مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

تكامل المنهجيات البحثية

تعد المناهج البحثية العمود الفقري لأي دراسة علمية في المجالات الإنسانية والاجتماعية والصحية. ومع تسارع وتيرة التغيرات العالمية، من التقدم التكنولوجي إلى تعقيد الظواهر النفسية والاجتماعية؛ باتت الحاجة إلى إعادة النظر في المنهجيات البحثية المستخدمة أكثر إلحاحاً. لم تعد هذه المراجعة مجرد استجابة لمستجدات العصر، بل أصبحت ضرورة ملحة لتطوير أدوات أكثر تكاملاً وشمولية لفهم الظواهر المتغيرة وتحليلها بعمق. ومن هذا المنطلق، يُعد تكامل البيانات باستخدام تصاميم البحث المختلط نقطة انطلاق جوهرية نحو تحقيق هذا التطوير، حيث تتيح مثل هذه التصاميم الجمع بين الجوانب الكمية والنوعية لتقديم رؤية شاملة ومعمقة للظواهر، مما يعزز من موضوعية النتائج وقابليتها للتطبيق في مختلف المجالات.
من جهة أخرى، برز البحث أو الاستقصاء النوعي (Qualitative Research or Inquiry) بوصفه أداة أساسية تزداد أهمية، سواء على أنه مدخل مكمّل أو بديل للبحث الكمي في البحوث الإنسانية والاجتماعية. يعتمد هذا النهج، لاسيما في فلسفاته القصصية أو السردية (Narrative Research) والظاهراتية أو الفينومينولوجية (Phenomenology)، على إعطاء صوت للخبرات الشخصية والمعايشة الواقعية للأحداث والحياة الذاتية للأفراد. يتناول البحث النوعي الأبعاد غير المرئية للخبرات الإنسانية، بما في ذلك الانفعالات، والقيم، والرغبات، مما يجعله نهجاً فعالاً لفهم الظواهر التي تتسم بتعقيد يصعب التعبير عنه من خلال أرقام أو متغيرات إحصائية. كما تسهم هذه المنهجيات النوعية في تقديم رؤى عملية وحلول مبتكرة، تعالج بفعالية الأبعاد المركبة للظواهر النفسية والاجتماعية، وتبرز التعقيدات المتشابكة التي تشكل جوهر هذه الظواهر.
وكوني باحثة في علم النفس؛ أتبنى نهجاً بحثياً يعتمد على تكامل البيانات باستخدام منهجيات البحث المختلط. هذا النهج يدمج بين التحليل الكمي الذي يوفر بيانات إحصائية دقيقة تكشف عن الاتجاهات والأنماط؛ والتحليل النوعي الذي يركز على فهم الخبرات الشخصية والمعاني العميقة الكامنة وراء الظواهر. يتميز هذا النهج بقدرته على تجاوز حدود الوصف التقليدي أو اختبار الفرضيات المصاغة مسبقاً، ليمكّن الباحث من الجمع بين التحليل الإحصائي لوصف الظاهرة الإنسانية والتأمل الفلسفي الذي يبرز القصص (Narratives) أو الخبرات المعاشة (The Lived Experiences). والهدف من ذلك هو توفير إجابات أكثر شمولية للأسئلة البحثية المعقدة، مما يسهم في تطوير رؤى أعمق تتماشى مع التحولات الاجتماعية والتكنولوجية العالمية. كما يعيد هذا النهج تعريف دور الباحث، ليصبح مشاركاً أكثر تفاعلاً مع البحث، وهو ما يمكن وصفه بـ(المبحوث المشارك في البحث)، عندما تقتضي طبيعة الدراسة ذلك.
في مجال علم النفس، على سبيل المثال، يمكن تطبيق هذا النهج لدراسة ظاهرة الاحتراق الوظيفي، بحيث يمكن أن تستخدم البيانات الكمية لتحديد مدى انتشار الظاهرة وعلاقتها بمتغيرات مثل العمر أو عدد سنوات العمل. بينما يتيح التحليل النوعي التعمق في استكشاف الخبرات الفردية للموظفين الذين يعانون من هذه الظاهرة، ضمن سياق بيئات عملهم. كما يمكن اللجوء إلى الدراسة الإثنوغرافية (ethnographic study) لفهم ثقافة العمل داخل المنظمة وتأثيرها على هذه الظاهر. هذا التكامل بين المنهجيات يتيح بناء صورة موضوعية وأكثر واقعية للمشكلة تحت الدراسة، حيث لا تقتصر النتائج على البُعد الفردي المتعلق بالموظفين فقط، بل تمتد لتشمل البُعد التنظيمي المتمثل في ثقافة المنظمة. بهذه الطريقة، تُضفي الدراسة بُعداً إنسانياً وتطبيقياً على النتائج، مما يُسهم في صياغة حلول عملية تتناسب مع احتياجات الموظفين ومتطلبات بيئة العمل.
لقد قطعت الجامعات العالمية خطوات كبيرة في تبنّي منهجيات البحث النوعي والبحث المختلط نهجاً رئيساً لإجراء البحوث وإعداد الرسائل العلمية. فقد أصبح تدريس هذه المنهجيات جزءاً من مقررات علمية مستقلة، ويعتمد عليه طلبة الدراسات العليا بشكل واسع في تصميم مقترحاتهم البحثية. يأتي هذا التطور استجابة لمتطلبات الدراسات البينية، مثل علم النفس، وعلم الاجتماع، والعلوم الصحية، ودراسات التمريض، التي تهدف إلى فهم الظواهر من زوايا متعددة. ويعد هذا النهج بالغ الأهمية في تناول الظواهر المعقدة متعددة الأبعاد، حيث يتطلب فهمها أدوات وأساليب بحثية متكاملة وشمولية.
ورغم التقدم الكبير في تطوير المناهج البحثية، لا تزال هناك تحديات بارزة تواجه الباحثين، لاسيما في الدول العربية. من أهم هذه التحديات صعوبة تحقيق التوازن بين المنهجين الكمي والنوعي، وهو ما يتطلب فهماً عميقاً للأسس الإبستمولوجية والوجودية Ontological Epistemological and Assumptions
التي تشكل الإطار الفلسفي لكل منهج في البحث النوعي على وجه الخصوص. كما يتطلب هذا الدمج مهارات نقدية وبحثية متقدمة، وبخاصة فيما يتعلق بكيفية تفكير الباحث النوعي الذي يختلف في منهجيته وطرائق استقصائه عن الباحث الكمي. علاوة على ذلك، تشكل العوائق الزمنية والمادية تحدياً إضافياً، فتنفيذ الدراسات المختلطة غالباً ما يستغرق وقتاً أطول مقارنة بالمناهج الكمية التقليدية، كما يتطلب أدوات تحليل تقنية متقدمة وبرمجيات حديثة لتحليل البيانات. أيضاً تطبيق هذه المناهج يحتاج إلى تدريب مكثف لتطوير مهارات التفكير البحثي وصقل الخبرات العملية، وهو ما قد يمثل عائقاً كبيراً أمام الباحثين، خصوصاً المبتدئين منهم، الذين يفتقرون إلى الدعم اللازم لتطبيق هذه المنهجيات المتقدمة بفعالية.
ومع استمرار التقدم التكنولوجي، يُتوقع أن يشهد المستقبل مزيداً من التكامل بين التكنولوجيا والتحليل العلمي، حيث سيصبح لاستخدامات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة (Big Data) دور محوري في البحث العلمي. على سبيل المثال، يمكن الاستفادة من البيانات الضخمة المتولدة من شبكات التواصل الاجتماعي لتحليل سلوكيات المستخدمين وأنماط تفاعلهم مع القضايا النفسية أو التحولات الاجتماعية، مما يوفر رؤى غير مسبوقة حول القيم، والاتجاهات، والانفعالات الجماعية. ستساهم هذه الأدوات في تبسيط عملية تحليل البيانات، سواء الكمية أو النوعية، من خلال الكشف عن الأنماط الخفية في النصوص وربطها إحصائياً بأساليب أكثر دقة وشمولية. كما ستكتسب الدراسات البينية في المجالات الإنسانية والاجتماعية والصحية أهمية متزايدة، كونها تعزز من القدرة على تقديم رؤى أعمق وأكثر شمولاً لفهم تعقيدات الظواهر البشرية. في الوقت ذاته، ستبرز الحاجة إلى إعادة صياغة أخلاقيات البحث العلمي لمواكبة التحديات التي تفرضها التكنولوجيا الحديثة، حيث سيكون من الضروري وضع معايير أخلاقية واضحة تحمي حقوق المشاركين وتعزز الاستخدام المسؤول للبيانات الرقمية، خصوصاً في ظل الاعتماد المتزايد على المجتمعات الافتراضية بيئاتٍ للبحث.
وفي ضوء التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم، تظل المناهج البحثية حجر الأساس في دفع عجلة التقدم العلمي والمعرفي، وعليه فإن تطوير هذه المناهج لا يقتصر على تحسين فهمنا للظواهر النفسية والاجتماعية فحسب، بل يدعم في تقديم حلول عملية وواقعية للتحديات المعاصرة. ومن هنا، تبرز ضرورة الالتزام بالعمل الدؤوب على تحديث المناهج البحثية في العالم العربي، لضمان مواكبتها لمتطلبات العصر واحتياجات المجتمعات. هذا التطوير لا يعزز فقط من كفاءة الباحثين وقدرتهم على تقديم رؤى مبتكرة؛ بل يسهم أيضاً في بناء مستقبل أكثر شمولية وإنسانية يعكس تطلعات الأفراد وصناع القرار في تلك المجتمعات.

ذو صلة