يعدّ البحث العلمي أساس فهم وتفسير الظواهر والمشكلات التي تواجه الإنسان وإيجاد حلول لها، وهو أحد الركائز الأساسية التي تقوم عليها عملية التقدم والازدهار في مختلف الميادين، ووسيلة للبقاء والتكيف مع البيئة بما تحتويه من عوامل وتحديات متجددة، سواء كانت بيئية، اجتماعية، اقتصادية، أو ثقافية وغيرها، كما أن إحداث التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي للمجتمعات البشرية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسلامة البحث العلمي من حيث الدقة والموضوعية والكثافة (أسلوباً ووسيلة ومنهاجاً)، والذي من خلاله يمكن حل الكثير من المشكلات وفك الكثير من أسرار الظواهر وفهمها فهماً صحيحاً، ويتطلب التفكير النقدي والتحليل الدقيق للبيانات، ما يعني أن الباحث يجب أن يكون قادراً على تحديد الفرضيات المناسبة، واختيار المنهجيات الملائمة أي تنظيم وترتيب واختيار أدوات البحث بطريقة معينة، وجمع البيانات بشكل موضوعي، ثم تحليل النتائج بشكل عقلاني.
كما أن الإسهام العربي في تطوير منهجيات البحث العلمي غزير وغني، في الماضي وفي الحاضر، وقد أنتج العلماء والمفكرون العرب العديد من الإسهامات التي حققت تطوراً كبيراً في أساليب البحث العلمي من خلال تبني المنهج التجريبي أو الاستدلال العقلي أو الاستقرائي في مختلف فروع المعرفة، والتي تتماشى مع التطورات الحديثة في العلم والتكنولوجيا، ففي الماضي لعبت العلوم المختلفة، مثل: الفلك، الطب، الرياضيات، الفلسفة، والكيمياء دوراً مركزياً في تشكيل اللبنات الأولى للبحث العلمي ومناهجه باتباع طرق علمية قائمة على: الملاحظة، التجربة، والتحليل، وكمثال على ذلك نجد ابن سينا قد اعتمد في الطب على المنهج التجريبي في كتابه (القانون في الطب)، والذي كان مرجعاً أساسياً لعدة قرون. وابن الهيثم وضع أسساً علمية لعلم البصريات تعتمد على التجربة والملاحظة، مما ساهم بشكل كبير في تطور المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية. أما الفارابي وابن رشد فقد ساهما في تطوير المنهج الفلسفي المعتمد على الاستدلال المنطقي والتفكير النقدي.
ومع تطور العصر الحديث، بدأ العلماء العرب في تطبيق مناهج دقيقة لتنظيم المعرفة، وتحليل الظواهر، واستخلاص القوانين العلمية. واستمرت المنهجيات البحثية التي أرسى أساسها العلماء العرب في التأثير على البحث العلمي المعاصر، كما تطورت هذه المناهج بشكل تدريجي لتعكس التغيرات في الفهم البشري للمجتمع والعالم الطبيعي، هذا التكيف لا يعزز فقط فهم العالم بل يساعد أيضاً في التعامل مع تحديات العصر الحديث بفعالية وكفاءة، وكذلك ليواكب التقدم التكنولوجي والتحول الرقمي الذي برز في جميع مناحي الحياة، ولم تعد المناهج التقليدية قادرة على مجاراة التطور التقني، حيث أصبحت البيئة الرقمية توفر أدوات وتقنيات جديدة أثرت بشكل كبير على المنهجيات التقليدية والتي كانت تعتمد بشكل رئيسي على الأساليب الكمية والنوعية.
وجدير بالذكر أن البحوث الكمية: Research Quantitative تعتمد في أساليبها على القيام بالبحث بشكل عملي من خلال استخدام الإحصائيات والاستبيانات للحصول على النتيجة المطلوبة، كذلك من خلال استخدام مقاييس الصدق والثبات وتحديد مفاهيم الدراسة، بهدف اختيار الفرضيات التي تحدد من بداية البحث، وجمع البيانات والمعطيات وتحليلها إحصائياً للوصول إلى الأهداف المسطرة للبحث. أي أن الدارسات الكمية كانت تعتمد على عينات تمثل المجتمع المستهدف في البحث، وكان هذا الأمر مستعصياً لصعوبة الحصول على عينة شاملة ودقيقة. لكن اليوم تغير الأمر بحيث أصبحت البيانات متاحة على نطاق واسع، فالمنهجيات الكمية التي كانت تعتمد على الاستبيانات والممسوحات أصبحت الآن مدعومة بمنصات رقمية لجمع البيانات مثل Google Forms أو أدوات الاستطلاع عبر الإنترنت.
أما في الدراسات النوعية، خصوصاً تلك التي تعتمد على المناهج الإثنوجرافية (رؤﻳﺔ بحثية تجدﻳﺪﻳﺔ ﻟﺘﻄﻮﻳﺮ واﻗﻊ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺘﺮﺑﻮي)، فقد تأثرت أيضاً بالتحول الرقمي. وكان التحليل يتم يدوياً ويتطلب تفاعلاً مباشراً بين الباحث والعينة سواء كان ذلك من خلال المقابلات الشخصية، الاستبيانات الميدانية، أو الملاحظات المباشرة داخل المجتمع المدروس، ولكن اليوم أصبحت قادرة على التكيف مع الواقع الافتراضي واستخدام برامج التحليل النصي والذكاء الاصطناعي لتحليل المحتوى الرقمي بدلاً من الاعتماد فقط على التفاعل المباشر في الميدان كاستخدام منصات الإنترنت، الشبكات الاجتماعية، المجتمعات الافتراضية. وبالتالي أصبحت الدراسات الإثنوجرافية قادرة على استكشاف ثقافات وسلوكيات جديدة، مما يعزز قدرة الباحثين على دراسة الظواهر الاجتماعية والثقافية بأساليب جديدة تتسم بالكفاءة والابتكار.
وﻟم يعد تأثير البيئة الرقمية مقتصراً على الأدوات المستخدمة في البحث العلمي، بل تعدى الأمر إلى إعادة تعريف منهجيات البحث التقليدية، وقد أصبح البحث أكثر شمولية ودقة.
غير أن هناك مجموعة من التحديات التي يواجهها الباحثون في الانتقال من البيئات التقليدية إلى الرقمية رغم مزاياها المتعددة ومن هذه التحديات:
- الخصوصية والأخلاقيات: في الدراسة الرقمية، غالباً ما يواجه الباحثون العديد من القضايا المتعلقة بحماية الخصوصية في جمع وتحليل البيانات. وقد يتم جمع البيانات دون موافقة مباشرة أو دراسة عميقة للخصوصية، خصوصاً فيما يتعلق بالبحث في مجالات حساسة.
- التحقق من المصداقية: في البيئة الرقمية، قد تكون البيانات المتاحة عبر الإنترنت غير دقيقة أو خاطئة فيواجه الباحث تحديات في التحقق من دقة البيانات وصحتها.
- ضعف المهارات التقنية: قد يكون الاعتماد على التقنية مستعصياً إذا لم يتوفر الباحثون على مهارات تقنية للتعامل مع الأدوات الحديثة مثل البرمجيات الإحصائية أو تحليل البيانات الضخمة.
ولتلافي تلك التحديات يلزم التكامل بين المناهج التقليدية والرقمية، ولا يتأتى ذلك إلا بواسطة دمج المنهجيات التقليدية (استخدام الاستبيانات) مع الرقمية (تحليل البيانات الضخمة أو دراسة التفاعلات الرقمية) ودمج البيانات الميدانية التقليدية مع البيانات الرقمية للحصول على مزيد من الشمولية والمصداقية في نتائج البحث، كما أن دمج الدراسات الميدانية التقليدية مع الدراسات الافتراضية الرقمية يمكن الباحثين من دراسة كيفية تأثير التحول الرقمي على المجتمعات الواقعية، وكيف تؤثر التفاعلات الرقمية على سلوك الأفراد في الحياة اليومية.
يتبين إذاً أن دمج المنهجيات التقليدية مع الرقمية قد يكون هو المستقبل في العديد من مجالات البحث العلمي.
وسيشهد المستقبل تحولاً تدريجياً نحو المنهجيات الهجينة التي تدمج بين الأساليب التقليدية والرقمية، فباستخدام هاته المنهجيات، يستطيع الباحثون دراسة السلوكيات المتوازية للأفراد في البيئات التقليدية والرقمية، كدراسة الهوية الرقمية للأفراد في المجموعات الرقمية حيث يمكن أن تتم هذه الدراسة جنباً إلى جنب مع الملاحظة الميدانية في المجتمعات التقليدية لفهم كيفية بناء الهويات عبر الإنترنت وفي الحياة الواقعية، وهذا ما يساعد على تقديم رؤى أعمق وأكثر مصداقية حول الظواهر المختلفة.