لقد حازت العتبات اهتمام النقاد قديماً وحديثاً، فهي خلاصة النص، فيها إشارات ودلالات تكشف عما بعدها، ولهذا، تكمن أهمية العتبات في كونها (تبرز جانباً أساسياً من العناصر المؤطرة لبناء الحكاية ولبعض طرائق تنظيمها وتحققها التخييلي، كما أنها أساس كل قاعدة تواصلية تمكن النص من الانفتاح على أبعاد دلالية تغني التركيب العام للحكاية أشكال كتابتها)، فلولا العتبات ما استطاع المتلقي أن تتكون لديه فكرة عما سيكون في النص الأدبي، وسيتضح هذا كله من خلال التوقف مع أنماط العتبات المختلفة من النماذج:
تنوعت صيغ العنونة في عنونة مسرحيات الكاتبة المصرية (صفاء البيلي)، فتارة تحمل اسماً مفرداً، وأخرى تحمل تركيباً إضافياً، أو جملة اسمية استفهامية، إلى جانب دلالة عنوان النص، فالعنوان العتبة الرئيسة التي يلج المتلقي المتن من خلاله، فهو المختزل والخلاصة والكاشف لكل ما في المتن، ومن ثم، (فإن دراسة العنوان بوصفه انزياحاً لغوياً، يسهم في إدراك أبعاد النص الشعرية، ومراميه الفنية، بل إنه وسيلة فنية بالغة الأهمية في إضفاء الشعرية على النص من أول كلمة يتلقاها القارئ، الذي يسعى جاهداً لبلوغ اللذة الفنية)، وستتضح تلك الوظائف بتوقف الباحث مع دلالات العنونة، كما يلي:
مسرحية (الجنرال)
إن من الملاحظ على عتبة العنوان الحضور الذكوري لا يكشف إلا عن الحضور الذكوري فحسب، لأن تيمتها الرئيسة تتعلق بفكرة سياسية لإدارة البلاد، كان من المسلم به أن يكون الحضور الذكوري في العتبة الرئيسة للعنوان هو الأساس، رغم أن تلك المسرحية حوت شخصيات ذكورية وأنثوية داخل النص، رموزاً تعبر عن الطوائف المجتمعية لمصر وقتها، فالحضور الذكوري للشاب المخلص لوطنه والمدافع عن هويته، وهو الشاب (سليمان الحلبي) الذي لُقّب زوراً وبهتاناً بأنه (مجرم حرب)، وما هذا إلا تزييف لتاريخ مصر ومصادرها الأصلية، فقد سطر (الجبرتي) شاهد العصر والمِصْر كل هذا مُبيِّناً حقيقة الأباطيل التي دست على تلك الفترة من خلال أحداث المسرحية بتعليق (الجبرتي) عليها وتنقيحه وتوثيقه وحكيه، والملاحظ أن العتبة الرئيسة للعنوان خلت من الحضور الأنثوي، لأن طبيعة الأحداث سياسية تاريخية لفترة حاسمة، فكان طبيعياً ألا يظهر (الحضور الأنثوي) إلا في الأحداث الداخلية للنص المسرحي (الجنرال)، ومن ثم، اتخذت الكاتبة التراث التاريخي لمصر وسيلة لحبك الأحداث باستدعاء فترة من فترات الاحتلال الغاشم الذي احتل مصر، كما بانت سيميائية العنونة المفردة، وكأن العنوان (مسرحية الجنرال أو هذه مسرحية الجنرال)، تلك الدالة اللفظية من سطو وسلب ونهب وفرض نفوذ، فإبقاء اللفظ مفرداً وحذف المقدر دلالة على تأكيد الكاتبة (صفاء البيلي) طغيان الاحتلال الفرنسي وجبروته واستبداده للشعب المصري وقتها، بما تحويه، فلم يكن الجنرالات المستعمرون الفرنسيون يتعاملون مع المصريين وقتها بلين أو رفق، وإنما أثقلوا كاهل الشعب بفرضهم الضرائب والظلم والإهانة والتفرقة الطبقية ومحاربة الهوية الوطنية المصرية بإحراق كثير من الكتب والمخطوطات النادرة، إلى جانب السجن والتعذيب لكل من يدافع عن هويته ووطنيته أمثال (سليمان الحلبي)، كما كمموا أفواه العلماء والمفكرين أمثال الجبرتي الذي راح ابنه ضحية كتابته لتراث تلك الفترة ومحنها، فكان مناسباً (الحضور الذكوري) في عتبة عنوان المسرحية، لتلائم طبيعة الأحداث وتيماتها الرئيسة والفرعية.
مسرحية (ظل السلطان)
تشكلت بنائية العنوان (ظل السلطان) في صورة مركب إضافيٍّ، وكأن الرعية يحتمون بظل (سلطانهم/ طومان باي) في حكمه وقيادته وإدارته للبلاد، كما يمكن أن يقال إن السلطان لا قيمة له وقتها، فالبلاد مضطربة والفتن طاحنة والصراعات متلاطمة، فكان السلطان ظلاً لا صورة حقيقة في إدارته لتلك الأحداث، وقد تأكد (الحضور الذكوري) في العنونة دون (الحضور الأنثوي) لأن طبيعة الأحداث سياسية تاريخية تناسب طبيعة الجانب الذكوري أكثر من الأنثوي في إدارة البلاد، رغم أن الأحداث الداخلية للنص لم يخل منه (الحضور الأنثوي) الذي أدلى بدوره في تطور الأحداث ونموها متمثلاً في شخصية (براح).
كما اتخذت الكاتبة عنوان مسرحية (ظل السلطان) مركباً إضافياً من (نكرة + معرفة) وكأنها تحث المتلقي على إعمال ذهنه، وشحذ خاطره بالتأمل، فأصل العنوان أسلوب خبري لجملة اسمية: (هذه مسرحية ظل السلطان) فالكاتبة حينما حذفت المبتدأ، كان أكبر همها أن تخبر المتلقي عن العنوان الرئيس فحسب، ليركز المتلقي عليه دون غيره، فالعنوان (ظل السلطان) مركز الأحداث وبؤرتها المركزية، فلم ترد إشغال المتلقي إلا به. والملاحظ أن الحضور الذكوري هو صاحب السيادة في عنوان تلك المسرحية، فطبيعة الحكم والقيادة تتناسب مع طبيعة الذكورة من تفطن وتعقل وحكمة وتصبر أكثر من (الحضور الأنثوي) في تقلد منصب سلطوي لقيادة البلاد، إلى جانب طبيعة الفترة التاريخية التي استدعتها الكاتبة لعصر المماليك، فطبيعتها تولِّي السلاطين، فحضور الذكورية كان سائداً.
مسرحية (ليه خليتني أحبك؟)
بالتوقف مع عتبة عنوان مسرحية (ليه خليتني أحبك؟) التي عُنونت باللهجة العامية المصرية، فقد جاءت في صيغة جملة اسمية استفهامية، فصيغة (الاسمية) مماثل دلالي لقوة تعلق الحضور الأنثوي بالذكوري، فالمرأة تعشق وتتعلق لأول وهلة، بخلاف الرجل الذي يتسم بالثبات العاطفي ولا يهيم بالمرأة بسهولة، ولأجل قوة تعلق المحبوبة بمحبوبها في الأحداث، فإنها استنكرت على الرجل قلة اهتمامه في صورة استفهام استنكاري (ليه خليتني أحبك؟)، فهي تعيب عليه قلة شعوره العاطفي تجاهها، فقد كاد حبها له يقتلها ويفتك بقلبها هياماً، إن المُطالِع لطبيعة شخصيات مسرحية (ليه خليتني أحبك؟) يتضح له أنها نص ديودرامي، وهو الأقرب إلى روح العصر، حيث (يبقى فن الديودراما متلاحماً مع روح العصر التي لا تتواءم مع المسرحيات الطويلة متعددة الشخصيات، فالديودراما تلتقي مع سرعة الحياة الراهنة)، فلم يعد الواقع يسمح بالطول أو التعددية، ومن ثم كانت هناك (عوامل تراجع مسرحية الشخصيات المتعددة: منها الجانب الاقتصادي، وسرعة الزمن، والحياة التي نعيشها أدت إلى اختصار زمن الفرجة المسرحية واختزلت الفكرة المسرحية في شخصية أو شخصيتين)، ولذلك فإن عتبة عنوان (ليه خليتني أحبك؟) كشفت عن نمطها الثنائي للشخصيات، جامعة بين الحضور (الذكوري والأنثوي)، فالعنونة استفهام (منها) وجهته (إليه) فالضمير (ياء الياء/ خليتني) في استفهام (حياة) من (عزت) بـ(ضمير الخطاب: الكاف لكلمة أحبك) يعبر عن تلك الثنائية الحضورية للذكر والأنثى معاً، فهي ديودرامية ثنائية ذكورية وأنثوية معاً، وبهذا يتوافر تكافؤ عددي لحضور الذكورية والأنثوية لشخصيات مسرحية (ليه خليتني أحبك؟). ومن هنا يخلص الباحث إلى أن الحضور الذكوري والأنثوي مكافِئ/ متساوٍ في عتبة تلك المسرحية، فقد ذكر ضمير الذكورية والأنثوية مرة مرة.