لم يكن الأستاذ أكرم محمود كاتباً مشهوراً، ورغم ذلك كان يظن نفسه أهم كاتب في الوطن العربي! وهذا ليس رأيي الشخصي، بل الحقيقة التي توصلت إليها بعد مراقبة طويلة للكاتب الوحيد في قريتنا (تل العقارب) التي تقع على هضبة تكثر فيها العقارب.
ورغم تجاوز الأستاذ أكرم العقد الخامس لم يكتب ديواناً من الشعر الغزلي، ربما لأنه لم يعش قصة حب تُسيل مداد يراعه بالكلمات اللطيفة. ولم يكتب رواية اجتماعية، ربما لأنه يجلس طوال اليوم بمفرده، ولم يطلع على تجارب حياتية تجعله يبتكر حبكة فريدة. بل لم يكتب قصصاً قصيرة وينشرها في المجلات الأدبية، لا شك لضعف مخيلته في هذا المجال. ومن الطبيعي أنه لم يكتب مسرحية لأنه لم يرتد المسرح ولو لمرة واحدة.
***
كان الأستاذ أكرم يكتفي بكتابة مقال أسبوعي في الجريدة الوحيدة في قريتنا، حيث ولد ويقيم، ولم تكن جريدة (العقرب) تصل إلى مركز المدينة التي تبعد عن القرية أقل من نصف ساعة في الحافلة التي تقل الموظفين إلى أعمالهم. وسبب تسمية الجريدة بهذا الاسم يعود إلى أن صاحبها أراد لجريدته أن تكون ناقدة ساخرة وتحمل اسماً قريباً من اسم القرية، ولم يتوقع أنه سيلقب بالأستاذ عقرب، وسينسى اسمه. ويبرر أهل القرية إطلاق هذا اللقب على رئيس التحرير لأنه يناسب طبعه، فهو يلسع خلسة ويتوارى عن الأنظار!
لن أبتعد عن الموضوع وسأحدثكم عن المقالات التي يكتبها الأستاذ أكرم، وهي لم تكن مقالات فكرية، أو فلسفية، أو أدبية، أو علمية؛ في حقيقة الأمر كان يكتب مقالات يصعب تصنيف نوعها، والسبب يعود إلى أن الأستاذ أكرم لا يعرف أصول كتابة المقالة! ويكتب على سجيته ما يخطر له، وبالبساطة نفسها التي يدخن فيها السجائر، أو يشرب فناجين القهوة، فعندما يعكف على الكتابة لا تنطفئ سيجارته، ولا يفرغ فنجانه، وهو جالس في غرفة تغطي جدرانها رفوف الكتب، ويبدو من نافذة غرفته، كلوحة في متحف!
وكان الأستاذ أكرم يدون كل ما يجول في رأسه، وأظن أن ما كان يخطر في رأسه لا يخطر في رأس أي شخص يعيش على الكرة الأرضية، ولهذا السبب قرر الأستاذ عقرب نشر مقالاته على سبيل التنويع في الجريدة، وليس اعترافاً بعبقريته، كما ظن الأستاذ أكرم!
- سوف نجرب لمدة شهر واحد رد فعل القراء.
- قد يكون قراء جريدتك من الأغبياء.
- الأغبياء هم من يدفعون ثمن الجريدة، لهذا علينا أخذ رأيهم على محمل الجد.
رد رئيس التحرير بمكره المعهود الذي جعل جريدته لا تتوقف عن الصدور منذ أكثر من عشر سنوات، رغم أنه لا يطبع من (العقرب) أكثر من ثلاثمئة وعشرين نسخة، وهذا عدد المنازل في القرية. فكلما بُني منزل يزور صاحبه مباركاً، ويطالب بالاشتراك السنوي ليوصل أبو عبدو نسخة الجريدة صباح كل يوم جمعة على دراجته. وإذا رفض صاحب المنزل الدفع يحدثه الأستاذ عقرب عن دور الجريدة في تخليد اسم البلدة في التاريخ، ثم يخرج دفتره من جيبه ويقول:
- لا عليك.. سوف أقسط مبلغ الاشتراك.
ويستسلم صاحب المنزل للأمر الواقع.
***
عندما رأى الأستاذ أكرم مقاله منشوراً في الصفحة الساخرة ركض إلى مقر الجريدة، وهو بناء من طابقين، يقيم في الطابق الثاني الأستاذ عقرب الذي كان يعيش حياة الكفاف بسبب تكاليف الطباعة، وكان ينفق عليها من ريع أرضه التي ورثها عن جده.
***
قذف الأستاذ أكرم الجريدة في وجه رئيس التحرير، وصاح معترضاً:
- لماذا نشرت مقالتي في الصفحة الساخرة، وليس في صفحة الثقافة؟!
- لا يقرأ الصفحة الثقافية إلا عدد محدود من المثقفين الطاعنين في السن، وهم في تناقص مع مرور السنوات. أما الصفحة الساخرة فيقرؤها الشيوخ، والشباب، والنساء، والأطفال، وحتى الذين لا يجيدون القراءة يطلبون من أحدهم قراءة المقال لهم.
ولم يوافق الأستاذ أكرم على نشر مقالاته في الصفحة الساخرة لاقتناعه بحجج رئيس التحرير، ولاذ بالصمت لتأكده من أن مقالاته لن تنشر في الصفحة الثقافية التي كان يكتب موادها الأستاذ عقرب معتمداً على النقل الحرفي من الكتب التي يقتنيها.
وفي حقيقة الأمر كان رئيس التحرير يكذب على الأستاذ أكرم، ولم يكن يعرف حينها أن هذا ما سوف يحدث بالفعل، وأن كل سكان البلدة سوف يقرؤون مقالاته من باب الفضول، أو التسلية!
وهنا لا بد من تأكيد أنه من المحال الإعجاب أو فهم مقالات الأستاذ أكرم، إذا لم يكن القارئ يعرفه شخصياً، أما إذا قرأها من لم يلتقِ به من قبل فسوف يلقي بالجريدة بعيداً وهو يتساءل مستنكراً:
- كيف يُنشر هذا الهراء في جريدة البلدة؟!
أما في البلدة فيوجد مشتركون لا يقرؤون إلا مقالات الأستاذ أكرم، ليس لأنه كاتب مثقف يكتب مقالات مفيدة، بل لأنه رجل غريب الأطوار، وتخطر في رأسه أفكار لا تخطر في رأس أي إنسان على وجه الأرض!
وأذكر من تلك الأفكار أنه درس في أحد مقالاته تأثير قشارة البطاطا على انتشار هذا الطبق، وأن صحن البطاطا المقلي يفتح الشهية، وهذا ما يزيد أعداد رواد المطاعم، وهذا ما يحرك العجلة الاقتصادية في العالم، رغم أن ثمن قشارة البطاطا زهيد!
ومرة كتب إن تربية الكلاب أو القطط في المنازل تمنع تفكك الأسرة؛ لأن الزوج أو الزوجة سوف ينشغل بالحيوان الأليف، وهذا سيشغله عن التحدث إلى شريكه في المنزل، ولهذا لن تتطور الكثير من أحاديثهم إلى شجارات قد تنتهي بالطلاق!
وليست كل مقالاته ذات بعد عالمي، بل بعضها له طابع محلي، فمرة كتب أن بقرات أبي ماجد أسهمت في ازدياد عدد طلاب الجامعة في القرية، والسبب أنه يبيع حليباً غير مغشوش، والتغذية الجيدة لتلاميذ المدارس رفعت المستوى العقلي لهم.
***
إذا قدمت إلى بلدتنا ورأيت إحدى السيدات تجلس في الشرفة وتضحك وهي تقرأ جريدة (العقرب) فهذا يعني أنها تقرأ مقالاً بقلم الأستاذ أكرم.
أما الرجال فكانوا يجلسون في المقهى ويثرثرون حتى يصل الحديث إلى آخر مقالات الأستاذ أكرم، وهذا غالباً ما كان يحدث، فيتطوع أحدهم لقراءة آخر مقالاته المنشورة، وكان كل رواد المقهى يغرقون في الضحك، وإن كان بعضهم قرأ المقال نفسه في المنزل قبل الحضور إلى المقهى.
***
في مقال آخر كتب الأستاذ أكرم إن انتشار الجرائد في المنازل يسهم في نظافتها، لاسيما نظافة النوافذ والطاولات، بافتراض أن القراء لا يحتفظون بالجريدة بعد قراءتها، بل يمسحون بها الأشياء المتسخة. ولم يكن هذا استنتاجه الوحيد، بل أكد أن الأغبياء يفعلون ذلك حصراً، كما أكد أن كل من في البلدة من الأغبياء؛ لأنه لم يجد قارئاً واحداً يحتفظ بالجريدة ليعيد قراءة مقالاته من وقت لآخر، وهذا الاتهام لم يغضب أي قارئ في بلدتنا، بل جعلهم يضحكون أكثر من المعتاد!
***
لا بد من القول إن الأستاذ أكرم يتجول في البلدة مساء كل يوم جمعة بعد توزيع الجريدة لعله يرى من يقرأ مقالاته فيسلم عليه ويدعوه إلى كوب من الشاي، أو فنجان قهوة. وكان الأستاذ أكرم يرفض الدعوة، ليس غروراً، وإن كان مغروراً بالفعل، بل ليتابع جولته التي لم يقطعها أسبوعاً واحداً، ولو نزل المطر، أو هبت العواصف! وتكون نهاية الجولة في مكتب رئيس التحرير الذي يقف على قدميه مرحباً:
- أهلاً بالأستاذ أكرم.. أهلا بالكاتب الكبير.