مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

تشكيلي يقرع أبواب السجون ويوقظ ساعات نيويورك.. أمير وهيب: الفن طوق إنقاذ للإنسانية من الحروب والآثام

تنقّل التشكيلي الجوّال أمير وهيب بين مصر ولبنان وبريطانيا والولايات المتحدة، مترجماً موهبته الخام وذاكرته اللاقطة ومعرفته الأكاديمية بفنون الديكور والعمارة والتصوير إلى صياغات بصرية مدهشة وتركيبات عصرية لفتت انتباه الحركة النقدية حول العالم، ما حدا صحفاً مرموقة بوزن (نيويورك تايمز) الأمريكية، ومجلة (أكاديميكو) الإيطالية المتخصصة، إلى تكثيف الضوء على تجربته الزاخمة، ورحلته الفنية الثرية التي قرع فيها أيضاً أبواب السجون، الحقيقية والنفسية، وانصهر في ضوضاء الشوارع، وقدّم قراءات تحليلية لمؤشرات الزمن ودلالات الأمكنة.
(المجلة العربية) تلتقي الفنان المصري في هذه المساحة، حيث يتحدث عن تجليات التشكيل المعاصر وقضاياه الراهنة، وطبيعة دور الفن في التصدي للأدخنة السوداء التي تحاصر البشرية من كل جانب، وملامح تجربته الإبداعية، التي شهدت استيحاء الموروث الديني بدلالاته الواسعة، ومزج الرؤى الحداثية بالصبغات المحلية ونكهات الحياة المصرية عبر التاريخ.
الفن في مواجهة الآثام
تحمل رسائل الفن بين طيّاتها مخاضاً للأمل، وأطواق إنقاذ للإنسانية في صراعها الدائر مع الحروب والكوارث والأوبئة، وفي محاولات تطهرها من الشرور والآثام. من هذا المنطلق، تأتي تجربة أمير وهيب، الذي يتقصى جوهر المحبة والسلام في لوحاته المجردة عن المسيح طفلاً ومريم العذراء، ويدعو إلى تجديد الخطاب الديني عبر الرسوم الجريئة المستوحاة من الكتب السماوية والنصوص المقدسة.
في أعماله المغايرة، التي لا تخلو من طفولية كفنّاني البوب آرت، يراهن أمير وهيب على معطيات الحضارة المصرية القديمة ومنابع الخبرة المعمارية كأسلحة موروثة ومتأصلة يمكن تطويعها وتطويرها لغزو جزر فنية غير مأهولة بتكوينات مدنية حداثية تفلسف الوجود وتشرّح نسيج الحضارة المتراكمة، خصوصاً في تمثلاتها الغربية الراهنة.
وفي قراءاته للأعماق الإنسانية، يفتش المتخصص في مجالات التصوير والديكور والعمارة الداخلية، عن الانهيارات النفسية والانكسارات الوجدانية، فالمعمار الداخلي لديه هو البناء الحقيقي للفن، والبورتريه الشخصي للذات وللآخرين، هو غوص تحليلي استشرافي، وليس تسجيلاً للأسطح.
يوضح الفنان أمير وهيب (53 عاماً) أن بواطن الأمور والأشخاص والأشياء هي ميدان عمل الفن في سعيه إلى الكشف والتقصي، ويقول لـ(المجلة العربية): (يصف البعض فن البورتريه، مثلاً، على أنه رسم وجه شخص، وفي حقيقة الأمر فإنه عملية تجسيد للشخصية بالكامل، وليس فقط ملامح الوجه. ومن غير التمرد على القوانين والظواهر يبقى الفن نمطيّاً، ولعل الخضوع للقيود في عمومها أبرز آفات الإبداع، خصوصاً لدى الفنانين العرب، المكبلين في أفكارهم وتصوراتهم، بسبب افتقارهم في أحوال كثيرة إلى الجرأة والحرية).
ويعتقد التشكيلي المصري أن الفن رسالة تسامح، وخطوة عملية لتجديد الخطاب الديني من خلال القيم الجمالية والروحية، مشيراً إلى أن استيحاء الموروث الديني والقصص الواردة في القرآن والإنجيل والكتب المقدسة يتطلب المزيد من الحيوية والخصوبة والجرأة من الفنانين المصريين والعرب، موضحاً أنه سلك مسلكاً مختلفاً في لوحاته عن السيدة مريم العذراء وميلاد المسيح وطفولته، بتجنب تشخيص الملامح الفيزيائية، والتركيز على فحوى الحدث بشكل مجرّد (المخاض، الميلاد، البشارة)، وتمثيل معاني النور والمحبة والسلام.
تتداخل المسمّيات الحسية، والمعنوية، في تجربة أمير وهيب، ويتقاطع الملموس والمجرد، فهو في اقتحامه عوالم السجون والمنافي بضربات فرشاته الهادرة وألوانه القاتمة ومتاهات خطوطه وظلاله، يقرن بين الحبس الحقيقي، والنفي خارج الأوطان من جهة، والعزلة النفسية، والوحدة، والاغتراب في الذات، والتشرذم، من جهة أخرى.
في لوحاته حول السجن، ثمة خواء وشحوب وإظلام، وجدر مصمتة، وقطع للصلات مع الآخرين وإن كان وسطهم. هذه الحيرة، هي صمت الإنسان المطبق في غياب المنافذ، وحتى إن حضر (الباب الأخير)، عنوان إحدى لوحاته، فإن هذا المَخْرج المأمول، بحد تعبيره، ليس سوى ومضة من ومضات السراب الكاذبة في مشوار العبث والهلاك، فالأمكنة في محصلتها تكاد تكون مجرد محطات وصول وهمية.
لعبة الزمن
للزمن أيضاً بوصلته الخاصة، وخريطته السحرية، لدى أمير وهيب، فهو فراغ شامل، خاوي الجنبات، متداعي الأركان، كساعات رملية بغير رمل، أو ساعات حديثة بلا عقارب، أو قلب مطموس الدفقات، منزوع النبضات.
حول لعبة الزمن، قدم الفنان أبرز معارضه في الولايات المتحدة، مصوراً فيه (ساعات المدينة)، و(مدينة الساعات)، وعن هذه الفكرة التي لاقت صدى لافتاً، يقول لـ(المجلة العربية): (تلقيت دعوة للمشاركة في معرض جماعي بمدينة نيويورك، وشعرت في مدينة القاعات الضخمة الشاسعة بأن لوحاتي لن تحقق أي تأثير مهما كانت بديعة، وبنزعة مصرية أصيلة انتابتني روح فرعونية بأن هذا الملعب هو حق أصيل لملوك هذه اللعبة، وأن إسهامي الأفضل لا بد أن يكون بمعرض فردي لكي تصل الرسالة).
بعد تقديمه (رؤاه المعمارية) في الولايات المتحدة، توصل إلى معرضه الجديد من حيث الفكرة والتقنية، إذ رسم الساعات الكبيرة المعلقة على أسطح الأبراج في نيويورك، ومن بين أكثر من مئة ساعة، انتقى قرابة عشرين ساعة، رسمها ولوّنها في مساحات كبيرة نسبيّاً، وعرضها في قاعة ضخمة، واستغرقت التجربة أكثر من ستة أشهر.
لم يكن السر في معرضه هو تجميع الساعات ونقلها بطبيعة الحال، وإنما الطبيعة البحثية للمعرض، والرؤية المختلفة لمفهوم الزمن، ومفهوم العمارة، ويوضح: (من الصعب وضع مبنى كامل في كادر الكاميرا، وإن حدث فسوف تظهر عناصر أخرى من أفراد وسيارات ومبانٍ مجاورة، وبالتالي تضيع معالم المبنى المراد، ولا تظهر الساعة المطلوب التركيز عليها، لذا كان لزاماً تحريف المنظور، ورسم المبنى بالكامل، مع الاحتفاظ بنسبه الهندسية، بما في ذلك الساعة، وإهمال الأشخاص والسيارات وكل العناصر الهامشية الثانوية، مع استخدام الألوان بشكل مزاجي انطباعي).
يرى أمير وهيب أن تجاوز ما هو مألوف من شروط الفن وقوانينه ضرورة من ضرورات الخلق الإبداعي، على أن ذلك يجب أن يكون مرتكزاً على وعي ومعرفة بالمناهج والقياسات الراسخة. ومع نزوعه إلى التجديد وكسر الثوابت، فإنه يحيل صفات التجديد في أعماله إلى الفراعنة والموروث القديم في الفنون التشكيلية المختلفة من عمارة وديكور وتصوير ونحت وحفر، التي يصفها بأنها (ركائز الحضارة المصرية).
غياب الوعي
يؤمن وهيب بأن الفنان التشكيلي المصري هو الأفضل عبر العصور والأجيال بأعماله المخلدة، بل إن تاريخ الفراعنة كله قائم على نبوغ الفن التشكيلي: (من أجدادي تعلمت أن الإبداع هو البحث والتفكير والتعمق، كي ينجو الفنان من شرك التقليد والاجترار، ويحقق طموحه، ويفرض بصمته). ويؤكد أن الحداثة لا تقتصر على تيار محدد، واصفاً الفن بأنه نشاط إبداعي واسع لا يخضع لتوقعات جاهزة، فهو نابع من ذات الإنسان، وعليه أن يتجسد في النهاية على هيئة (منتَج)، ولهذا المنتج وجوه متنوعة، لا نهائية.
هذه الرؤية للفن، تهدف إلى الوصول به إلى أن يكون حياة معيشة وسلوكاً مجتمعيّاً، فالعمارة مثلاً ليست أبنية تُصمم من أجل المعارض، وإنما الطبيعي أن تكون هي كل مبنى، كالبيت والمدرسة والمستشفى والوزارة ودار العبادة، فلا بد أن تسهم الفنون الجميلة في بنائها جميعاً، وأن تتدخل في تشكيل مفرداتها من حوائط وأسقف وقباب وأبواب ونوافذ، فمن هوية المعمار تتحدد هوية من يسكنونه، فالمعمار ومَنْ يسكنونه سواء، في الرقيّ، أو في الانحدار.
وفي هذا الصدد، يستحضر الموروث المصري أيضاً، متحسراً على انحسار الوعي البصري، وتبدد الجماليات المعمارية والقيم التشكيلية في الواقع الراهن: (في حين تُعرض مسلاتنا وآثارنا في جميع متاحف العالم، وتنطق أهرامنا بذروة المفاهيم الجمالية، فإن مسلسل إهدار الذوق مستمر، وكذلك تهريب الآثار بثمن بخس).
ويصف أمير وهيب درجة الإبداع لدى المصريين حالياً، إنتاجاً واستقبالاً، بأنها في أدنى مستوياتها، حيث باتت الشوارع والميادين خليطاً من ضوضاء وفوضى وعشوائية، ويختتم حديثه لـ(المجلة العربية) بقوله: (الفنون الجميلة ليست نظريات، ولكنها القدرة على التفاعل، والتأثير، في كل حي وقرية ومدينة، وهذه أولى خطوات تطوير سلوك المصريين للأفضل، وهم جديرون بذلك كروّاد لفن العمارة منذ فجر التاريخ).

ذو صلة