مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

منهجيات البحث العلمي في اللسانيات

تظل فكرة الطموح نحو التقدم مرهونة بالسعي العملي نحو الإجابة المتجددة عن سؤالات المستقبل، ولاسيما إذا كانت تلك السؤالات مشدودة بحبال سرية وثيقة بماضٍ عريق كانت فيه اللغة العربية شرطاً للدخول إلى عالم المعرفة المرموق، وعرفاً تفرضه أعمال المؤسسات المختلفة المرتبطة بالعلم والثقافة والدين.
والحقيقة أن طرح مسألة منهجيات البحث العلمي في ميدان اللغة من منظور سؤالات المستقبل أمر مهم جداً، لعدة اعتبارات يمكن إيجازها فيما يأتي:
أولاً: استقرار النظر إلى اللسانيات أو علوم اللغة بوصفها (أم العلوم) في التنظير المعرفي الإبستمولوجي الراهن، لأنه لا يوجد مجال معرفي يمكنه أن يهمل منجزها بأي حال من الأحوال.
ثانياً: استقرار النظر إلى اللسانيات بوصفها شرطاً مؤسساً للتنمية بمفهوماتها الضيقة: الاقتصادية؛ أو مفهوماتها الموسعة: الاجتماعية والسياسية والثقافية، أو الشاملة. وثمة اعترافات واضحة تعزز هذه الحقيقة، تقول (ربيكانوث) في (إبادة الكتب، ربيكانوث، ترجمة عاطف سيد عثمان، عالم المعرفة، الكويت، 2018م) (ص 401): (إن اللغة هو الوسيلة الأساسية للسمو بالنشاط الإنساني). وتقول نيلوفر حائري في (لغة مقدسة وناس عاديون، معضلة الثقافة والسياسة في مصر، نيلوفر حائري ترجمة إلهام عيداروس، القاهرة، 2011م) (ص27): (إن تحديث اللغة جزء لا يتجزأ من جهود تحقيق التطور والتقدم السياسي والاجتماعي).
ومن ثم فإن مناقشة سؤال المستقبل المتعلق بمنهجيات البحث العلمي في مجال دراسة اللغة أو اللسانيات؛ يصبح شرطاً من شروط الاستعداد للتنمية والتقدم بصورة منطقية.
والحقيقة أن ظهور (الآلة) مثل الملمح الفارق الذي صنع نقلة جبارة، فاصل فيها بين تاريخين: أحدهما قديم/ كلاسيكي، والآخر حديث، وقابل للتطور بامتياز.
وفي هذا السياق يقرر الدكتور زكي نجيب محمود في سيرته الذاتية المعرفية (حصاد السنين، د.زكي نجيب محمود، دار الشروق، القاهرة، ط3 سنة 1426هـ - 2005م) (ص13): أن ظهور الآلة مثل نقطة فارقة في تطور منهجيات البحث العلمي، ونص مقالته هي: (إن أجهزة البحث العلمي تزداد مع الأيام دقة، ومعنى ذلك أن الأرقام القياسية التي تبنيها الظواهر الطبيعية الموضوعة تحت البحث تتغير كلما ازداد الجهاز المعين دقة)، وعند هذه النقطة فإن علم اللغة الحديث في مستويات دراسة اللغة المختلفة: الأصوات والأبنية والتراكيب والدلالة؛ حقق بفضل (الأجهزة) تطوراً ملحوظاً، وصحح بفضلها مجموعات كثيرة مما يمكن أن يسمى بالأساطير في مجال دراسة اللغة في العصور القديمة والمتأخرة أو الوسيطة.
ومع التطور المذهل لما سماه الدكتور زكي نجيب محمود بالأجهزة، ولاسيما الحاسوب، وما استتبعه من التطور المذهل للذكاء الاصطناعي Artificial intelligence؛ يمكننا أن نتصور مستقبل البحث العلمي في مجال دراسة اللغة أو اللسانيات في الخريطة المعرفية المتصورة فيما يأتي:
أولاً: النزوع نحو البحوث الكمية التي تستصحب المنهجيات الكمية، وذلك لتوافر الأدوات البحثية الرياضية والإحصائية، على مانرى بدايات له في ميادين الأسلوبيات الإحصائية.
ثانياً: التوجه نحو اللسانيات الإدراكية/ أو المعرفية، بسبب تطور الكشوف في مجال علوم الدماغ والأعصاب، وتطور الأشعة، والوصول إلى مستويات بالغة الدقة في تصوير عمل الدماغ.
ثالثاً: التوسع في الصناعات اللغوية المعتمدة على (الآلة) في ميادين:
أ- صناعة المعجمات
ب - صناعة الموسوعات
ج - الترجمة الآلية
د - التعرف على الأصوات
هـ - تعزيز البحوث الجنائية والقانونية والطب الشرعي المتصلة بالأصوات والكلام والخطوط والكتابة.
و - تحويل الكلام إلى الكتابة
ز- التحليل الدقيق للمستويات اللغوية المختلفة بعد تطور برامج التحليل الصوتي، وبرامج التحليل الصرفي والنحوي.. إلخ.
رابعاً: التوجه نحو بحوث النشر النقدي/أو تحقيق النصوص التراثية بعد إحراز نجاحات مبشرة في ميادين قراءة النصوص التي وصلت إلينا محمولة في أوعية: (المخطوطات)، ومن ثم تطور عمليات النسخ، بوصفه عملية جوهرية من عمليات التحقيق النهائي، والمفتاح المحوري لقراءة هذه النصوص وحل إشكالاتها، وهو الأمر المرهون بتطور بحوث (رقمنة) المخطوطات.
خامساً: التوسع في بحوث اللسانيات الإقناعية والحجاجية وتعزيزها في ميادين البيداجوجيا/ أو التربية، بسبب ازدهار توظيف الصور المتحركة والأصوات الحية التي يتيحها الانفجار المعرفي في مجال الذكاء الاصطناعي وعلوم الحاسوب.
سادساً: التوسع في اللسانيات النقدية التي سوف تتطلع إلى تصحيح (الأساطير) أو الأخطاء التي نتجت من الدراسات اللغوية التراثية أو الكلاسيكية التي كانت الآلة أو الأجهزة غائبة غياباً كلياً، أو كانت متراجعة ضعيفة.
سابعاً: ازدياد تحقيق شرط (العقلانية) في المسائل التي كان البحث العلمي اللساني فيها خاضعاً للحدس والتخمينات، ذلك أنه بعد ظهور (الأجهزة) وتطورها والتوسع في استعمالها تحققت صفة (العقلانية)، بسبب توظيف هذه الأجهزة واختبار الفروض، ومن هذه الميادين اللغوية المتوقع تحقيق قدر موفور من شرط العقلانية فيها ما يأتي:
أ - بحوث تفوق اللغات، بعدما غدت زماناً ينظر إليها بوصفها (ص78) مكوناً مألوفاً من مكونات الأساطير عن اللغة في أي جماعة لغوية، كما يقرر الدكتور حمزة بن قبلان المزيني في كتابه (اللغة العربية إلى أين؟ د.حمزة المزيني، دار كنوز المعرفة، عمان، الأردن، 2024م).
ب - بحوث دعم الوحدة الوطنية والقومية في الأمة، إذ ستسهم في توظيف (وسائل التواصل) و(وسائل الإعلام) في دعم التقارب بين الشعوب العربية، وتجاوز آثار التنوع اللهجي.
إن تغاريد الغد بما هو عنوان ينطوي على دلالات غنية، ألتقط منها هنا- على ما يقرره د.زكي نجيب محمود في حصاد السنين- النغمة الحلوة كأجمل ما تكون النغمات وقعاً في حياة البشر في ميدان دراسة اللغة في المستقبل القريب والبعيد على السواء.

ذو صلة