مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

نشأة منهجيات البحث العلمي وتطورها

تحظى مناهج البحث العلمي في عصرنا الحاضر بأهمية كبرى، يتعين على الباحث أو المتخصص اعتمادها والإلمام بها، والتقيد بقواعدها، وهي ليست وليدة هذا العصر وإنما نتاج تراكمات معرفية تقودنا للعودة إلى البدايات الأولى لتشكل المعرفة البشرية القائمة على أسس فكرية تختلف من حقبة تاريخية إلى أخرى، حيث كانت وما زالت الحاجة إلى المعرفة دافعاً فطرياً، جعلت الإنسان يبحث عن الوسائل والأساليب التي تمكنه من فهم العالم وتفسير ظواهره.
ويقتضي تتبع خط التطور الذي عرفته أسس التفكير ومناهج البحث العلمي منذ القدم؛ الإيمان بتسلسل التراكم المعرفي من حضارة إلى أخرى، على اعتبار أن الحضارة البشرية عبارة عن عقد متصل الحلقات، وأهم هذه المراحل:
- المرحلة الحسية: ففي العصور القديمة كانت أسس التفكير قائمة على المعرفة الحسية التي تعتمد الحواس، والتجربة الذاتية، وتتسم بالمحاولة والخطأ أو المصادفة، حيث كان الإنسان يفسر الظواهر التي يواجهها من خلال معرفة بسيطة دون التفكير في الأسباب العميقة لها.
- المرحلة التأملية: في هذه المرحلة، بذل الإنسان مجهودات كبيرة لبناء أسس فكرية قائمة على النظر الفلسفي والتأمل العقلي، وقد كان أرسطو رائد هذا الاتجاه، إذ اعتمد منهجاً علمياً في البحث، قائماً على الاستدلال والاستنباط، حيث تحدث عن الكليات الخمس وهي: الجنس، النوع، الفصل، الخاصة، والعرض. وقد كانت هذه الكليات مرجعاً مهماً في دراسة جميع العلوم عند العرب، في هذه المرحلة يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن اليونانيين استفادوا من المعارف السابقة التي راكمها المصريون والبابليون.
- مرحلة العصور الوسطى: وهي الفترة التي تمتد من تاريخ ازدهار الحضارة العربية إلى عصر النهضة في أوروبا، منذ القرن الثامن حتى القرن السادس عشر للميلاد، حيث استفاد العرب من العلوم التي وصلت إليها الحضارات السابقة، وبخاصة الحضارة اليونانية، وبذلك شكلت حلقة وصل في مسار تطور أساليب التفكير والبحث العلمي، ولم يكن العرب مجترين وناقلين للفنون والمعارف التي اطلعوا عليها، بل طوروها وأضافوا إليها نتائج تشهد بأصالتهم وتميزهم، وانتقدوا الأسس الصورية التي أرساها أرسطو في أبحاثه، وشقوا طريقاً خاصاً بهم يعتمد الاستقراء والملاحظة وتوظيف آليات القياس لبلوغ النتائج العلمية المرجوة، وقد نبغ في هذه الفترة المشرقة علماء خلدهم التاريخ أمثال: ابن الهيثم وجابر بن حيان والخوارزمي والرازي وابن سينا.. وغيرهم.
هذا الإرث العلمي الذي حققه العرب، دفع الأوروبيين إلى الاطلاع عليه ودراسته بعمق في بداية عصر النهضة، وشكل بذلك نقطة الانطلاق في الحضارة الأوروبية، وكان مرجعاً ونبراساً لتطورها وتقدمها في شتى الميادين، حيث سلكوا منهجاً يقوم على استخدام الملاحظة والتجربة والقياس للوصول إلى الحقائق العلمية، وعارضوا منهج أرسطو في القياس المنطقي، وأهم علماء هذه الفترة: روجر بيكون (1214-1294) وليوناردي فنشي (توفي سنة 1515).
العصر الحديث: وهو الفترة الممتدة من القرن 17م إلى وقتنا المعاصر، حيث يمكن الحديث عن اكتمال دعائم التفكير العلمي في أوروبا، وأهم العلماء الذين بصموا خلال هذه الفترة بأبحاثهم الخالدة: (فرانسيس بيكون) في كتابه الأداة الجديدة للعلوم عام 1620، الذي فصل فيه قواعد المنهج التجريبي وخطواته، بالإضافة إلى علماء في ميادين مختلفة نذكر منهم نيوتن Newton وبويل Boyle.. وغيرهما.
علماً أن هناك اختلافاً كبيراً بين الباحثين في الماضي وفي الحاضر حول تصنيف هذه المراحل المنهجية إلى أنواع متباينة حسب رؤى وتصورات كل باحث، ونركز على أهمها:
-المنهج التاريخي: الذي يدرس حياة البشر الماضية وما عرفته من تحولات، ويعتمد فيه المؤرخ أساساً على الوثيقة التاريخية باعتبارها مرجعاً مهماً، وأحياناً على الشهادات التاريخية للوصول إلى الحقيقة التاريخية، وقد طبقت نتائج هذا المنهج في الدراسات الأدبية وغيرها.
-المنهج الاستقرائي: يقوم على الانتقال من الجزء إلى الكل ومن الخاص إلى العام، من أجل جمع الجزئيات للحصول على الكليات، ويستخدم هذا المنهج في العلوم الإنسانية والإدارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
-المنهج المقارن: يعتمد على مقارنة أوجه الاختلاف وأوجه الشبه في دراسة ظاهرة معينة، ويستخدم في علوم الشريعة والعلوم القانونية واللسانيات المقارنة.. وغيرها.
-المنهج العلمي التجريبي: هو نتيجة لمجموعة من التراكمات العلمية، وتنوع رؤى نظرية وتطبيقية في ميادين عديدة، ويعتبر مفهوم التجربة المفهوم المركزي والحجر الأساس في تطور الحضارة الإنسانية، وهو مستوى متقدم من التنظيم والفكر والنضج العقلي، مكن الإنسان من تطويع الطبيعة واستغلالها. على اعتبار أن العلم هو السبيل نحو بلوغ التطور وتحقيق الازدهار، وقد مثل البحث العلمي الأداة الرئيسة في هذا العصر الذي عرف انفجاراً معرفياً بفضل الثورة التكنولوجية.
ويقوم هذا المنهج العلمي على اتباع خطوات صارمة من الملاحظة وطرح الفرضيات إلى التجربة والحصول على تعميمات علمية للظواهر المدروسة، وقد انتقل هذا المنهج من العلوم الحقة إلى العلوم الإنسانية.
وهكذا فإن تاريخ العلم والتفكير العلمي ومناهجه، هو التاريخ الحقيقي للإنسان، وصلب قصة الحضارة وتواترها وتطورها.
كما ظهر في القرن العشرين ما يسمى بالوضعية المنطقية التي ثم تحويلها إلى الأمبريقية المنطقية، حيث إن الوضعية المنطقية بنيت على أنه لا يمكن التحقق من أي ظاهرة ما انطلاقاً من الخبرة الحسية، وهذا ما تم نفيه في علم الطبيعة، نفي لوجود الذرة، بحيث لا يمكن مشاهدتها بالحواس، أما الأمبريقية المنطقية فاعتمدت على اختبار الفروض والنظريات للدلالة على مكانة المنطق، إذ إن الأمبريقية المنطقية مثلت النموذج السائد اليوم في فلسفة العلوم بصفة عامة.
حيث إن الحضارة اليوم، لا يمكن أن تكون بأي شكل من الأشكال، بمعزل عن التطورات المنهجية، فيكتمل البناء المعرفي مع اكتمال البناء المناهجي، وهكذا قد شهد التطور المنهجي تطوراً شكلياً وموضوعياً، من حيث الدراسة العامة للظواهر وأسلوب ومناهج التفكير، وكذا تطور بشكل موضوعي، إذ أصبح للموضوع صلة مباشرة مع الظاهرة وجوهرها، ذلك أن التطور المنهجي أدى إلى التفكير العقلي والنظري، أي تزاوج العقل مع المنطق أو الواقع، بحيث يعتبر المنطق علم قوانين الفكر أي العلم الذي يدرس قوانين التفكير الأساسية، علماً بأن المنهج التجريبي هو المنهج الذي يجمع بين المنهج العقلي والمنهج الحسي والجمع بين الملاحظة والتجربة والمعالجة العقلية، بمعنى الجمع بين ما هو عقلي وما هو واقعي، فكل ما هو عقلي يقوم على الملاحظة العلمية، والملاحظة تعتمد أساساً على تدخل العقل بعد عمليات التجربة، إن الفرق بين التطور المنهجي شكلياً والتطور المنهجي موضوعياً يتبلور في ظهور واستخدام منهج النظم، وهذا المنهج قابل للتطبيق والتعامل مع جميع الظواهر باستخدامه لكل آليات التطور الحديث، وبالتالي فإن التطور المنهجي للبحث يتطور بتطور الزمن إثر التحولات الرقمية المعاصرة.
نخلص إلى أن مناهج البحث العلمي تطورت حسب تطور الفكر البشري ونضجه، إذ تتكيف مع الحركة الفكرية السائدة في كل عصر، وتتجدد لتواكب التطورات السائدة، وهذا ما يفسر انتقالها من مرحلة المعرفة البسيطة القائمة على الحواس إلى معرفة فكرية يطغى عليها الطابع التأملي الفلسفي وصولاً إلى المعرفة الراهنة التي يهيمن عليها المنهج التجريبي، وهي حركية مستمرة ومتجددة لا تركن إلى القديم أو السائد المألوف وإنما تتجاوزه لبناء أسس علمية رصينة.

ذو صلة