داخلَ الحوت..
يا رب..
حرفي حجاب وقلبي الذي نسجت حوله العنكبوت تهاويمها قيدته هجوس الظلام.
داخل الحوت سبَّحتُ باسمك لكن نفسي عصتني إذ قلت هيا إلى الله، هيا إلى أفق سبّحتْ فيه أجنحةُ الغيم وانداح شوق الحمام.
رب هذا فؤادي في جوف حرف يغوص ببحر الكلام المطلسم والحوتُ كلَّ مساء يلوك فؤادي، ويحبسه في سراب الجهام.
وإذا قلت يا قلب: هيا إلى فجة الفجر، هيا إلى رشفات الضياء المقطر من بسمة الشفق المتدلي على الكون، هيا نشُقُّ سُجوفَ الظلام، تراود نفسي هواجيسها..
رب، أسرج بقلبي خيول المعاني، لأخرج من عتمة الحرف من شطحات الكلام.
داخل الحوت في برزخ الحرف، في لغةٍ موَّهتها قواميسها..
قصتي خرجت من تجاعيد معنى تعتَّق من طول ما خمَّرتْهُ المخيلات، واحترقت في مواعيده حدقات القرون.
شاحب الروح من بعد أن أبَقتْ بي شجوني إلى شاطئٍ لا معاني به، وفؤادي على الفلك، والفلك ناءت مجاديفه من كثيف الشجون.
حُلُمي غائمٌ..
فيه من حكمة الوقت لكنه خارجٌ من ركام الجنون.
حُلُمٌ يتجلى مساءً لقلبي، ويملأ جفنيَّ من خطرات النجوم، فتشرق في القلب كلُّ المرائي وتورق كلُّ الشموس ويشتعل الليل تحت الجفون.
قدر يدرك القلبُ أسرارَهُ ثم يحجبها عن فضول العيون.
واقف بي على شاطئ الحُلْم، يُظهر لي في المداد المعاني ويخفي بهامشه ما تقول المتون.
وأنا، كلما فتح الوقت في جوف روحي نافذة للسماء البعيدة عادت جفونُ القصيدة ملفوفةً في غلاف الظنون.
كلما راودتْ يرقات المعاني حروفُ الفراشات عاد الكلام كسير الجناح إلى الصمت، والصمت موت المعاني بشرنقة الحرف والحرف..
يا نون ماذا تكون؟!
قدري عالق يا إلهي ما بين حرفين، يبديه في همهمات القواميس كافٌ، وفي ظلمة الحوت يخفيه نون.
قدري غائم الوقت، معناي منشطر بين حرفين يا رب قل للذي في الحروف المحالة كن فيكون.
قل له يا إلهيَ: كن فيكون..
داخل النون سبَّحتُ باسمك، حضّرتُ كل النبيين، حاولت أن أثقب السُجُف المدلهمات، ناديت يا رب أخرج فؤادي من جوف لفظ يبعثرني في شظايا السجوف.
عندما أبحر الحرف بي، ووصلنا لمجمع بحرين، أُنسيتُ حوتي، وآويتُ قلبي إلى صخرة اللفظ، كانت رياح الكلام تهشم حرفي، وكانت معانٍ ثقالٌ يؤود بها مركبي، ثم في لحظة قذفتني المعاني إلى اليم فالتقمتني تجاويف نون الكلام، وعذبني الحرف، جِلدُ الكلام تقرّح، يا رب وحدك تعلم أني أموت ونون الهواجيس يأكل لحم القوافي ويشرب ماء الحروف.
ضاق صدري بأهلي، وضاق بحرفي معناه، همتُ، يممتُ وجهي إلى اليم..
واليمُ لم يحتمل وطأة القلب، أسلمني اليمُ لليل..
والليلُ للنون أسلمني، ضاق بي بطنهُ..
آه يا رب من وحشة الموج والليل..
من وحشة النون يبحر بي في الظلام الكثيف.
لا أنيس لروحي هنا في تجاعيد هذا الظلام الذي تتناسل أشباحه مثلما تتجاوب في جوفه حشرجات الطيوف.
رب لا غير وجهك لي مقصدٌ..
ولِّ قلبيَ قِبلةَ شاطئك الأيمن، اقبس له جذوة من حنين البراري..
وأنبت على جرح روحي يقطينة الصبر، اشف إلهي قروح الكلام، وأنت اللطيف الرؤوف..
رب أنت اللطيف الرؤوف..