أخاف حتى من الحديث مع أي شرطي، ولن أجرؤ على الاتصال، وحتى لو جرؤت، ماذا سأقول؟ فقد سمعت خطوات، ولكن لم أر شيئاً. قد تكون خطوات كلب أو حمار أو حتى خطوات رجل عابر استأنس بي ومشى خلفي.
تاقت نفسي لفنجان قهوة، علّه يساعدني على التخفيف من مأساتي، وزيادة مقاومتي للحصار الذي يضغط على أعصابي، ولكن خشيت أن يصدر صوت يثير انتباه المترصد، ويدفعه لمهاجمتي، فكتمت رغبتي الجامحة، واكتفيت بجرعات من الماء، غُصّ بها حلقي.
غفوت لحظات متقطعة، حتى ابتدأ نهار جديد، ولا بد أن أذهب إلى العمل، ولكن الخوف ما زال يتملكني. طمأنت نفسي أخيراً، أنه من المستحيل أن يتجرأ عليّ وسط الشوارع الممتلئة بالمارة، وبالنسبة للدرج، فقد قررت أن أترقب نزول أحد الجيران، وأخرج من الشقة كأني برفقته.
وصلت مقر عملي متأخراً على غير العادة، وسط سخرية بعض الزملاء، وتعليقاتهم اللاذعة. جلست إلى مكتبي، ثم هرعت إلى مكتب المدير إثر استدعائي بسرعة. نظر إليّ باستغراب وفضول، ثم قال: هل حدث لك شيء؟ هل مات أحد من أهلك؟ هززت رأسي بالنفي. قال: ولم هذه الحال إذاً؟ سألت مستغرباً: أي حال؟ فقال: كأنك لم تنظر إلى نفسك في المرآة؟ ملابسك مجعدة، شعرك غير مسرح، حذاؤك مغبر، وجهك شاحب، عيونك محمرة، نظراتك زائغة، خطواتك واهنة. ما بالك؟ ماذا جرى لك؟ لست على طبيعتك؟ هل لحفلة الأمس علاقة بذلك؟
تذكرت أني لم أستبدل ملابسي، ولم أغسل وجهي، ولم أمشط شعري، ولم... فترنحت، وجلست على كرسي دون أن أطلب الإذن كما تعودت. استدعى المدير مراسلاً، وطلب كأس ماء لي وفنجان قهوة. وبعد أن فرغت تحسنت حالتي، ونظرات المدير تطالبني أن أفصح عما جرى لي.
بعد تردد، وتفكير، أغلقت الباب بعد أن استسمحته، وأخبرته بما جرى بالتفصيل راجياً منه أن لا يخبر أحداً بشيء، فزملائي لا يرحمون، وتعليقاتهم سياط لاذعة. بعد أن استمع المدير لحكايتي، نظر إليّ بحزن وقلق وتعاطف مشوب بالشفقة، وأخبرني أن الأمر مجرد وهم، وأن لا شيء مما يجول في ذهني، وأن أطمئن تماماً، وطلب مني أن أعود إلى البيت وأستريح جيداً.
شكرته على تفهمه، وغادرت الشركة وأنا أكاد أتعثر، وسط نظرات زملائي المستفهمة، وأنا أستغرب من تأكيد المدير أنه مجرد وهم، لا شيء، وما أدراه هو؟ أنا الضحية التي عانت لا هو؟ آه.. ربما كان هو من يلاحقني ويترصدني؟ ولكن، لماذا؟! لماذا؟!

ذو صلة