مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

بعض من الوجوه الغائبة

تسرّب الشيب إلى خصلات شعرها، كتسرّب الماء من بين الأصابع، تحاول إحكام قبضتك عليه إلا أنك لا تستطيع مهما كانت قوّتك، مكتفية بطيّه بشكل عشوائي دون اهتمام، لم تكن هذه من عاداتها، وهي التي طالما كانت ضفائرها تجتاح حدائق الكتفين وأغوار الظّهر، ولكنها كبقيّة البشر تتنازل برغبتها عن أشياء، وأخرى بغير رغبتها، يطوّقه رباطة قماشيّة ذات لون واحد، على أدق تعبير هو لون يميل كثيراً إلى الزّرقة أو السّواد، إلّا قليلاً من الشّعر يظهر أعلى جبهتها على استحياء، انحنت أكتافها تحت سترتها الثقيلة شتاءً، ترسم خطوط الزمن هالة سوداء أسفل الجفنين، تنفصل تماماً عن عالمها مكتفية بما تشاهده عبر شاشة التليفزيون، بينما يديها تتابع تشكيل وصناعة شراب صغير لوليدها الذي يلهو إلى جوارها، تحاول ترتيب جلستها مع اشتداد برد الشتاء، تسقط من يدها بكرة الخيط، تحاول قطّتها العبث واللعب بها وكأنها تحاول استكشاف كل مكان، تتشابك خيوطها بين أرجل الكراسي، حتى أنها وصلت إلى زوايا بعيدة في غرفة نومها، هي لا تريد الانفصال عن متابعة المسلسل، كما أنها لا تريد مزيداً من تشابك الخيوط، لا مفر إذاً من التوقف عن المشاهدة قليلاً، تحركت بخطوات ثقيلة هي الأخرى، وكأنها تجر أقدامها واحدة تلو الأخرى، لم تعد تطيق صبراً على محاولة فك الخيوط بسهولة ويسر، قليلاً منه أصبح بلا عُقد والكثير مازال عالقاً بأرجل الكراسي وسرير غُرفة النوم، جلست على ركبتيها، انحنت كثيراً تبحث عنه بين الزوايا، وإذا بها تصدم بصندوق خشبي صغير، أفرغت محتواه بدافع من الفضُول لعلّها نسيت ما بداخله أو هو نوع من البحث في الذكريات عن شيء يُعيد لها بعضاً من الوجوه الغائبة، اعتدلت في جلستها، تتربّع أرجلها واحدة داخل الأخرى، تتصفّح ما به (لفافات صغيرة، شهادة ميلاد طفل، سترتة مشغولة باليد من خيوط الكروشيه)، يبدو أنها تعثّرت عمداً في لحظات فقدانها لطفلها منذ زمن بعيد، تحشرج صوتها بالبكاء، تساقطت غزيرة دموعها، أغلقت الصّندوق، وراحت بيديها تمزّق خيوطاً تشابكت هُنا وهًناك، عادت والدموع مازالت تنساب على وجنتيها، استعادت جلستها تشاهد المسلسل، وكعادتها رغم مشاهدتها له أكثر من مرّة، تحاول استحضار بعض أحداثه، إلا أنها دائماً ما تفشل في ذلك وتقول: (يا ترى البطل أتجوّز مين؟).

ذو صلة