مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

الرقمنة.. تحطيم حواجز الزمان والمكان

شكّل التطور المذهل في عالم التحول الرقمي نقلة نوعية في شتى القطاعات، بلا استثناء، بيد أن ما أحدثه من ثورة في قطاع التعليم أعاد رسم البيئة التعليمية في كل مكان، حتى القرى النائية في أقاصي الأرض، ليحطم حواجز الزمان والمكان، ويقلب الموازين والمعادلات.
ما شهده العالم في السنوات الأخيرة، وتحديداً عقب جائحة كورونا التي فرضت التحول الرقمي والتعلم عن بعد أو التعلم الإلكتروني في مؤسسات التعليم العالي، أجبر الحكومات والمؤسسات التعليمية على مستوى العالم على وضع أطر ومعايير حديثة تنظم عملية التعلم المدمج، والتعلم الإلكتروني، فاستخدم الكثير من المؤسسات الذكاء الاصطناعي، والتحليلات الضخمة للبيانات، ووفرت خدمات الإنترنت على نطاق واسع بغية تحسين عملية التعليم والتعلم. كما قامت بعض مؤسسات التعليم العالي باستخدام الواقع الافتراضي، والواقع المعزز، وإنترنت الأشياء... إلخ. لإتاحة تجارب تعليمية جديدة.
ترافق هذا التطور مع سعي حثيث من الكثير من المؤسسات التعليمية حول العالم لتحسين جودة التعليم، وإدخال معايير وتشريعات ولوائح تنظيمية وخطط إستراتيجية وطنية شاملة للتحول الرقمي، إلا أن الدول العربية شهدت محاولات (خجولة) نوعاً ما لمواكبة ركب التطور. فما زال عالمنا العربي يتموقع في (خانة) المستهلك، لا المنتج.
فبدلاً من المنافسة في مجالات الابتكار والاختراع والاكتشافات العلمية، يستنزف غالب مؤسسات التعليم في العالم العربي جهوده وموارده في محاولات التخلص من الأساليب التقليدية القديمة والقيود المعتمدة في العملية التعليمية خصوصاً في مجال البحث العلمي ومنهجياته، واستبدال هذه الطرق بأساليب حديثة قائمة على استخدام أحدث التقنيات التي ظهرت معها، لكن عن طريق (الاستعارة) أو بالأحرى (الاستيراد).
ورغم هذا التطور العالمي المدهش، لا تزال مساهمة الأكاديميين العرب في تطوير وتحديث المنهجيات البحثية محدودة نسبياً، مما يثير تساؤلات حول قدرة المؤسسات التعليمية العربية على مواكبة متطلبات البحث المعاصر.
ومع ظهور المجتمعات الافتراضية، وما صاحبها من معينات أنحت جانباً الأسفار والأسهار من أجل البحث، أصبح بإمكان الباحثين في كل مكان وزمان متابعة المجتمعات الرقمية، والتعمق في طبيعتها وتفاصيلها الإثنوغرافية، دون الحاجة إلى التواجد -حضورياً- في الميدان، سواء لإجراء مقابلات أو جمع بيانات تتعلق بالبحث.
هذا التغير الهائل في منهجيات البحث يتطلب الابتكار والإبداع، واستنباط أطر جديدة يمكنها معالجة تعقيدات المجتمع الرقمي. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: أين يقف الأكاديميون العرب من هذا التحول العالمي؟
مساهمة العرب.. العيش على أمجاد الماضي
لطالما كان للعالم العربي والإسلامي تاريخ حافل بالإنجازات الفكرية على مر العصور. ففي ما يسمى العصر الذهبي للإسلام، قدم العلماء العرب والمسلمون إسهامات رائدة في مجالات العلوم والطب والفلسفة، من بينهم ابن النفيس، والفارابي، وابن سينا، وابن حيان، وابن البيطار، وابن باجة، لتشكل أعمالهم الأساس لتطوير المناهج العلمية والاجتماعية، مؤثرةً على الفكر في كل من العالم الإسلامي والغرب، بل لتصبح بمثابة لبنة لكل ما اكتشف لاحقاً، بشهادة الغرب نفسه.
ورغم هذا الإرث الفكري الغني، إلا أن مساهمة الأكاديميين العرب في منهجيات البحث الحديثة تبدو متواضعة مقارنةً بنظرائهم في تلك الحقبة. ورغم الجهود المتميزة لبعض العلماء المعاصرين، إلا أن العالم العربي لم ينتج الكثير من الشخصيات البارزة عالمياً في مجالات تطوير البحث العلمي.
أما على الصعيد المؤسسي، فإن معظم المؤسسات الأكاديمية العربية لم تتمكن حتى يومنا هذا من مواكبة التقدم السريع في تقنيات البحث الحديثة، خصوصاً فيما يتعلق بتبني الأدوات الرقمية الجديدة، إذ ما زال العديد من الجامعات في العالم العربي متمسكاً بالأساليب التقليدية التي أصبحت غير فعالة لمواكبة تعقيدات المجتمعات الرقمية الحديثة.
البيئة البحثية التقليدية مقابل الرقمية
تظهر الفجوة في مساهمات الأكاديميين العرب بشكل واضح عند مقارنة البيئات البحثية التقليدية والرقمية. ففي العديد من دول العالم، انتقل الباحثون بسلاسة من دراسة المجتمعات بالبحث والسير في طرقاتها المتعرجة، إلى تحليل المجتمعات الرقمية والافتراضية بنقرة على زر هواتفهم المحمولة.
أما في العالم العربي، فلا يزال هناك اعتماد كبير على الأساليب البحثية التقليدية التي أصبحت منفصلة بشكل متزايد عن واقع المجتمع الرقمي العالمي. أدى هذا التأخر في التكيف مع البيئة الرقمية إلى تقوقع العديد من الباحثين العرب خارج دائرة التطورات الحديثة في مجالاتهم. ورغم الجهود المتواضعة التي بذلها بعض الباحثين العرب لاستخدام الأدوات الرقمية، إلا أن هذه المبادرات لا تزال متفرقة وغير متسقة، وتفتقر إلى الدعم المؤسسي والإطار الشامل اللازمين لتحقيق تحول كبير نحو منهجيات البحث الحديثة.
مستقبل البحث العلمي ودور الأكاديميين العرب
مع استمرار تطور البحث العلمي، لا شك أن مستقبل منهجيات البحث سيتشكل بفعل التقدم التكنولوجي المتواصل، مثل الذكاء الاصطناعي وتحليلات البيانات الضخمة والواقع الافتراضي. توفر هذه الأدوات فرصاً غير مسبوقة للباحثين لاستكشاف عوالم جديدة والحصول على رؤى لم يكن من الممكن الوصول إليها من قبل. فاليوم يمثل البحث متعدد التخصصات، حيث تتقاطع علوم البيانات مع علم الاجتماع أو تلتقي العلوم الإنسانية الرقمية مع الذكاء الاصطناعي، المحطة التالية للبحث الأكاديمي. ولا أحد يستطيع التنبؤ بما هو آتٍ من تحديات.
وحتى يتسنى للأكاديميين العرب المشاركة بفاعلية في تشكيل مستقبل البحث العلمي في ظل التحول المتواتر في العالم الرقمي، يجب أن يكون هناك جهد جماعي لتبني مبادرات التغيير هذه. يتطلب ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، تحديث المناهج البحثية، والاستثمار بسخاء في البنية التحتية البحثية، وتعزيز ثقافة الابتكار، وتشجيع التعاون بين الأكاديميين العرب والمجتمعات الأكاديمية العالمية. كما يجب على الجامعات والمؤسسات البحثية في العالم العربي العمل على بناء علاقات أقوى مع القطاع الخاص، ليتمكن من توفير الموارد والتكنولوجيا اللازمة لدعم المبادرات البحثية المتطورة.
قد يتفق البعض أو يختلف على أن المجتمع الأكاديمي العربي بعيد عن المشهد البحثي العالمي المتطور، لكن إعادته إلى الواجهة، كما كان قبل قرون، تتطلب ثورة علمية وعملية داخلية، وإلا فسيظل الأكاديميون العرب على الهامش فيما يتعلق بمواكبة أهم التحولات في التاريخ الحديث. ولا يتأتى ذلك إلا بتبني إستراتيجية طموحة تشمل تعزيز القدرات التقنية لمؤسسات التعليم العالي، وتحسين الأطر التشريعية القانونية ووضع خارطة طريق للتحول الرقمي في التعليم العالي واستدامته في العالم العربي. كما يجب تعزيز المهارات الرقمية للمجتمعات العربية للمشاركة بفاعلية في عالم موجه نحو التحول الرقمي كرهاً لا طوعاً.

ذو صلة