زخرف الفن بنبل الحزن، كان من أول الفنانين التشكيليين الذين رسموا الحالات الإنسانية بكل أشكالها، تنوعت لوحاته ما بين الدفاع عن القضايا الكبيرة وبين العناية بأصغر الأحداث التي تمر بحياة البشر، فأدلج التشكيل، وطرح الازدواجية في رسوماته، وجعل من اللوحة منبراً خطابياً ومرآة للواقع الاجتماعي بكل أطيافه، ليكون فنه ابناً للحياة وعاكساً لها.
ولد لؤي كيالي الفنان التشكيلي السوري في 20 كانون الثاني عام 1934 في حلب الشهباء مدينة الأصالة والثقافة. ترعرع في أسرة عريقة ملكت بيتاً عربياً جميلاً في أحد الأحياء القديمة (وراء الجامع الكبير)، وهناك لعب في حضن شجيرات الفل والياسمين، وتحت عريشة العنب المتدلي منها شتى ألوان العناقيد.
في ظل كل هذا كان الابن المدلل الوحيد بين أخواته الثلاث، فعاش طفولة سعيدة ومتكاملة من الحب والاحتضان، الأمر الذي كان له الفضل بتشكيل لؤي الفنان المرهف الإحساس.
شغفه في الفن بدأ منذ سن صغيرة، فكان أول مواعيده مع الريشة والألوان بعمر الحادية عشرة، وأبدع أول بورتريه لوالده حسين كيالي بعمر الثامنة، باستخدام الطبشور على لوح المدرسة.
عندما أتم الثامنة عشرة من العمر عمل على أول معرض له في مدرسته التجهيز بحلب، وبعد أن أنهى الدراسة الثانوية أحب أن يدرس الحقوق فانتقل إلى دمشق ليلتحق بجامعتها عام 1952. رغم هذا لم يهجر حبه الكبير للرسم، واشترك في معرض في كلية الفنون ليفوز فيه بالجائزة الثانية، ولأسباب غامضة أتخذ قراراً مصيرياً بترك كلية الحقوق في السنة نفسها والعودة إلى حلب ليتوظّف كاتباً في المعتمدية العسكرية.
بعدها بأربع سنوات عام 1956 أوفدته وزارة المعارف السورية إثر فوزه بمسابقة فيها للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة في روما، ولشدة تأثره بجمال وغنى الفن والطبيعة وبشقيقه الروحي الأول مايكل أنجلو تفوق وازدهرت موهبته، فشارك في معارض ومسابقات شتى في عدة مدن إيطالية، وحصل على الجائزة الأولى في مسابقة (سيسيليا)، كما نال عدة جوائز خلال معارضه هناك كالميدالية الذهبية للأجانب في مسابقة (رافيّنا).
وبعد أن أغنت عظمة روما إبداعه عاد محملاً بالإنجازات لخدمة بلده سوريا، ليرسم فيها أحلامه، فالتحق بالكادر التدريسي في المعهد العالي للفنون الجميلة في دمشق.
صوّر في لوحاته القضية الفلسطينية إلى جانب رسمه لكثير من المهن والحرف على بساطتها والتي عايشت عوالم مختلفة، فكان لكل لوحة حكاية، منها حكايات بائعي الجوارب واليانصيب، الخبازيين، الصيادين والعازفين، إلى جانب لوحات لنساء بسيطات وأخريات أرستقراطيات.
وعقب حدوث النكسة عام 1967 بدأت دوامة الاكتئاب تعصف بروحه لتنعكس بكثرة رسمه بالفحم لأشكال الصرخات التي خرجت من سواد الحزن في قلبه لتعتم بياض لوحاته، فرسم للقضية الفلسطينية أحد أشهر أعماله، أسماه (ثم ماذا؟)، عبر فيها عن هول مأساة اللاجئين الفلسطينيين، وركز على نظرات النساء والأطفال المليئة بالرعب نحو المستقبل المجهول.
رسم في هذه الحقبة الفنية من حياته عشرات اللوحات التي عرضها في معرض أسماه (في سبيل القضية)، فلعب دور المحامي الذي تمنى أن يكونه يوماً لكن بريشته وليس بثوب المحكمة، الأمر الذي لاقى الكثير من الهجوم من الناقدين والحاقدين على نجاحه، ولأن النقد كان أكبر أشباحه عاد للغرق في أمواج الكآبة، ومزق أغلب لوحاته وقتها، فكانت هي الأضاحي لآلامه، على إثر هذه الحادثة اعتكف في منزله المتواضع في دمشق وعانق وحدته، فلم يكن لحب المرأة التي كانت ستؤنس عزلته وتدعمه مكان إلى جانب الفن في قلبه، فحبه له كان السبب الأول والأخير لعزوفه عن الزواج واختياره الفن رفيقاً لحياته.
لكن محبيه لم يتركوه وحيداً وأقنعوه بتلقي العلاج النفسي، فسافر إلى لبنان وعالجه الطبيب السوري علاء الدين الدروبي في مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت. ولشدة امتنان لؤي كيالي لمعروفه معه عرض في منزله لوحات معرضه الثامن مما أدى إلى تحسن حالته النفسية وإقباله على الحياة من جديد، ولكن ما لبث كابوس الكآبة أن عاد إليه بقوة عارمة هذه المرة جراء وفاة والده حسين الكيالي، أول شخصيه رسمها في حياته، ما دفع به للعودة إلى مدينة طفولته حلب لعله يأخذ القوة من زهو وهيبة قلعتها ورصانة قدودها.
عام 1976 عرضت 42 لوحة من لوحاته إلى جانب شقيقه الروحي الثاني ورفيق دربه في الفن (فاتح المدرس) في معرض الثقافة العربية الذي نظّمتْه (مؤسسة الأوبلف) في مدينة مونتريال بكندا.
أعماله زينت جدران المتاحف الوطنية السورية، ففي دمشق زهت لوحة ضخمة له بعنوان (من وحي أرواد)، وفي حلب تألقت لوحته (من الريف).
معرضه الحادي عشر كان في صالة الشعب للفنون الجميلة بدمشق، حيث قدّم فيه 45 لوحة بيعت كلها قبل افتتاح المعرض.
بعدها سافر إلى العاصمة الأردنية عمان بصحبة لوحاته لعرضها في (غاليري عالية)، ولكن المعرض لم يُقَم لخطأ حدث في الإجراءات، فكان لهذا الحادث تأثيراً كبيراً في نفسيته.
على إثرها عام 1978 عزم على الهجرة إلى إيطاليا، فباع بيته وكل ما يملك، وغادر البلاد في شتاء بارد، وهو يحلم بأن يزاول الرسم في روما في مناخ فني دافئ وحنون.
بعد شهر واحد، في شباط؛ عاد إلى حلب حاملاً الخيبة على عكس عودته الأولى من إيطاليا في شبابه، واعتزل الناس ولم يصبره على معاناته غير تعاطي الحبوب المهدّئة ورمي أعقاب سجائره الحائرة.
إلى أن وجد هدوءه الأخير في نيران أشعلتها سيجارته فاندلعت خفية في فراشه والتهمت حزنه، فرحه، كبرياءه وكل ما تبقى من أحلامه، فتغلب لهيبها على انكساراته وأراحته بسلام أبدي أستحقه هذا الفنان الذي لم ينوي إلا نشر حبه عبر فنه لمحبيه.
ليأتي القدر بعد واحد وأربعين عاماً لإنصافه وإعادته كطائر فينيقي متحدٍ للنكران لينتقل من مضيق النسيان إلى منصة ذاكرة التاريخ الإنساني، فكرمته الكثير من المنابر الثقافية بعد أن احتفل بذكرى ميلاده الخامس والثمانون في 20 كانون الثاني 2019 أضخم محرك للبحث في العالم (Google)، ليذكرنا أن رسالة الفنان المبدع ليس لها نهاية ولا تفنى مع فناء الجسد، وبأن لؤي كيالي سيبقي في مد وجزر مع متاهات الخلود.