مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

يوم الخشب العالمي علاقة أبدية بالإنسان

على الرغم من الخيارات العديدة التي توافرت للإنسان على مدى العصور القديمة والحالية ومنها استخدامه للمواد الصلبة في حياته اليومية ومنشآته المعمارية كالحديد والألمنيوم والبلاستيك إلا أن الخشب (the wood) مازال يدخل في معظم مفردات حياته اليومية، فهو الأقدم في الاستعمال الهندسي والمعماري والزخرفي، وهو يدخل في جميع مفاصل حياتنا، فالإنسان يجلس وينام عليه، وحتى تلاميذ المدارس لا يستغنون عنه فهم بحاجة لقلم الرصاص الخشبي كما المسطرة الخشبية كما المقعد الخشبي، وفي الغرب، وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، أسسوا البيوت والفلل من الخشب بشكل كامل في رؤية معاصرة للخشب حيث استلهموا منه ديكورات عصرية جميلة ومفردات مزجوا فيها التراث بالمعاصرة. فهل السبب هو الحنين للطبيعة الأم حيث الخشب يأتي من قطع ونشر أشجار الغابات كالسنديان والحور والسويد والبطم والجوز والزان (beech wood) وهو الأكثر استخداماً عالمياً والأقل ثمناً، والصندل والماهوجني (Mahogany wood) وهو أجود وأثمن أنواع الخشب في العالم، أم لأن الخشب يحمل مزايا جمالية تتفوق على غيره؟ أو أن الخشب كمادة حية حنون وطيّع بالتعامل مع اليد البشرية والآلة؟

يوم عالمي للأخشاب
ولجمالية وعراقة الخشب واستخداماته الجمالية والاستعمالية والفنية الكثيرة وبهدف زيادة الوعي العام وتعزيز أهمية وفوائد الخشب من خلال إقامة نشاطات متنوعة فقد تم تخصيص (يوم عالمي) للأخشاب كحدث ثقافي عالمي أسوة بأيام عالمية أخرى يُحْتَفَى بها بالكتاب والشعر والتراث والمرأة والصحة وغيرها، ويقام في يوم 21 مارس آذار من كل عام ويتضمن مهرجاناً سنوياً بغرض توعية الناس بأهمية الخشب ودوره الرئيس في المستقبل حيث تستضيف فعالياته إحدى الدول في كل عام، وقد أقيم للمرة الأولى في العام 2013 في تنزانيا، وفي دورته الأخيرة للعام 2019 استضافته أستراليا حيث أقيمت فعاليات متنوعة على مدى ثلاثة أيام بمشاركة فنانين ونحاتين وموسيقيين وباحثين من كل دول العالم، وتضمنت الفعاليات ندوات، وحرفاً خشبية، وورش عمل فنية شعبية، ومهرجاناً موسيقياً، ومشاريع تصميم الخشب، وفعاليات للأطفال، وزراعة أشجار، وقبلها في العام 2018 استضافته دولة كمبوديا (منطقة أنفكور وات مجمع المعابد) بينما استضافته كل من الصين في العام 2014 وتركيا في العام 2015 ونيبال في العام 2016 والولايات المتحدة الأمريكية بلوس أنجلوس عام 2017، في حين غاب احتفال عامي 2020 و2021 بسبب وباء كورونا.
وقبل ذلك وفي السياق ذاته في عام 2007 تأسست في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية منظمة (المجتمع العالمي لثقافة الخشب) وهي منظمة عالمية غير ربحية، كرّست المنظمة جهودها في البحث والتعليم والترويج لثقافة الخشب من خلال إقامة منتديات عالمية وتأدية عروض سينمائية وثائقية وتنظيم مهرجانات حول العالم ليوم الخشب العالمي مع مؤسسة يوم الخشب العالمي التي انطلقت كمنظمة غير ربحية مع إطلاق اليوم العالمي للخشب قبل ست سنوات لتقوم بجمع التبرعات وإدارة الموارد المالية للمهرجانات المرتبطة بيوم الخشب العالمي منذ 2013.

أناقة وجمال واستثمار مالي
يتميز الخشب بأناقته وجمالياته ولذلك يمكن استخدامه في مجالات واسعة ومعاصرة كيف؟ يقول الفنان والمصمم السوري (يوسف توكمجي) الذي يمتلك في بيروت والكويت ودمشق ورشاً لتصنيع الخشب وتحويله لمفروشات وديكورات متنوعة بلمسات شرقية وتراثية: يمكن استخدام الخشب في أمور أكثر مما يمكن أن يدركه إنسان، فاستخدامه يعطي اللمسة الجذابة جداً التي تُضْفِي على المنزل أناقة ودفئاً، فهذه المادة الطبيعية تَعْرِفْ جيداً كيف تلبي احتياجاتك وللخشب عدة فوائد أولها جمالية تصنيعية والمحافظة على القيمة الشرائية فيه إن لم تتضاعف فنحن من خلال مهنتنا قمنا بشراء وترميم القطع التراثية المصدفة وبيعها بأسعار لا يمكن أن يتخيلها من صنعها قبل مئات السنين، فكانت تعطي من يقتنيها متعة وجودها ضمن ديكور منزله والاستثمار الذي يتركه لأولاده عكس أي مادة أخرى يمكن استخدامها.

رؤية معاصرة حداثوية للخشب
وفي السنوات الأخيرة كان هناك استخدامات متفردة للخشب برؤية جمالية معاصرة كاعتماد تابلوه (tableau) السيارات من الخشب وبخاصة للسيارات الفارهة وبأشكال ونماذج أنيقة بدلاً من المواد الصلبة، ومنها على سبيل المثال في العام (2016م) قامت إحدى أهم شركة سيارات في ألمانيا وهي شركة (BMW) بإطلاق إحدى طرز سياراتها الفاخرة بـ(تابلوه) من الخشب الدمشقي المصدّف (خشب مصنّع يدوياً ومزخرف بالصدف البحري أو النهري) صممه أحد الحرفيين السوريين العاملين في الأرابيسك والشرقيات وهي تجربة عصرية يمكن تكرارها مثلاً في الطائرات والسفن.
كذلك سارعت شركات تصنيع لوازم الهواتف الجوالة بتصنيع حوامل الجوالات الفاخرة من الخشب الثمين وبتصاميم متميزة.
في الرؤية المعاصرة للخشب على سبيل المثال لا الحصر، في (دبي) وقبل أشهر قام طلبة من الجامعة الأمريكية بدبي بإبراز تصاميم خشبية معاصرة تتمازج فيها الثقافتين الغربية والعربية باستخدام خشب سويدي فنتج معهم مثلاً تصاميم لمقاعد خشبية على شكل (سراب).
وفي أواخر شهر نوفمبر من العام الماضي 2022 شهدت العاصمة المصرية القاهرة وعلى مسرح دي فورم بقصر البارون الأثري في حي مصر الجديدة فعاليات أسبوع التصميم حيث كان من أبرز هذه الفعاليات إعلان جوائز مسابقة مؤسسة (نديم) للتصوير الفوتوغرافي والتي توثق تاريخ استخدامات الخشب في مصر وأنواعها وأساليب تداخلها وتقنياتها ونقوشها والتفاصيل المستخدمة فيها، إضافة إلى الأماكن الشهيرة باحتضانها، وذلك لنشر الوعي بالتراث والجذور، وحسب جريدة الشرق الأوسط اللندنية فالمسابقة تحتفي بتصوير المنتجات والأماكن والفنون التي تعتمد الأخشاب في الحياة تاريخياً وفي الحياة اليومية المعاصرة على السواء، وسيتم نشر العديد من الأعمال الفائزة ضمن موسوعة تحمل عنوان: (الأعمال الخشبية المصرية - خمسة آلاف سنة صناعة) والتي يعكف على إعدادها فريق العمل بالمؤسسة.
قبل أشهر قليلة كان هناك أيضاً خبر مشوّق من النمسا عبر وكالة الأنباء الألمانية عن إنجاز مبنى طابقي مؤلف من 24 طبقة أشيد من الخشب. وذكرت مهندسته النمساوية (كارولينا بالفي) أن الشيء اللافت في المبنى الذي يبلغ ارتفاعه 84 متراً، أنه أقيم بدءاً من الطابق الأول فصاعداً بنسبة 75 في المئة من أجزاء خشبية. وساعد نحو 800 عمود خشبي من أشجار التنوب، أو الراتنج، النمساوية، في حمل هذه الطوابق، في حين أن عناصر الجدران صنعت من مواد خام تعاود النمو، وكذلك السقف الخشبي. تقول المهندسة بالفي: إن هذا المبنى فريد من نوعه على مستوى العالم، من حيث إن مساحته الإجمالية تبلغ نحو 20 ألف متر مربع، وإنه مشيد من الخشب والفولاذ، حسب وكالة الأنباء الألمانية. تؤكد المهندسة بالفي أن هذا المبنى يعد بمثابة (بيان لاستخدام الخشب في بناء العمارات أيضاً) كما تشدد المهندسة على أن الخوف من أن يتعرض مبنى مكون من الخشب بشكل أساسي، للاحتراق، هو خوف غير مبرر (حيث إنه لا يجب أن تكون المادة القابلة للاحتراق ذات خصائص سيئة في حالة الحريق).

الخشب والنحاتون والموسيقيون
من المعروف أن النحاتين ينجزون أعمالهم الفنية من خلال مدارس فنية متنوعة كحال التشكيليين، فهم يعتمدون على أكثر من مادة أولية في إنجاز منحوتاتهم ومنها (الخشب) الذي يقدّم لهم مادة أولية طيّعة مرنة بلون الخشب الطبيعي أو يمكن تلوينها حسب رغبة النحات ورمزية عمله النحتي، يمكنهم من خلالها إنجاز أعمال نحتية مختلفة الأحجام والأساليب بحيث يمكن عرضها في صالونات البيوت والقصور وحتى الحدائق الخاصة والعامة والشوارع، فنشاهد منحوتات خشبية ضخمة في المنتزهات الواسعة تزين المساحات الخضراء إلى جانب مقاعد الجلوس الخشبية أيضاً.
كذلك يعد الخشب مادة رئيسة في تصنيع الآلات الموسيقية خصوصاً الشرقية منها كالعود والقانون، وقد عمل صناع هذه الآلات المعاصرين على تقديم نماذج حداثوية منها تناولت النواحي الجمالية والفنية الظاهرة كإضافات معاصرة مع المحافظة على الأساسيات فيها.

بدائل خشبية عصرية
الخشب الطبيعي الناتج من قطع ونشر الأشجار في الغابات مكلف مادياً واستهلاكه بشكل غير مدروس يكون مجحفاً بحق الطبيعة، فكيف تأقلم العالم المعاصر معه وطوعه بحيث ظل يستخدمه وبسعر أقل؟ لقد وجد الإنسان المعاصر الحل من خلال ما يسمى استخدام الخشب المصنّع أو المعاد تصنيعه (recycled) ومنها (اللاتيه) وهو عبارة عن قشرتين من الخشب يوضع بينهما سبائط من الخشب وتُغَرَّى وتُكْبَسْ، وهناك خشب الـ(MDF) المضغوط وهو عبارة عن ألواح من الخشب المعاد تصنيعه من بقايا الأخشاب الطبيعية أو الكرتون المضغوط، ويتم تشكيل ألواحه عن طريق تعريضه لدرجة حرارة وضغط عاليين، فهو عبارة عن بقايا خشب يتم طحنها وفرمها وتضغط مع بعضها لتنتج ألواحاً وسبائط خشب صناعية تشكل بديلاً رخيص الثمن.

أخشاب مقاومة
والخشب كمادة طبيعية حيّة يتعرض مع الزمن لمشاكل مناخية وصحية كالرطوبة والتسوس وتغلغل الحشرات فيه والتي تعيش عليه وتأكله، فكيف تم التغلب على هذه المشكلة؟
لقد وجد العالم المعاصر الحل من خلال تصنيع الخشب المعالج بمواد كيميائية تحميه من العوامل المناخية ومن الحشرات وبشكل علمي يتوافق وطبيعة المنطقة المراد استخدام الخشب فيها، ونوعية الحشرات التي تهاجمه، فالتغلب على مشاكل الخشب كمادة حية يتم عن طريق المعالجة بمواد كيميائية يُبَخُّ بها للحفاظ عليه خصوصاً من العوامل الجوية، فهناك بيوتات تبنى من الخشب مثلاً في أمريكا ودول العالم ضمن أفكار جديدة ولتبقى قوية ومُسَيْطَرْ عليها من العوامل المناخية يتم معالجته وبخه بمواد مثل (اللكر والسيلر مادة كيميائية أساس مالئة للمسامات ومقاومة للرطوبة) وكذلك للتغلب على السوس والحشرات الذي يؤدي لتآكل الخشب يتم بطلاء الخشب بمادة كيميائية تخلط يدوياً مع (اللكر) فتطرد الحشرات، أما الرطوبة التي تسبب انتفاخ الخشب وتوسع مسامه فتعالج ببخ مواد خاصة (دهان) تمنع دخول الرطوبة لمساماته، وكذلك يتم تعقيم الخشب حتى لا ينقل أمراضاً أو جراثيم كونه مادة حية بحيث يوضع في غرف خاصة ويُعَرَّض لمواد معقمة لمدة 24 ساعة فينتج لدينا خشب ضد البكتريا.
وفي الحلول المعاصرة تم تصنيع خشب مقاوم للحرائق والرصاص، كيف؟ من خلال وضع مواد مقاومة للحريق ومُعَالَجة بمواد كيميائية خاصة، كذلك تم تصنيع خشب مقاوم للرصاص باستخدام طريقة ومواد خاصة مضادة للرصاص ولكنها مرتفعة الثمن.

ذو صلة