مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

DISCLAIMER كيف تملك السردية قوة لا تضاهى؟

الـ(Disclaimer) هو بيان، الغرض منه -إخلاء المسؤولية أو التنصل- من أية تبعات قانونية من جراء تقديم خدمة أو منتج. قد يصدر هذا البيان مؤسسات أو أفراد، كما في حالة الكتابة الإبداعية، حيث يستخدم بعض الروائيين وكتاب السيناريو بياناً يفيد أن: (أي تشابه في الأحداث أو الشخصيات الخيالية التي ظهرت في العمل الأدبي أو الدرامي، وبين عالم الواقع والشخصيات الحقيقية، هو من قبيل المصادفة البحتة)، والمؤلف في هذه الحالة يضمن ألا تُرفع ضده أية دعاوى قضائية، بُتهم مثل التشهير أو إفشاء الأسرار ونحوها.
تنطلق أحداث المسلسل والعمل الأدبي المقتبس عنه، برواية تصل إلى البطلة، ولكنها تحمل Disclaimer غير معتاد، يفيد أن التشابه بين الرواية وبين أية أشخاص حقيقيين سواء أحياء أو أموات ليس من قبيل المصادفة! تقرأ البطلة الرواية لتكتشف أنها تفضح سراً شخصياً شديد الخطر حدث لها قبل عقدين من الزمان، ولا يعلم به أحد سواها هي وشخص آخر ميت، وهو ما يقلب حياتها رأساً على عقب.
عملت الروائية (رينيه نايت) في هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) في إخراج الأفلام الوثائقية قبل أن تتحول إلى الكتابة، فقد درست الكتابة الإبداعية في (أكاديمية فابر) في لندن حيث تعيش مع عائلتها، وتعد رواية Disclaimer التي صدرت عام 2015 أول عمل أدبي منشور لها، وإن لم يكن أول عمل تكتبه، سبقتها رواية كتبتها بإلهام مباشر من صديقة شخصية لرينيه، وربما لقلة خبرتها لم تتمكن من تحييد شخصيتها بشكل كامل، أو شعرت تجاه صديقتها بالتزام أخلاقي باستئذانها في نشر الرواية بعد قراءتها، ويبدو أن رد فعل صديقتها أنها صُدمت ورفضت النشر، هو ما ألهمها بكتابة روايتها الجديدة.
بعد صدور الرواية وحصولها على ردود فعل إيجابية، كونها تملك أحداثاً مثيرة ومشوقة وصالحة للاقتباس السينمائي، تمنت رينيه أن تصل روايتها إلى يد مخرج بعينه، وبالفعل وعن طريق صديقة مشتركة، قرأ المخرج (ألفونسو كوارون) الرواية وافتتن بها، كان وقتها قد حصل لتوه على أوسكاره الأول كمخرج عن فيلم (جاذبية)، وقرر بالفعل العمل عليها وكتابة السيناريو بنفسه، ولكنه وجد أن الفيلم سوف يكون طويلاً جداً، ولم يأت بخاطره أنه يحولها إلى مسلسل تليفزيوني، مرت سنوات صنع فيها فيلمه (روما) وحصل للمرة الثانية على جائزة الأوسكار في الإخراج، بعدها قرر التفرغ لاقتباس الرواية والتعامل معها كفيلم طويل من سبعة أجزاء، مستلهماً تجارب مشابهة سبقته وأعجب بها لمخرجين مثل (كريستوف كيشلوفسكي). لم ير ألفونسو أي ممثلة يمكن أن تلعب الدور الرئيس سوى الأسترالية (كيت بلانشيت)، ولذلك كان يخشى أن ترفض الدور، ما قد يهدد المشروع برمته.
في أثناء جائحة كوفيد 19 والعزل المنزلي، وصل سيناريو المسلسل كاملاً بحلقاته السبعة إلى كيت، التي كانت متحمسة للغاية للعمل مع المخرج المكسيكي الذي تعتبره واحداً من أفضل المخرجين الأحياء في العالم، وكان ذلك كافياً جداً لها، فلم تسع لمعرفة أية تفاصيل مسبقة عن العمل، ولكن ما خشى منه ألفونسو كان على وشك الحدوث، فبعد انتهائها من قراءة الحلقة الثالثة، ألقت كيت السيناريو بعيداً عنها بغضب، رافضة أن تلعب دور امرأة لا تستطيع أن تتفاعل أو تتعاطف معها بأي مقدار، بخلاف كونها قليلة الظهور بجمل حوارية مقتضبة، ولكن بحنكة وصبر طلب منها كوارون الاستمرار في القراءة حتى الحلقة الأخيرة، وعندها سيقبل رفضها بصدر رحب، وبعدما انتهت من القراءة وافقت على بطولة المسلسل.
تبقى العثور على ممثل واحد يلعب دور البطل المقابل لها، ليصبح المشروع قابلاً للتنفيذ، وهكذا بحث كلاهما عن الممثل المطلوب، والملائم لرجل في فئة عمرية محددة، ولا تشعر في ملامحه بوجود خطر أو تهديد، ولديه المرونة الكافية لتنفيذ متطلبات الدور، وفي إحدى الأمسيات النيويوركية بينما يتناولان العشاء في مطعم، اقترحت كيت اسم فيلم (سمكة تدعى وندا)، وبعد قليل من التفكير صاح ألفونسو باسم الأمريكي (كيفين كلاين)، وعندئذ اكتملت ملامح المشروع.
المعالجة الدرامية والرؤية البصرية التي قدمها كوارون للرواية تستحق الإعجاب، على مستوى السرد لدينا ثلاثة خطوط درامية أساسية، الخط الأول الذي يفتتح الأحداث، يدور في إيطاليا قبل عشرين عاماً، ويحكي قصة المراهقين جوناثان وحبيبته ساشا في إجازتهما، قبل أن تتركه ساشا وتعود إلى الوطن بسبب وفاة خالتها، وعندها يقابل كاثرين الشابة الزوجة والأم التي قطع زوجها إجازتهما عائداً إلى لندن بسبب ضغط العمل، الخط الثاني هو لكاثرين في الزمن الحالي التي تُكرم بجائزة عن إنجازها المهني في الصحافة الاستقصائية وصناعة الوثائقيات، ثم تتلقى الرواية المجهولة التي تضع سمعتها على المحك. الخط الدرامي الثالث هو لمرسل الرواية ستيفن وهو والد جوناثان، الذي عثر في متعلقات زوجته المتوفاة نانسي مخطوطاً روائياً بعنوان (الغريب المثالي)، ويدرك أن بطلة الرواية هي نفسها كاثرين، حيث يجد صورها الفوتوغرافية التي التقطها لها جوناثان في إيطاليا، ثم لدينا الخطوط الفرعية التي تخص روبرت زوج كاثرين وابنها نيكولاس.
قرر ألفونسو كسيناريست أن يُخلص للرواية بشدة، فحافظ على المناظير المتعددة للسرد، واختار لصوت الراوي الممثلة (إنديرا فارما)، وخصص لكاثرين أن تسرد قصتها من منظور الشخص الثاني «ضمير المخاطب»، وبخلاف أنه منظور نادر في الأدب وشديد الندرة في السينما، فقد منح شعور بالريبة والاغتراب لشخصية كاثرين، بينما جعل شخصية ستيفين تروى بمنظور الشخص الأول «ضمير المتكلم»، وبررت رينيه ذلك بأننا كنا نحتاج الاقتراب منه وفهم أفكاره، وإن كان في الحقيقة كان له أكبر الفائدة في تعلق المتفرجين به والتعاطف معه وتفهم دوافعه حتى مع أخطر قراراته وأشدها قسوة، بينما بقي منظور الشخص الثالث (ضمير الغائب) لكل من زوج وابن كاثرين، في حين بقيت قصة إيطاليا دون راو على الإطلاق.
في حين اختار ألفونسو كمخرج رؤية بصرية تخدم حكاياته، فمثلاً جعل كل مقطع يحكي قصة إيطاليا ومنذ البداية، يبدأ وينتهي بانتقال مونتاجي مميز بالأفلام القديمة، بالإضافة إلى أنه خصص له مدير تصوير مختلف عن مدير تصوير أحداث لندن، وعزز كل ذلك بأسلوب لوني مميز، حول حكاية إيطاليا برمتها إلى عالم سحري نرى منه شذرات قليلة ونتوق إلى المزيد. أما روبرت زوج كاثرين فقد أخرج مشاهده بطريقة الأفلام الوثائقية، حيث الكاميرا محمولة دائماً، تقترب منه في زووم مفاجئ لرصد انفعالاته، ثم تتحرك معه وتهتز بعنف في اللحظات التي يتلقى فيها الصدمات ما يعكس حالته الداخلية بوضوح، أما ستيفين فقد خصص له أسلوباً إخراجياً مختلفاً تماماً، حيث جعله قريباً دائماً من الكاميرا، يصور في لحظات انتصاراته بزاوية سفلية تجعله يظهر كبطل حقيقي نسعد معه. أما كاثرين فتعامل معها بلقطات واسعة وبعيدة أغلب الوقت، مما عزز لدى المتفرج أكثر وأكثر شعوره بالاغتراب عنها. كل تلك الأساليب الإخراجية في عمل واحد، جعلت مهمة المونتاج صعبة للغاية، فالتوفيق فيما بينها دون الشعور بالارتباك وفق رؤية كوارون الشاملة للعمل ككل، لم يكن بالأمر الهين، ولكن المونتاج نجح في دمج كل الخطوط القصصية على اختلافها بشكل مثالي، ودون أن يشعر المتفرج بعدم التجانس.
كل تلك الأساليب الإخراجية ليست مجرد ألعاب شكلانية بغرض البهرجة، أو لمجرد خدمة الشخصيات والقصص بشكل مؤثر، بل جاءت في صميم المعنى الذي يطرحه المسلسل، معنى خطورة السردية. في الحلقة الأولى تتضمن الخطبة التي تسبق تكريم كاثرين التالي: ‫(احذروا السردية والأسلوب. ‫فقوّتهما قد تقرّبنا أكثر من الحقيقة، ‫لكنهما قد يكونان أيضاً سلاحاً خارقاً للتلاعب. ‫إن صانعة الوثائقيات الاستثنائية هذه ‫خرقت الحجاب ‫الذي حمى المؤسسات الكبرى لفترة طويلة. ‫وأثبتت كاثرين أنهم يستطيعون التلاعب بنا ‫بسبب معتقداتنا العميقة ‫والأحكام التي نصدرها. ‫وبهذه الطريقة، تكشف كاثرين ‫عن مشكلة أصعب وأعمق. ‫اشتراكنا في بعض الأخطاء ‫الاجتماعية القاتلة المعاصرة).
ألفونسو كوارون ببساطة يضع كل خبرته الإخراجية التي اكتسبها طوال حياته، في خدمة سردية الزوجين ستيفين ونانسي عن صغيرهما جوناثان، يجعل السردية نفسها أقرب إلى القلب بكل ما فيها من سحر وجاذبية وبراءة ومتعة، وإن كانت رينيه أجادت كتابتها، فقد حولها كوارون إلى السردية الوحيدة القابلة للتصديق، ومن المستحيل تماماً أن تكون هناك سردية أخرى تعكس حقائق جديدة، جعلنا نقترب من ستيفين، الرجل الذي يعاني الاكتئاب بعد وفاة زوجته وآخر أفراد عائلته، لم يعد يرغب في مزاولة مهنة التدريس، لم يعد يهتم بشكاوى أولياء الأمور تجاه سلوكياته المزعجة والمتعالية معهم، وعندما يجد الرواية السرية التي كتبتها نانسي، يتفجر بداخله غضب ظل يتراكم طوال عشرين عاماً، ومن ناحية أخرى يجد أخيراً معنى لحياته التي أوشكت على الانتهاء، يريد الانتقام لابنه وزوجته الثكلى ولنفسه، ولذلك نتفهم رغبته في تخريب حياة كاثرين العائلية والمهنية، إرسال الرواية والصور إلى زوجها بدت خطوة قاسية ولكنها ضرورية، فالزوج المتفهم رفض أن يستمع إلى ماضي زوجته حتى عندما طلبت منه ذلك، ولكن أصبح رأيه مخالفاً تماماً بعد رؤية الصور، لم يعد يريد أن يسمعها لأنه لا يطيقها، فضح كاثرين أمام زملائها في العمل، يؤكد أن حياتها المهنية كلها مبنية على أكذوبة، فالصحافية الاستقصائية وصانعة الوثائقيات، تملك القدرة على صنع السرديات المقنعة، والتلاعب بعقول من حولها، ومن هنا يظهر انقلاب السحر على الساحر.
وإذا عدنا إلى خطبة التكريم نجد: (يستطيعون التلاعب بنا ‫بسبب معتقداتنا العميقة ‫والأحكام التي نصدرها)، وهو أيضاً معنى طرحته رينيه وعاد كوارون لتأكيده، النص والصورة مصممان بطريقة تجعلنا كمتفرجين نكره كاثرين بعمق، حتى ستيفين وهو يوشك على ارتكاب جريمة لا نصل إلى كراهيته بهذا القدر الذي نشعر به تجاهها. في العرض العالمي الأول للمسلسل، حيث عرض منه حلقتان في مهرجان البندقية السينمائي الدولي، صرّحت كيت بلانشيت أن السبب الحقيقي وراء إلقائها السيناريو هو أنها كرهت كاثرين، والمعروف أن الممثل لكي يلعب دوره ببراعة، يجب أن يجد مساحة تجعله يتفهم الشخصية التي يلعبها مهما كانت شريرة، وإلا لن ينجح في تجسيدها بصدق، وسوف يحولها إلى مسخ سطحي بلا روح، وكيت لم تجد في كاثرين شيئاً واحداً يمكنها أن تتعاطف معها، وبعد الانتهاء من قراءة السيناريو، اعترفت أنها شعرت بكونها شخصية (judgemental) تحكم على الآخرين بسرعة، وهو ما يؤكد نجاح المخرج في إيصال المعنى الذي أراده بنجاح.
مسلسل Disclaimer يطرح خطورة السرديات، وينوه على ضرورة مساءلتها ومعرفة من يسردها وغرضه منها، قبل أن نأخذها مأخذ الحقيقة المطلقة، مهما بدت قوية مقنعة جذابة ولا تقاوم، يستغرب روبرت في الحلقة الأخيرة من تصديق ستيفين للسردية دون أن يسائلها، ولكن ستيفين يطرح نفس السؤال على روبرت: ولماذا لم تتشكك أنت فيها؟ ومعه كل الحق، فروبرت هو الذي يعرف كاثرين حق المعرفة، ومع ذلك صدق سردية ستيفين بلا سؤال واحد.

ذو صلة