لقد وصل العقل العلمي العربي إلى غاية، خصوصاً أيام عصور الدولة العباسية في المشرق والأندلسية في الغرب، إذ حقق إنجازات لا مثيل لها في التاريخ، وهي إنجازات لها أكبر الفضل في تقدم الحضارة الإنسانية، وعند تحقق هذه الغاية، بدأ العلماء في وضع القواعد التي ينبغي أن يطبقها الجيل اللاحق، خشية من دخول الأدعياء.
ولأن الثقافة في تلك العصور تعتمد التدوين، خشية من الضياع، ومحاولة جعلها مدرسة يدرسها اللاحق، لتكتمل المسيرة، ويبقى البناء صامداً أمام التيارات. أقول: لأنها تعتمد ذلك، فقد سعى العلماء لوضع قواعد يمضي عليها اللاحقون، وهذا شأن العمل الذي اكتمل بناؤه، وقويت أركانه، وتكاثر مريدوه، وتفرعت أبوابه وسبله.
وقد كان هذا الأمر مواتياً في وقت كانت مصادر انتشار الثقافة محدودة، والمتمثلة في النشر الثقافي عبر الوسائل المتاحة بين مجالس فكرية، ورحلات علمية، ومدارس متعددة ومتلونة، ورواة أحياء، ولا ننسى دور الناقلين والمحاورين، فقد وضعوا قواعد للشعر وللكتابة وللمحاورة وللمقالة، ولكل ما يتعلق بضبط العملية الفكرية، وكل ذلك لا يتم إلا مع صدق النية، فهي الأصل في جميع الأعمال، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات).
إن كان ذلك كلاماً قد فهمناه مذ عرفنا الدَّرس، غير أن الدوافع التي حصلت في هذه العصور المتأخرة وهي كثيرة قد دفعتنا للتذكير بمثل ذلك.
إنه ينبغي أن نتذكره ونحن أمام سيل من المؤلفات التي لا تنتهج النهج العلمي، ولا تسير في ضوئه، بحيث نجد أن بعضاً ممن حمل القلم في عصرنا، أو عرف ضغطة الزر يتجه للتأليف، ومن ثم الإعلان عن هذا المنتج أو ذاك وهو في الأصل ليس له حظ فيه غير (تسويد الورق، والتحلي بحلية السرف)، لأنه قد عدل عن غرضين:
- اختراع المعنى.
- أو ابتداع المبنى.
إن المقصد هنا تلك الأوراق التي تسوَّد في العلم غير علمي: (الأديان والأبدان) فلهما من الطلاب المخلصين لأهميتهما في هذه الحياة، غير أن المقصد هنا ما وراءهما، أو ما أسماه الشافعي بـ(لغة المجلس) حيث قال: (العلم علمان: علم الفقه للأديان، وعلم الطب للأبدان، وما وراء ذلك بلغة مجلس)، ولذلك نجد أن (الغزالي) قد أشار إلى هذين العلمين، فهما يحققان الغاية ديناً ومنفعة للإنسان، وقد زاد على علم الطب، علوم الحساب والصناعات والعلوم الثقافية كالأدب والتاريخ. والغزالي نفسه هو الذي وضع صفات المعلم والمتعلم، على أنه ومع سعة أفقه كان يخشى أن تجر العلوم إلى الضرر كبعض العلوم الطبيعية والرياضيات، ولذلك فقد أباحها بحذر.
إننا إن نظرنا لبعض الأوراق التي تكتب، والكتب التي تقرأ نجدها قد خرجت عن قواعد التأليف،
فلا غاية لها،
ولا معنى يراد منها.
وكأن أصحابها ما دروا أن هذا الكتاب إما أن يخلّد اسم صاحبه بما حواه، وإما أن يتحول إلى سراب فلا قيمة ولا فائدة، ولذلك كان يقال:
اختيار الرجل وافد عقله، بل مبلغ عقله، وقيل دلّ على عاقل اختياره. وقيل لبعض العلماء: اختيار الرجل قطعة من عقله. وقال الخليل بن أحمد: لا يحسن الاختيار إلا من يعلم ما لا يحتاج إليه من الكلام. وقال (الشعبي): العلم كثير، والعمر قصير، فخذوا من العلم أرواحه. وقال (ابن عباس): العلم أكثر من أن يحصى، فخذوا من كل شيء أحسنه.
إن بعض مشروعات الكتب التي مرت بنا أو مررنا بها توحي لنا بمقولة القائل: إن العلم يدّعيه من ليس من أهله، وينفر من النسبة إلى الجهل الجاهل، ولا يخفى أن ارتفاع قدر العالم بمقدار علمه، فإن قل قلت رفعته.