مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

فيلم ناقة.. العيش في عالم التناقضات

الفيلم السعودي (ناقة) للمخرج الشاب مشعل الجاسر، شدّني بأحداثه المتصاعدة ذات الإخراج الذي كشفَ عن موهبةٍ جديدة، ورؤية تستطيع أن تطرح أسئلتها حتى عن موضوع مكرر ومطروح كثيراً في عالم الأفلام، ولكن برؤية وشكل فني مختلفين، لذا يعالج المخرج القصة وأحداثها بعيداً عن الآراء المختلفة الفكرية أو الثقافية والاجتماعية حول هذه القضية، بل يذهب بعيداً ليطرح القصة من خلال صنع المفارقات المدهشة، المفارقات المتصلة بشعور الأمومة والانتقام والحقد والاهتمام، والمحكومة بوقت محدد لا يسمح لك بتجاوزه حتى وإن حلّت كارثة.
فيلم عن فقدان الثقة في ردة فعل أقرب الناس إليك لو سارت الأمور كما لا يريد، عن الفجوة بينك وبين من يفترض أن يكون هو الأقرب، وكيف تصنع تلك الفجوة سلسلة من المشكلات التي لا تنتهي. وفي مفارقات عميقة بين الناقة والإنسان
طرح الجاسر رؤية مختلفة وغير مباشرة وذات رمزيات متعددة ومفارقات مأخوذة من طبيعة المكان وتكويناته وتفاصيل يومياته المعاشة وثقافة جيل مختلف، وفي مسرح يقتصر الأحداث على الصحراء والحي الذي تسكن فيه البطلة سارة، الممثلة السعودية أضواء بدر التي تلعب دور فتاة تعيش في مجتمع تقليدي ومن عائلة ذات تاريخ عنيف، مما يجعلها تعيش حياة متناقضة بين ما هو معروف عنها مع عائلتها ومجتمعها وبين ما تخفيه من حكايات وأسرار وحياة أخرى، يحدد لها والدها وقتاً للعودة، ثم تخرج في رحلة برية نحو مخيم بعيد على أن تعود في الوقت المحدد، لكنها تعلق في مشكلات متعددة ومن هنا تبدأ في سباق مع الوقت المحدد لها، ذلك الوقت الذي يمضي سريعاً، بل ويذكرنا المخرج بكم تبقى منه كلما مر الوقت، لنظل في ترقبه على الشاشة في كل مرة، تتجاوز سارة مشكلة الهروب من المخيم الذي يلتقي فيه الأصدقاء بعد مطاردة مع الأمن، ثم تتفاجأ بأنها وحيدة في صحراء شاسعة وفي مواجهة ناقة حاقدة وهائجة دهسوا صغيرها أثناء ذهابهم إلى المخيم، ينجح المخرج في أخذنا إلى المفارقات المدهشة التي تختصر الكثير مما قد يقال. هيجان الناقة وغضبها بعد مقتل صغيرها، وبالمقابل تتخيل سارة ماذا سيحدث لها لو تأخرت عن موعد أبيها وشدة غضبه، مكالمات والدتها للسؤال عنها، ونصيحة صديقتها عبر الهاتف بأن تهدأ وتخبر والدها بأنها ذهبت إلى المخيم، فهو بالنسبة لتلك الصديقة مشكلة صغيرة وستمر بسلام بعكس سارة.
تنجح سارة في التخلص من أزمة الناقة، وينجح المخرج في تصعيد المفارقة التي يمكن قراءتها على أكثر من مستوى فكري، وفي لقطة جريئة تقضي على هياج الناقة بوضع المخدر لها، نفس المخدر الذي تسبب في مشكلاتها.
الوقت يمضي وعقارب الساعة التي تظهر على الشاشة تحيلنا كل مرة إلى أزمة الزمن، حين يكون الرهان على الوصول في وقت مناسب هو كل شيء. وبخطوات سريعة في زحام الشارع، تنجو بأعجوبة، وفي لحظة تشعر بنظرات الأب الحنونة غير المتوقعة بعد أن لعبت على نقطة ضعفه، ويلوح لها كما أراد المخرج لقطة خاطفة من نظرات الناقة مع صغيرها، وفي حفلة سلامتها، وفي لقطة معبرة عن الألم وتغير شخصيتها تأكل بنهم ووحشية من صحن الحاشي، وكأنها تتشرب منذ هذه اللحظة الجديدة روح الانتقام والقوة والحيلة، لتشير آخر لقطة في الفيلم إلى ما ستمضي إليه حياتها بعد ذلك، إلى أنثى مختلفة ذات شخصية قوية وأسئلة جديدة. الفيلم عُرض في مهرجان البحر الأحمر الدولي للأفلام في جدة مؤخراً، وفي منصة نتفليكس، وهو من مجموعة أفلام لعدد من المخرجين الجدد في السعودية الذين يشقون طريقهم نحو أفق مختلف ومدهش وبأدوات مبدعة وجديدة على مستوى الإخراج والتمثيل ويصلون بصدى أفلامهم إلى محافل السينما في العالم.

ذو صلة