مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

فيلم قندهار.. وحكاية الراية الخضراء

قد يرى البعض في فيلم قندهار مجرد فيلم مغامرات على الطريقة الهوليوودية، بينما حقيقة الأمر هو أبعد من ذلك، خصوصاً حين نسلط الضوء وبشكل أعمق وموسع يستوعب كافة مفردات الحرفيات السينمائية التي تجلت وبوضوح في تلك التجربة السينمائية التي راحت ومنذ اللحظة الأولى تؤسس لمرحلة وتاريخ وتجربة.
المحور الدرامي لفيلم قندهار يرتكز على الحكاية التالية: حيث ينكشف غطاء عن عميل الاستخبارات الأمريكية ومرافقه المترجم خلال مهمة لهما في أفغانستان، عندها يتوجب على ذلك العميل السري في وكالة المخابرات المركزية، ومرافقه المترجم، البحث لإيجاد حلول وسبل للخروج من الصحراء والوصول إلى نقطة الحرية عبر تداخلات الأوضاع وتشابكاتها في أفغانستان وقندهار على وجه الخصوص. هكذا هو المتن الروائي الذي يأخذك في تجربة سينمائية مشبعة بالمغامرات والتفاصيل والوجوه والقضايا والمفجآت. وإن ظل الحاضر الأساس هو الصحراء بكل ثرائها واكتشافاتها التي عمقتها الحلول الإخراجية والمشاهدات البصرية التي ابتكرها مدير التصوير، والرحلات المتداخلة في الصحراء تارة عبر سيارات الدفع الرباعي وأخرى من خلال الدراجات النارية.. وغيرها، لتظل الصحراء البطل الحاضر في تلك التجربة السينمائية، والتي نتوقف أمامها بما يتجاوز الرؤية النقدية التحليلة الاعتيادية إلى النظر للتجربة من منظور إنتاجي واحترافي، يبحث في أدق التفاصيل، خصوصاً أن هذا العمل تم إنجازه من خلال تجربة تعاون دولي يجمع عدة شركات بريطانية وأمريكية وأيضاً سعودية، في مؤشر لانطلاق صناعة السينما في المملكة العربية السعودية بمعايير فنية إنتاجية عالمية الملامح.
ونعود إلى المتن الروائي، حيث يسافر عميل سري بالاستخبارات الأمريكية يدعى (توم هاريس) -جيرارد باتلر- برفقة مترجمه إلى أفغانستان (محمد) -نافيد نيجان- (من مواليد مشهد إيران)، من أجل تنفيذ عملية سرية، ولكنهما سرعان ما يهربان من القوات الخاصة هناك بعد فضح العملية، وتبدأ مهمتهما ومهمة وكالة الاستخبارات الأمريكية العمل على إنقاذهما من ذلك الجحيم الذي شرع على مصراعيه، في مغامرات وسط صحارى المنطقة وجبالها وهضابها.
السيناريو كتبه السيناريست الأمريكي ميشيل لافروتون الذي عاش الجزء الأكبر من حياته في الخدمة العسكرية، وبالذات في أفغانستان، لذا وضع أدق التفاصيل الخاصة بتلك المغامرة السينمائية، وبالذات معادلة الصحراء، خصوصاً حينما علم بأن الفيلم سيصور في مناطق العلا ونيوم.. وغيرها من المناطق السعودية الثرية بالتفاصيل والخصوصية.
والإخراج من توقيع ريك رومان الذي بدأ حياته (بديلاً في أفلام المغامرات والأكشن) وانتهي إلى إخراج وكتابة وتمثيل عدد من الأعمال السينمائية.
خلف الكاميرا مدير التصوير الأمريكي ماكجروجر الذي صور العديد من الأعمال السينمائية المتمحورة حول الصحراء، وهو أحد أهم مديري التصوير الذين يتعاملون مع ثيمة الصحراء، ولهذا نحن أمام تجربة استثنائية تستحضر الصحراء بطلاً حقيقياً وقيمة واكتشافاً، وهذا ما نلمسه في المشهد الأخير من الفيلم، فبعد نهاية الأحداث تعود الكاميرا مجدداً إلى الصحراء مع فجر جديد يلوح في الأفق، وهو أمر يتجاوز أحداث الفيلم إلى ما هو أبعد وأعمق، يتعلق بمكان التصوير والتبشير بميلاد جديد وزمن جديد لهذه الصحراء التي تبشر اليوم بميلاد حراك سينمائي عالمي مرتقب.
وقد يكون فيلم قندهار هو الفيلم الروائي الأول أو الثاني، ولكنه ينطلق حاملاً الراية للعالم، مؤشراً ومؤكداً بأننا أمام نقلة كبرى وميلاد حقيقي لصناعة سينمائية تلبي كافة الاحتياجات والتفاصيل.
خلال فيلم قندهار، وعدا المشاهد التي صورت في دبي والأردن؛ فإننا أمام مشهديات صورت في المملكة العربية السعودية، غطت القرى والصحارى والأرياف والأزقه والشوارع، وضمت أيضاً مغامرات وتفجيرات ومطاردات، وهنا نتوقف أمام تلك المغامرة التي ظلت تسير بخط متوازٍ مع الأحداث التي كانت تتم عبر الدراجة النارية مع النجم كحيل ناصر (ممثل وموديل هندي) والتي منحت المشاهد بعداً إضافياً للاستمتاع بعوالم الصحراء واكتشافها في بعد حتم استخدام زوايا وعدسات وحلول بصرية متعددة قادها مدير التصوير. عموماً ما أحوجنا أن نتجاوز الصيغ النقدية المباشرة للذهاب إلى معانٍ ودلالات هكذا تجربة حمّلت بالكثير من المضامين، ولمسنا حصادها بكثير من الوضوح الجلي، وهذا ما نراه مثلاً في طبيعة العلاقة التي جمعت عميل الاستخبارات (توم هاريس) والمترجم الأفغاني (محمد). وأيضاً موضوع (الأسرة)، حيث توم مشغول بالعودة إلى الديار من أجل حفل تخرج ابنته. بينما جاء (محمد) إلى أفغانستان من أجل البحث عن شقيقة زوجته. وهكذا الأمر بالنسبة للعميل الآخر الذي يضحي بنفسة من أجل الزمالة والصداقة وصولاً إلى القائد الذي يضحي بكل شيء حتى لو كانت النتيجة الطرد من أجل إنقاذ زميله العميل السري والمترجم. هذه الموضوعات والثيمات ما كان لها أن تتحقق لولا مكان التصوير وطبيعة العلاقة في الشراكة الإنتاجية.
ولعل المشهد الذي جمع بين المترجم (محمد) والعميل (توم)، حيث ينظر العميل بإعجاب واحترام كبيرين وهو يشاهد المترجم وهو يصلي في مشهد تم تصويره بعناية في الليل لمنح التجربة والدلالة بعداً إضافياً استثنائياً.
ونذهب إلى المعادلات الإنتاجية في تجربة قندهار، حيث يأتي هذا الفيلم نتيجة تعاون مشترك تقوده أستديوهات إم بي سي، مشيرين إلى أن قندهار تم إنجازه بعد تجربة فيلم محارب الصحراء (جمع كلاً من الأمريكي أنتوني ماكي والبريطانية أيشا هاريت والنجم القدير بن كنغيسلي والسوري غسان مسعود وإخراج روبرت ويات).
وكما أشرنا فإن تعاون أستديوهات إم بي سي جاء في كلتا التجربتين مع جي بي بكتشرز وآي جي سي أستديوز.
وضمن منظومة التعاون والدعم والإسناد لا بد من الإشارة إلى مدينة نيوم، والهئية الملكية لمحافظة العلا، وأيضاً وزارة الثقافة السعودية ممثلة بهيئة الأفلام السعودية؛ فقد شكلت تلك القطاعات الحاضنة الأساسية التي ساهمت في إنجاز هذا العمل وغيره من التجارب التي أنجزت والأخرى التي في طور الإعداد والتحضير، ونحن هنا نشير إلى التجارب الإنتاجية السينمائية ذات البعد العالمي.
إن حصاد هكذا تجربة لا يتوقف عند حضور النجوم أو شركات الإنتاج أو حتى الحصاد المادي المباشر من ذلك التعاون الإنتاجي المشترك؛ إنه أمر أبعد من كل ذلك؛ فنحن أمام تجربة تضع المملكة العربية السعودية على خارطة الدول المنتجة أولاً والتي تستقبل كبريات المشاريع السينمائية، وهو أمر لا يمكن أن تخلقه الصدفة، إذا لم تكن هنالك خطط وإستراتيجيات ومناهج للتعاون، وتشريعات وقوانين ولوائح، ومن قبلها دعم الجهات الرسمية، حيث صناعة السينما جزء أساس من مستقبل هذا البلد وجزء أساس من مصادر الدخل المستقبلية دون الاعتماد على النفط ومشتقاته وصناعاته.
ومن خلال بحث واستبيان نستطيع التأكيد بأن تجربة (قندهار) و(محارب الصحراء) أمّنت أكثر من 1000 فرصة عمل للكوادر السعودية الوطنية من التقنيين الفنيين، هذا طبعاً عدا المئات من الكوادر والأدوار الثانوية والمساندة والكومبارس وغيرهم. ويمكن ملاحظة حضور أكثر من طاقم سعودي في تلك الأعمال، بل إن الطواقم النهائية لفيلم قندهار تشير إلى أكثر من 200 اسم من الكوادر السعودية في مجال التمثيل (حتى وإن كان البعض بدور مساند، ولكنه في عمل من بطولة جيرارد باتلر)
ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد، حيث تؤكد أستدويوهات إم بي سي في بيان لها نشرته صحيفة الشرق الأوسط إلى إنه تم التعاقد مع أكثر من 214 شركة سعودية من أجل إنجاز عدد من العمليات الفنية والتقنية واللوجستية وغيرها. كما يشير البيان إلى تنشيط وتفعيل أكثر من 32 فندقاً من الدرجة الأولى لاستقبال كبار النجوم والتقنيين والكوادر بالإضافة إلى الشقق المفروشة لاستيعاب الكم الكبير من الكوادر الثانوية في تلك الأعمال الضخمة.
إن المعادلة الإنتاجية التي تقلق كبريات شركات الإنتاج السينمائية العالمية هو البحث عن الأماكن الآمنة (مادياً ومعنوياً)، وهذا بات اليوم من الأمور الصعبة والمعقدة في الكثير من دول العالم. ولكن حينما تأتي التجربة إلى المملكة العربية السعودية تؤكد المصادر الإنتاجية بأنها لمست الأمان وأيضاً الإسناد والدعم والرعاية من أعلى القيادات في المملكة العربية السعودية.
إن صناع الإنتاج حريصون كل الحرص على تحليل كافة الظروف الخاصة بحركة رأس المال، وأيضاً دخول الأموال وخروجها والأمن والأمان للنجوم والكوادر بكافة مستوياتهم والدعم اللوجستي والعمل ضمن جدول زمني محكوم وصارم للمواعيد في تصوير كافة المشاهد حسب كل يوم.
والمتأمل يستطيع التأكيد بأن تلك التجربة تؤسس وبشكل حقيقي وعميق لمسيرة مقبلة من تاريخ صناعة الإنتاج السينمائي في المملكة العربية السعودية. لذا لا ننظر نحن المتابعين والراصدين والمحللين إلى أننا أمام مجرد عمل سينمائي اعتيادي، بل نحن في حقيقة الأمر أمام عمل سينمائي يحمل الراية الخضراء ليشير لصناع السينما حول العالم للانطلاق صوب المملكة واستثمار الإمكانات الهائلة التي ليس أقلها الصحراء السعودية بكل ثرائها وتنوعها وتباينها، بل كل المملكة بحارها وجبالها وودياناها ومدنها وأزقتها وحواريها، والمقدرة الحقيقية على تأمين مناخ إنتاجي رفيع المستوى يرتقي إلى العالمية ويليق باسم المملكة العربية السعودية بأنها محطة أساسية وأستديو ضخم قادر على استيعاب كافة التجارب ضمن مواصفات عالمية المستوى، وهذا ما تؤكده التقارير القادمة من نيوم والعلا والهيئة السعودية للأفلام في وزارة الثقافة، وأيضاً أستديوهات إم بي سي.. وغيرها من كبريات شركات الإنتاج والتوزيع السعودية التي تجتهد للكينونة بمستوى الآمال والطموحات التي يتطلع إليها المواطن والقيادة السعودية بتحقيق منجزات تليق بهم وبآمالهم العريضة والطموحة.
ويبقى أن نقول: الصحراء في فيلم قندهار رسالة حقيقية لما تمتلكه المملكة العربية السعودية من خصوصيات تتفرد بها، شاهدها العالم واستمتع بثرائها، وهاهم صناع الإنتاج العالمي يشدون الرحال لنصب خيامهم ومشاريهم في مملكة الخير والمستقبل.

ذو صلة