في أمسية الطائف، التي أقمتها مؤخراً، سألتني الشاعرة والأكاديمية القديرة الدكتورة مستورة العرابي: هل الشاعر يمكن أن يكون فيلسوفاً؟ أو سؤال على هذا المنحى.
وقد أجبتها، ولكن إجابتي كانت مقتضبة نظراً لضيق الوقت، وحين تفكّرت في سؤالها وجدته عميقاً ويحتاج إلى إجابة على قدر فهمي لكلا الأمرين: الفلسفة والشعر.
فالفلسفة هي الحكمة، وهي النظر إلى الأشياء بطريقة مختلفة ومجردة، وأزعم أنها مختلفة تماماً عن نظرة أولئك الأشخاص الذين يمرون على الأشياء والوقائع والأحداث التي تحدث لهم وتعتريهم مرور الكرام، وكذلك الشاعر، فهو يفلسف الأشياء بحيث ينظر إلى كنه الأشياء نظرة مختلفة، لا يمكن أن تكون كنظر الأناس العاديين، وذات الوصف ينطبق على الفنانين التشكيليين، وكل ذي حرفة غالباً، فهو ينظر إلى الأمور بمنظاره، وبفلسفته الخاصة، ولكل فلسفته.
وتحمل أدبيات أدبنا العربي شواهد على تلك النظرة الفلسفية التي يريدها الشاعر ويفرح بها، حين يجد من يفلسف الأمور على منواله وبطريقته، أورد الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) قصة حسان بن ثابت وابنه حين قال الابن: (لسعني طائر كأنه ملتف في بردى حبرة) فقال حسان: لقد قلت الشعر ورب الكعبة. ويورد (الجرجاني) أيضاً واقعة الأعرابي الذي سئل: لمَ تحب حبيبتك؟ فأجاب: لأنني أرى القمر على جدار بيتها أحلى منه على جدران الناس. وبعيداً عن ماهية القالب هل هو قصيدة نثر أم عمود أم غيرها، ما يهمني في الأمر هو تلك النظرة الفلسفية التي فلسف بها الابن ألوان الطائر، فلم يصفه بشكل مباشر، بل أضفى على وصفه معنى مغايراً ومبتكراً، ذلك هو فلسفة الشعر، التي أعجب بها حسان بن ثابت (الشاعر)، وفرح بوصول ابنه إليها، فحلف أنَّ ذلك شعر!، وذلك الأعرابي الذي يحب يفلسف نظرته للقمر في معنى مغاير وشاعري في ذات الوقت حين يرى القمر مختلفاً على جدار محبوبته، وهذا هو الشعر الذي جاء بنظرة مختلفة عن نظرة الآخرين للقمر.
الفلسفة الشعرية هي البحث عن معنى مبتكر، وخيال خصب، وجملة مغايرة، وهذا لا يأتي من امرئ عادي، ولا من قريحة غير شاعرة، ولذا فالشاعر بطبعه فيلسوف يفلسف الأشياء بمنطقه الخاص وبنظرته المتفردة.
وعلى الجانب الآخر، يورد المؤرخون أن الفلسفة بدأت شعراً.
وترى الباحثة والشاعرة الجزائرية د. حبيبة محمدي في كتابها (نيتشه.. شهوة الحكمة وجنون الشعر) أن كلاً من الفيلسوف والشاعر يستخدم الكلمات في محاولة إعادة تشكيل العالم وفهمه، مستعينة بمقولة للفيلسوف الألماني هايدغر: (إن كل تفكير تأملي يكون شعراً، وإن كل شعر يكون بدوره نوعاً من التفكير).
وتعود إلى جذور التراث الصوفي الإسلامي، الذي جمع بين الفلسفة والشعر، حيث صاغ ابن سينا نظريته الفلسفية الخاصة بالنفس البشرية شعرياً، وتضيف: (الفلاسفة قصائد شعرية تضمنت أفكارهم الفلسفية بداية من بارميندس (520 - 450 ق.م)، مروراً بهيراقليطس والسوفسطائيين الذين ظهروا أواسط القرن الخامس قبل الميلاد، ثم تتطرق لموقف أفلاطون المعادي للشعر والشعراء، رغم كونه ألف الشعر في شبابه، وعد الشعر نوعاً من المس الإلهي الذي يفجر الطاقة الإبداعية عند الإنسان، لكنه مع ذلك عده مصدراً مضللاً للمعرفة، وفضل استبعاده من مدينته الفاضلة). وتضيف: (فيما تكشف المؤلفة موقف أرسطو من الشعر الذي عده محاكاة للطبيعة، وهو باعث فن الشعر ومؤسس جذوره في تاريخ الفلسفة، إلا أن القصور الذي يشوب نظريته هو أنه لم يتناول أشكال الشعر كافة، كما أنها لم تفسر قوة الخلق لدى الشاعر الذي يسعى عبر الفن لاستكمال نقص الطبيعة التي لا تكون دائماً كاملة).
فالشاعر تأثيره يتفق تماماً مع تأثير الفيلسوف، فهو تأثير أخلاقي وعاطفي.
بالطبع هذا رأيي وقد يختلف معه آخرون.