تتباهى مدينة مصياف بجمالها الطبيعي الأخاذ والتي حباها الرحمن صورة الأرض الغنّاء، والفردوس الأرضي. جامعة بين خضرة السنديان والسور والصنوبر دون أن ننسى شجرتي التين والزيتون المباركتين اللتين ذكرهما الله عز وجل في كتابه العزيز. ونعمة الماء الرقراق الذي يتهادى بغنج من ينابيعها الكثيرة ويتدفق عيوناً من بين صخورها المباركة.
مصياف، المدينة التي تقع إلى الجنوب الغربي من محافظة (حماه) وسط سورية، على مسافة (48) كم. تأخذ موقعها المتميز بين الجبال الساحلية والسهول الداخلية وتعرف برياحها القوية على مدار العام. تستريح على منحدر جبل (زور بعرين)، ضامةً بحنانِ الأم الرؤوم قلعتها التاريخية، وسورها العتيق ومدينتها القديمة التي تداخلت أقواسها وأزقتها بالعمران الحديث، فيشعر العابر ذلك المكان بأنه يعبر من بين الأزمان مصاباً بالحب والحنين لتلك الأرض الطيبة.
لا تكتفي المدينة الحسناء بجمالتيها الطبيعة، بل بمفكريها وكتّابها وشعرائها الذين تغنوا بهذا السحر والرونق الفاتن الذين يشكل توأمة فريدة بين المنظر الجمالي المحفز على الإبداع بكل أشكاله الأدبية والفنية. علَّ أبرزهم الراحل الكبير ممدوح عدوان، والمترجم الراحل رفعت عطفة. ما خلق حالة إبداعية مزجت بين حضور المكان البهي وأصالة الانتماء له.
ما بين (مصياف) و(مصياد)
اسم مصياف هي تحوير لكلمة مصيف حيث إن المنطقة التي ترقد فيها البلدة تتصف بجمال طبيعتها التي تعد مصيفاً لأبناء المناطق الداخلية وما زالت تقوم بوظيفتها الاصطيافية حتى الآن، أما كلمة (مصياد) فتدل على كثرة الأشجار الحراجية التي أتاحت الفرصة لأعمال الصيد على مختلف أنواعه، كذلك، يذكرها الرحالة ياقوت الحموي في (معجم البلدان) والمقريزي وأبي الفداء باسم مصياف وهو الذي تعرف به اليوم في الدوائر الرسمية، والرحالة عبدالغني النابلسي ذاكراً خرابها في الثالث عشر من تشرين الأول/أكتوبر 1693، ويقول ذلك شعراً:
أتينا إلى المصياف والوغر زائدٌ
ولم ندرِ هل في برج قلعتها نرى
من الحرِّ والوعر الذي أتعب المتنا
أم القبر بتنا من تعب متنا
ثم يذكرها باسمها القديم (مصياط)، وذلك لامتداد وعورها وكثرة أوديتها:
إن مصياط بلادٌ دربها
قلعةٌ من حولها أودية
كلما قلنا قطعنا جبلاً
تارةً تبدو وتخفى تارةً
كله وعرٌ فلا يحتمل
باطل في السير فيها البطل
بعده للعين يبدو جبل
فكأنها من فقيه حيل
أما الأمير مزيد الحلي (1188 - 1140) الذي تنقل في رحلة صوفية من مسقط رأسه مدينة (الحلة) في العراق إلى مصياف التي وافته المنية بها، فيذكر في قصيدة تلك البقاع من أرض الشام حتى وصوله إلى مصياف:
ولما وصلنا أرض شيزر صدنا
فرحنا بعون الله نقطع موجه
وسرنا إلى مصياف سعياً كما سعى
مسيلٌ من العاصي شديد التجهم
كما فعلت بالتُربِ كف المنجم
إلى البيت قوم من قريشَ وجرهم
أم الريح.. أم الرعد
وفي مهرجان السويداء الشعري سنة (2020)، يضمن الشاعر (عباس حيروقة) ولهه بتراب مدينته الأم، ومسقط رأسه:
آتٍ على سربٍ من الغيماتِ
آتٍ ومن (مصياف) أحمل غيمةً
والشوقُ أذّنَ كي أقيم صلاتي
فوجدتُ أظمأكم.. كنهر فراتِ
ويعدد صور مزاجها وطقس انفعالاتها المختلف الهادئ تارةً والعاصف تارةً أخرى، وربوعها بكسائها الأخضر، فهي تعيده طفلاً يمرح يراكض عمره الماضي وذكرياته:
(مصياف) أم الريح.. أم الرعد آتٍ إليكم.. والمروجُ تردني فركضتُ في هذي الحقول مغرداً وجلستُ أنظر في تنامي حالها:
أم الغيم... أمي.. ربّةُ الغاباتِ
طفلاً.. وتشرّع لوزها للآتي
ونثرتُ كالقمحِ المقدس ذاتي
نورٌ يرشرشُ وجهها بأناةِ
ليُعبر(حيروقة) في مطلعها عن (وحدة وجوده) وتناسخ روحه بروح الأرض البكر التي ترعرع فيها:
وحسبتُ أني قد أمَلُّ حجارةً
فوجدتُ في نسكِ ألاطف خدها
فلمستها.. فرّت كفرخِ قطاةِ
فوجدتُ فيها كُلَّ..كلَّ صفاتي
بدوره يحيلنا الشاعر (حسين محمد) إلى أثر طبيعة المكان الساحر وتأثيره الشفيف على شعره، فهو يجد كل أجوبته المقلقة في أحضانه. مشبهاً مصياف بالأم التي منحته نعمة دلالها، بينما روحه تهيم وتحلق في فضاءاتها الغناء:
وأشجارُ الصّنوبرِ كم تحلّت
فمن مشفاكِ حقاً فاض شعري
فيا (مصياف) أنتِ اليومَ حبّي
فروحي فيكِ هائمةٌ تنادي!
وفي (مصيافَ) قلتُ اليومَ شعراً
هزارٌ راحَ ينشدُ للوصالِ
وحرفي راحَ يُغني عن سؤالي
كطفلٍ عاشَ في بيتِ الدّلالِ
أنا أفديكِ في روحي، ومالي
فهل يا ناسُ، أعجبكمْ، مقالي؟
سحر (الورّاقة)
أحد أشهر الأحياء في مدينة مصياف هو (الورّاقة)، ويعرف بشارعه الذي يحمل اسمها. وينتهي به الزائر إلى السوق القديم. تملؤه الأشجار الباسقة وروائح الأزهار التي تعربش على جدران منازله. لعل أشهر الأبيات التي ذكرت في وصف جمال هذا الحي هو ما قاله الشاعر الكبير الراحل (ممدوح عدوان) في قصيدته الشهيرة (مصياف):
الأهل في مصياف.. والروح تواقة
يا ليتني صفصاف.. أو زهر دراقة
لأبل حلقي الجاف.. في نبع وراقة
فالشاعر الذي تغرّب عن مدينته، وعاش بعيداً عنها وعن رباها، يتوق في هذه الأبيات للعودة إلى كنفها. متمنياً أن ينغرس في أرضها كشجرة صفصاف، أو يتعلق كزهرة دراق على ثوبها طبيعتها البكر. أو يشرب من ماء نبع الوراقة الصافي. فما أن تهل ذكرى مدينته على خاطره حتى تسابقه الدموع.
القصيدة الأخرى التي يرد ذكر الحي الشهير في المدينة للشاعر (علي الخشن) والتي يقول في مطلعها:
إذا يمَّمْتَ حسناً بالمكانِ
لئن عُدّت جنان الله يوماً
فزُرْ مصيافَ رائعةَ الزّمانِ
تضيءُ وتستقيدُ بلا دُخانِ
ليصف الشاعر أرضها في كل وجوه الفصول التي تزورها على مدار العام، مشبهاً مطرها الصيفي بالدمع المنسكب على التراب المشتاق لحنان السماء. وكذلك مزاجها الطقسي الذي ينفرد فيه فصل بمفرده، ففيها كل أشكال الفتنة التي جعلها الله عز وجل على أحسن صورة فكأنها ترحب بزوارها باسطة يديها:
يطالعك الثرى منها بوجه
مفلَّجةٌ كراحاتِ الصباب
مغانٍ قد حباها الله حسناً
هَفَتْ في الصَّيفِ منه دمعتانِ
فما فصلٌ تفرّد بالأوانِ
ولا للزائرين بها يدانِ
ثم إلى الجبال الباسقات التي تعانق الأنظار، وزقزقة العصافير على غصون الأشجار. شاعراً بالطمأنينة بين أفيائها، تستقبل زائرها بالابتسام لتسقيك من حنين لا ينضب. وكذلك، مادحاً كرم أهلها وتفانيهم في خدمة ضيفهم. ثم ذاكراً (ورّاقة) مصياف وأغصان أشجارها التي تغدو ك (مرواح) تعدل من قيظ الحر وتريح النفس. وظلالها التي تحنو كما تحنو الأم بيديها على أبنائها. فيجدون طيب العيش في رباها حتى يعز عليهم الرحيل:
فما تدري بأيهما ستُروى
وللورّاقة الخضراء طبي
ظلال تهرب الأنوار منها
وأطيارٌ يعفُّ الموتُ عنها
فما للقاطنين بها براحٌ
ومن أدب الضيافة والتفاني
مراوح، والنسيم بها أغان
لأمٍ قد غفا والصدر حان
كأن السفح منها الراحتان
فطب نفساً بهاتيك المغاني
ليختم (الخشن) قصيدته بوعد الحب الأزلي لمصياف واصفاً إياها كما في المقدمة بـ(تاج الجنان):
تنافستِ الفصولُ على هواها
إذا رحل الشتاءُ وحنَّ شوقاً
أحبّكِ.. ليتَ حُبّكِ كانَ ناراً
تشعّب ماؤها مثل البنان
من الريحان أو بالأقحوان
فمصياف الهوى تاج الجنان