مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

مناهج البحث اللغوي الكلاسيكية

قديمة هي المناهج البحثية بوصفها أفكاراً إنسانية استعملت لمعالجة الظواهر المحيطة بالإنسان وتفسيرها، ثم تطورت أدواتها بحسب تطور الإنسان وتقدمه شيئاً فشيئاً حتى أصبحت علماً له غاية ووسيلة يمكن من خلالها تفسير ظاهرة ما بشيء من اليقين.
يعتمد أول نظر في منهج بحثي على الملاحظة ثم الوصف ثم التحليل، إذ تُرصد الظاهرة، إنسانية كانت أو علمية، كما هي في وقت ومكان معيّنين، ثم تُتناول بالتحليل، ثم تأتي نظرة أخرى لدراسة مراحل الظاهرة ومقارنة بعضها ببعض، والتعرف إلى أطوارها وتطورها أو انحدارها، ثم مقارنة هذه الظاهرة بغيرها، في مكان وزمان مختلف أو مماثل.
ولنضرب مثالاً قريباً لتلك المناهج: إذا ذهبتَ إلى الطبيب فإنه يبدأ بملاحظة الأعراض، ثم يطلب إجراء بعض الفحوصات المعملية، ليتمكن من تشخيص المرض بدقة ومن ثم تقديم العلاج المناسب. هذه التحاليل هي أدوات الطبيب لوصف المرض، (وهي مكمن التطور)، وكلما زادت دقة التحاليل زادت دقة التشخيص، ثم بعد مدة يطلب إعادة إجراء الفحوصات نفسها، لمتابعة الحالة وتطور انحسار المرض وبُرء المريض منه، فيكون أمام الطبيب عندئذ عدة نتائج متتابعة للحالة نفسها، ثم يلجأ الطبيب الماهر إلى مقارنة تلك النتائج مع نتائج مريض آخر لمعرفة أوجه التشابه بين الحالتين، وجدوى العلاج المتبع في التداوي من المرض، والتنبؤ بما قد يطرأ على حالة المريض الأخير استئناساً بنتائج المريض الأول، وقد يبحث عن أثر العلاج على نوع من الحيوانات مثلاً. هذه هي المناهج البحثية بشكل مبسط وقريب، وأساسها جميعاً هو المنهج الوصفي.
نشأة المناهج البحثية
لا يمكن لأحد أن يحدد على وجه الدقة بداية نشأة هذه المناهج، ولكن يمكنه رصد الإرهاصات التي سبقت نضوجها وتمايزها. وتختلف هذه الإرهاصات من علم إلى آخر، فاللغة العربية مختلفة عن أصول الفقه، وهما مختلفان عن علم الحديث، وكل يتوسل بما أنتجته العلوم الأخرى وسبقته فيه ليسخره لخدمة العلم أو الفن الذي يهتم به أو يقوم على دراسته. وسوف يقتصر حديثنا في هذه المقالة على المناهج البحثية في علم اللغة، واللغة العربية على وجه التمثيل.
في منتصف القرن الأول الهجري ظهرت في النصوص التي وصلت إلينا بعضُ إرهاصات المنهج الوصفي لدراسة اللغة، عندما لاحظ أبو الأسود الدؤلي (ت69هـ) لحن ابنته فبيّن لها الاستعمال الصحيح، ثم وجهه الإمام علي بن أبي طالب (ت40هـ) كما زعموا إلى انتحاء ما وضعه له من أبواب النحو الأولى. هذه الأبواب الأولى وما تلاها بعدُ هي نتيجة عمل وصفي بامتياز.
تطور الدرس اللغوي في منتصف القرن الثاني الهجري عندما لمع نجم الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت170هـ) بدراسته الشعر العربي دراسة وصفية أفرزت له علم العروض، وكذلك في دراسة الأصوات العربية بدقة جعلته يضع ترتيباً صوتيّاً للحروف العربية حسب مخارجها، ثم في دراسة علم النحو وتفصيله على يد تلميذه سيبويه (ت180هـ).
في هذا الوقت أعني القرن الثاني الهجري ارتحل كثير من علماء العربية إلى البادية لمشافهة الأعراب والنقل عنهم، فكوَّن كل منهم لنفسه مدونة لغوية خاصة، أسهبت كتب التراجم في وصفها، والمهم أنها تعبر عن أن هؤلاء العلماء رصدوا ألفاظ العربية ودلالاتها المختلفة عند القبائل، وكان الدافع الرئيس وراء ذلك هو الحفاظ على لغة القرآن والحديث بدلالاتها التي نزل بها الوحي، ثم توسع الأمر إلى جمع لغة العرب، غريبها وقريبها، حوشيها وفصيحها.
وفي المثال الذي ذكرته عن (الطبيب) وجدنا مادة تخضع للفحص هي (المريض)، وكذلك في دراسة اللغة بمستوياتها المختلفة لا بد أولاً من وجود مدونة لغوية يمكن الاطمئنان إلى شموليتها أو تمثيلها قطاعاً عريضاً من المستعملين، فيما يُطلق عليه (جمهور) اللغة، ثم تخضع هذه المدونة لفحص العلماء والتعليق عليها تحت وسم (النقد اللغوي)، وبيان الخطأ والصواب في الاستعمال، حسب القواعد التي وضعها علماء العربية استنباطاً من جمهور المستعملين.
هذا العمل هو عين المنهج الوصفي القائم على الملاحظة والوصف والتحليل، غير أن الدراسة التاريخية للألفاظ العربية لم تكن على القدر المناسب، إذ كان العرب يعتمدون الشفاهية في الرواية، ولم تكن لديهم نصوص مكتوبة إلا بعد جمع القرآن والحديث، ونضوج فكرة التقييد بالكتابة. فلا يمكن أن تجد صورتين مستعملتين من كلمة واحدة تعرف أيهما سبقت الأخرى بشكل قاطع سوى ما يستنتجه اللغوي من نظره وإعمال فكره، مثل الفعل (جذب) و(جبذ) فهما بمعنًى واحد، لكنك لا تستطيع أن تقطع بأيهما كانت الأولى، وخروجاً من ذلك يُلجأ إلى الاستعمال الشائع للترجيح، فيقال: إن (جذب) هي الأصل والصورة الأخرى (جبذ) فرع عنها، وبعضهم يقول هي لهجة، وهو الصواب، ولو كانت الصورة الثانية متطورة أو منحرفة عن الصورة الأولى لما كنا وجدنا استعمال الصورتين معاً. ومثلها تصور أصل كلمة (أشياء) لتسويغ منعها من الصرف.
وهذا الفحص والتحليل والافتراض هو نوع من الدراسة التاريخية الإرهاصية التي تطورت متأخراً بعد تكوين مدونة كبرى في العصور المتعاقبة لتصبح دراسة مقارنة بين العربية وبعض الألفاظ الأخرى من اللغات القريبة منها كالعبرانية والسريانية أو ما عُرف حديثاً بـ(اللغات السامية). وقد أشار الخليل إلى ذلك في وصف لغة الكنعانيين: (وكانوا أمةً يتكلَّمونَ بلغةٍ تُقارِبُ ‌العربيةَ) (انظر: العين 1/205). وهذا القول لا يتأتى إلا بمرويات وصلت إليه، وإن لم يكن نقلها، أفضت به إلى القطع بالمقارنة بين اللغتين العربية والكنعانية. والحكم بأنها لغة قريبة من العربية هو نوع من الدراسة التاريخية للغات. وكذلك نجد إشارة عند السيوطي (ت911) في (المزهر في علوم اللغة 1/217,218): (... سين العربية شينٌ في العبرية، فالسلام شلام، واللسان لشان، والاسم اشم). وقد نمت تلك الدراسة في العصر الحديث بعد ظهور تصنيف لغات العالم حسب الأسر اللغوية.
المنهج الوصفي
اكتشف البريطاني وليام جونز (ت 1794م) ومن قبله الفرنسي جاستون لوران كوردو (ت1779م) وجود أوجه قرابة قوية بين اللغة السنسكريتية واليونانية واللاتينية، وغدت السنسكريتية من وقتها أساس الدراسات المقارنة. (انظر: أثر فردينان دي سوسير في البحث اللغوي العربي/68)، ويذكر د.رمضان عبدالتواب أن هذا الاكتشاف أدى إلى تغير ملموس في الدراسات اللغوية التاريخية، فتمايزت المناهج البحثية من حينها إلى ثلاثة، هي: الوصفي، والتاريخي، والمقارن. (انظر: المدخل إلى علم اللغة/182)، ويُضاف إليها المنهج التقابلي.
ومن أمثلة الدراسة الوصفية في العصر الحديث ما يُعرف بـ(الأطلس اللغوي) الذي يعتمد على بيان اللهجات المختلفة للغة الواحدة في مناطق جغرافية مختلفة، ومن أشهر رواد هذا العلم هو السويسري فردينان دي سوسير، وقد تأسست وفق المنهج الوصفي لدراسة علم اللغة ثلاث مدارس، هي:
1 - المدرسة البنيوية، واعتمدت في دراستها على النصوص اللغوية واستكشافها، وأن الجملة تتكون من عناصر بعضها أكبر من بعض، يُمكن تحليلها إلى عناصر أولية. وقد أفاد النقد الأدبي من أفكار هذه المدرسة.
2 - مدرسة النحو التوليدي التحويلي، ومن أعلامها: هاريس في النحو التحويلي، وتشومسكي في النحو التوليدي، وقد اعتمدت هذه المدرسة أساساً لها قدرةَ المتكلم على إنشاء الجمل التي لم يسمعها من قبل، وهو قريب مما أشار إليه ابن أبي إسحاق الحضرمي (ت117هـ) في قوله: (عليك بباب من النحو يطَّرد وينقاس). (انظر: طبقات فحول الشعراء 1/17). وإليه أشار أيضاً ابن جني (ت392هـ) (الخصائص 1/358): (ما ‌قِيس ‌على ‌كلام ‌العرب فهو من كلام العرب، ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرُك اسم كل فاعل ولا مفعول وإنما سمعت البعض فقِسْتَ عليه غيره). كما اعتمدت على فكرة التخمين والتوقع واعتماد القواعد النحوية للجمل، فتنظر إلى لغات العالم على أنها متشابهة بصورة كلية في الدلالة. والتوليد والتحويل متكاملان، وقد أفاد الذكاء الاصطناعي من مخرجات هذه المدرسة في بناء خوارزميات تُنشئ عدداً كبيراً من الجمل المتوقعة والممكنة التي يمكن للآلة أن تستعملها في المحادثة مع البشر.
3 - مدرسة القوالب، وتستند إلى أن المعنى مرتبط بوظيفة الكلمة في الجملة، مثل (المسند) و(المسند إليه) ونحوهما من عناصر تركيب الجملة، وذلك في اللغة العربية أن يأتي (الفاعل) بعد (الفعل) أو يتقدم عليه ليصبح (مبتدأ)، وهو في الحالين مسند إليه، فتقول: (قام محمد، ومحمد قام).
المنهج التاريخي
أما المنهج التاريخي فهو يتناول الظاهرة الواحدة بالتتبع الزمني لها حسب ما يتوفر من مادة لغوية، فيتتبع الظواهر اللهجية لمعرفة مراحل تطورها، وفي كل مرحلة يتوسل بالمنهج الوصفي لفحص الظاهرة، ولا يمكن فصل منهج عن غيره في الدراسة. ومثل ذلك من العامية المصرية: كلمة (بلاش) بمعنى (مجاناً)، فهي متطورة عن كلمة (بَلُّوشي)، تلكم التي تكاد تندثر من عامية الريف المصري لولعهم بتقليد أهل الحضر ومجاراتهم في لكنتهم وأساليب حياتهم، ثم إذا عدنا قليلاً إلى الوراء وجدنا الفصحى تستعمل تركيب (بلا أي شيء). وكذلك كلمة (لاش) بمعنى (لماذا)، و(آش) بمعنى (ما هذا؟) فإن الأولى متطورة عن تركيب (لِيش)، وهو مستعمل أيضاً في بعض المناطق، المتطور عن تركيب آخر هو (لأي شيء)، وأما الثانية فإنها متطورة عن تركيب (أَيْش) المتطور عن تركيب (أي شيء). ويفيد هذا التتبع التاريخي في معرفة أصول الكلمات العامية وكيف عالجها العامة بالتسهيل والتيسير في معاملاتهم اليومية، ويعتمد عليه الذكاء الاصطناعي في تحويل الكلمات الفصيحة إلى عامية.
المنهج المقارن
ثم يأتي دور المنهج المقارن لمعرفة مقابلات الظاهرة اللغوية في اللغات الأخرى المشتركة معها في أسرة لغوية واحدة، وقد أشار إلى ذلك السيوطي في المثال الذي ذكرناه عن مقابل السين العربية في اللغة العبرية. ويفيد المنهج المقارن في تفسير ظواهر لغوية لم تتوافر لها مادة لغوية في لغتها، بمقارنتها مع غيرها من لغات أسرتها، كما يفعل المعجم الكبير (إصدار مجمع القاهرة) في صدر مواده اللغوية، وعليه سار المعجم التاريخي للغة العربية (إصدار اتحاد المجامع بالتعاون مع مجمع الشارقة).
المنهج التقابلي
أما المنهج التقابلي فهو فرع عن المنهج السابق غير أنه يقارن بين ظاهرتين لغويتين من أسرتين مختلفتين للوقوف على أوجه الاختلاف والإفادة منها في تعلم اللغات.
وختاماً أقول: إن المناهج البحثية ثابتة في نفسها متغيرة في أدواتها، فوصف المرض قديماً كان يعتمد على أدوات بسيطة، ثم تطورت فأصبح تشخيص المرض أكثر دقة، والعلاج أكثر نجاعةً، وعندما توصَّل د.أحمد زويل إلى الفيمتو ثانية فتح آفاقاً رحبة أمام ملاحظة الظواهر المختلفة ورصدها وتتبعها في جزء من مليون مليار جزء من الثانية، وساعد ذلك في الوصف الدقيق للظاهرة الواحدة. ثم وصل العلمُ بأَخرةٍ إلى (الأوتوثانية)، وهو جزء من مليار مليار جزء من الثانية، فزاد ذلك من الوصفِ دقةً، وجعل النتائج أكثر ضبطاً عن ذي قبل. وبظهور الذكاء الاصطناعي تمهّد الطريق نحو دراسات بحثية رصينة من حيث توفير مدونة لغوية ضخمة، والقدرة على تتبع ما يُطلب منه عبر أزمنة وقطاعات مختلفة، فضلاً عن قدرته الفائقة في توليد الاحتمالات وتيسير المقارنة بين الشيئين. ولا يزال باب التطور مفتوحاً على مصراعيه لمن تطورت أفكاره وجنح بخياله اللغوي بعيداً عن التقليد.


*باحث مساعد بمجمع اللغة العربية بالقاهرة

ذو صلة