مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

بخروش بن علاس

بخروش بن علاس

القائد الذي شنع بالأتراك فاحتفلت بقتله إسطنبول

محمد بن زيَّاد الزهراني: الباحة

 



 في ظل الأمن والإيمان والسلامة والإسلام ورغد العيش الذي تعيشه مملكتنا الحبيبة -المملكة العربية السعودية- بفضل الله ثم القيادة الراشدة أبناء القائد البطل جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه- الذي استعاد ملك آبائه وأجداده مع نفر قليل من صناديد نجد وأبطالها وأسس هذا الكيان الشامخ الذي عانق مجده السحاب والكواكب واحتل المكان اللائق به بين شعوب الأرض قاطبة في مدة وجيزة لا تقاس بعمر الزمن، فقد كان من أهدافها وأولوياتها الاهتمام بالعلم والعلماء فأنشأت الجامعات في طول البلاد وعرضها وأنشأت مراكز أبحاث وهيئات متخصصة للتنقيب عن تاريخ الجزيرة العربية وأعلامها الذين كان لهم بصمات واضحة في مسيرة النماء لهذه البلاد المباركة.
ولقد حدث في الجزيرة العربية على مر العصور أحداث جسام تستحق أن تسجل في حينها وتوثق إلا أنها أهملت، ما شكَّل عقبة كأداء أمام الباحثين وعشاق التاريخ، ولقد اشتكى المستشرق جون لويس بوركهارت المؤرخ والمرافق للحملة التركية على الجزيرة العربية من قلة المصادر عن الأحداث التي مرت بها الجزيرة العربية في كتابه- البدو والوهابية ص/238 حيث قال: (قمت بعدة محاولات بحثاً عن تاريخ مكتوب للوهابيين أثناء إقامتي في الجزيرة العربية واعتقدت في قيام بعض علماء مكة والمدينة بوضع هذا العمل ولم يثمر البحث شيئاً بل لم يقم أي شخص بتدوين ملاحظات عن الوقائع اليومية للأحداث وغالباً ما تتعرض للنسيان...إلخ)، وقد أيده في ذلك المؤرخ السعودي الشيخ/ عثمان بن عبدالله بن بشر في كتابه -عنوان المجد في تاريخ نجد- الجزء الأول ص/8 حيث قال: (وأعلم أن أهل نجد وعلماءهم القديمين والحديثين، لم يكن لهم عناية في تاريخ أيامهم وأوطانهم ولا من بناها ولا ما حدث فيها وسار إليها إلا نوادر يكتبها بعض علمائهم هي عنها أغنى...إلخ).
لا شك أن ظاهرة الإهمال هذه تنطبق على جهات كثيرة في الجزيرة العربية، وما كشفه لنا برنامج خطى العرب الشهير من كنوز مهمة ومغمورة في أنحاء الجزيرة العربية وخاصة شمالها لخير دليل على ذلك.
 وما دامت «المجلة العربية» العريقة أخذت على عاتقها التنقيب عن أعلام الجزيرة العربية وروادها وذكر مناقبهم ودورهم في حضارة الجزيرة العربية وتماسك كيانها ووحدته والذين ضحوا بأنفسهم بالدفاع عنها وهذه بادرة تذكر لها وتشكر عليها فإنني هنا سوف أذكر في لمحة موجزة عن واحد من أبرز أبطال الجزيرة العربية وقادتها في العصر الحديث الذين سطروا ملاحم أسطورية في الدفاع عن الجزيرة العربية وأهلها إنه الأمير بخروش بن علاس الزهراني الأزدي وذلك على النحو التالي:

اسمه ومولده ونشأته
 ولد القائد الأسطورة/ بخروش بن علاس بن مسعود الزهراني في قرية العُدَيّة (بالفتح والتشديد) إحدى حوزات قرية الحسن في بني عمر السراة أحد فروع قبيلة زهران الأربعة (دوس- بني يوس- بني عمر- بني سلم) وحاضرتها اليوم مدينة الأطاولة بمحافظة القرى (بالفتح) وكان تاريخ ميلاده في عام 1170هـ (تقريباً) وقد نشأ في بيئة زراعية وامتهن رعاية الغنم فالزراعة والرعي هما مصدرا الرزق في تلك الأيام.

 

 

حالته الاجتماعية
 كان متزوجاً وله ثلاثة أولاد هم علَّاس وهو أكبر أولاده وبه يكنَّى، وعائض، وزيد من زوجته الدوسية التي لا يعرف اسمها ولا قريتها، وكان يجيد القراءة والكتابة.

توليه الإمارة وأسلوبه في القيادة
 ولد الأمير بخروش بن علاس قائداً بالفطرة، ولما شب عن الطوق وأدرك قومه نباهته وحسن معالجته للأمور والتأني في اتخاذ القرار رشحوه أميراً عليهم، فكان قوي الشخصية سديد الرأي والمشورة لا تأخذه في الله لومة لائم ينصر المظلوم من الظالم، وبذلك استتب له الأمر.
صفاته الجسدية وفروسيته
 فيما يروى عنه أنه كان طويل الوجه والقامة عريض المنكبين ضامر البطن مفتول الذراعين ذا هيبة يخافه المجرم قبل أن يدخل عليه فيعترف بما جنته يمينه طواعية ودون إكراه. سريع البديهة فارس لا يشق له غبار، لم يدرس الفروسية وركوب الخيل والتعامل معها في نواد خاصة بذلك أو أكاديمية عسكرية متخصصة كما هو الحال اليوم بل اكتسبها بالهواية والممارسة، وقد جاء في بعض المصادر التاريخية أنه كان يبارز الفارس المعادي من الأتراك فيقتلعه من على جواده ويطرحه أرضاً ويدق عنقه ويمتطي صهوة جواده ويكر به على الأعداء.

مدة حكمه على قومه
 استمر في مشيخة قومه قريش زهران حتى عام 1218هـ وفي هذه الأثناء توجه عثمان المضايفي أحد قادة الجيش السعودي البارزين بحملة كبيرة لإخضاع بعض القبائل لضمهم إلى حكم الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود، وفي وادي الحمى ببادية بني كبير في بلاد غامد وقعت معركة فاصلة بين تلك القبائل وأرباب دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب حيث استطاع عثمان المضايفي إقناع قبيلتي غامد وزهران بالانضواء تحت راية الإمام عبدالعزيز بن محمد واختار عثمان المضايفي بخروش بن علاس أميراً على بلاد زهران كافة واستمر حكمه حتى عام 1230هـ حيث أسره الأتراك وقتلوه.

أسلوبه الريادي في إدارة دفة الحرب
 عندما غزا الأتراك بلاد زهران قادمين من الطائف في غزوتهم الأولى لهذه البلاد قبل عام 1230هـ، عرف الأمير بخروش نواياهم السيئة عندها قرر مقاومتهم والتصدي لهم والإصرار على هزيمتهم وردهم من حيث أتوا، فجمع عليَّة القوم وشاورهم في الأمر ولما وجد الدعم والمساندة شكَّل جيشاً شعبياً من قومه قريش زهران ومن عاونهم من زهران والقبائل الأخرى ومنهم إخوتهم غامد وزودهم بما توافر من سلاح ويأتي في مقدمتها السيوف والجنابي التي لعبت دوراً مهماً في المعارك، واعتمد في حربه على أسلوب «الكر والفر»، و«اضرب واهرب» حيث لا يوجد لديهم معدات حرب متطورة مثلما عند الجيش التركي الذي كان جيشاً نظامياً ومدرباً تدريباً عالياً ويمتلك معدات ثقيلة كالمدافع التي تجرها الخيول والتي كانت سبباً فيما بعد في هزيمتهم نتيجة لصعوبة تحركها عبر الجبال والأودية وتعرضهم للهجوم المباغت من قبل جيش زهران.. وكان من أسلوب الأمير بخروش في إدارة الحرب مباغتة الأعداء في أنصاف الليالي عندما يخلدون للراحة من عناء الحرب والعطش والجوع.
لا شك أن الجيوش في حروبها تحتاج إلى إمداد وتموين وهو ما يسمى اليوم بـ(الإمداد اللوجستي) من غير المعدات العسكرية، ونتيجة للدعم الكبير والمتواصل من أبناء المنطقة للأمير بخروش وجيشه من حبوب بأنواعها وسمن وعسل وذبائح عمد إلى إنشاء أربعة بيوت في قرية الحسن -وقريته العدية- وثالث في قرية آل سرور من بني جندب إحدى القرى المجاورة لقريته العدية ورابع في وادي بيده التاريخي المعروف والذي يبعد نحو عشرين كيلاً شرقي العدية، وذلك بهدف تخزين هذه المواد والصرف منها على الجيش المقاوم وسمى الواحد منها (بيت المال)، وعيَّن عليها مسؤولاً ممن يثق به من رجاله فعمل ما يعمله الوزير المخلص في وزارته وكان حسن التدبير وإدارة ذلك المسؤول سبباً بعد الله في انتصار المقاومة الباسلة.
لا شك أن معركة كبيرة كهذه لابد أن يكون للقائد مجلس حرب ومستشارون وقادة للكتائب يساندون القائد ويدعمونه، وينفذون خططه فليس من المعقول أن يدير معركة مصيرية كهذه رجل بمفرده، لكن المصادر التاريخية المتاحة لم تشر إلى أي منهم مما يدخل في الإهمال الذي أشار إليه بوركهات، وابن بشر السابق ذكرهما.

 


كيف كان الأمير بخروش وقومه يدفنون قتلى الأعداء؟
 يؤمن أهل هذه البلاد بالقول المأثور (حرمة الميت كحرمة الحي) ولهذا لم يتركوا القتلى من الأعداء في العراء طعاماً للوحوش بل كانوا يدفنونهم بعيداً عن الأحياء السكنية ومقابرهم، لاعتقادهم أنهم غير مسلمين لأنهم لا يُصَلُّون، كما أنهم لا يدفنونهم في بطون الأودية حتى لا يجر رفاتهم السيل بل كانوا يدفنونهم في أغلب الأحيان في سفوح الجبال. يقول شاعر زهران الشعبي الكبير محمد بن ثامرة في قصيدة له في غزو الأتراك الثاني لبلاد زهران بعد عام 1300هـ:
ما يطون الترك وادٍ   لين ناهب فيه مقبرة

ويطون: أي (يطأون) والمعنى ينزلون، وناهب: أي نضع وفي حالة كثرة القتلى واحتدام المعارك ولم يكن لديهم الوقت لدفن كل قتيل بمفرده فإنهم يدفنونهم في قبر واحد كبير ولو كان أكثر من عشرة أشخاص وسموها تمييزاً لها عن غيرها بـ(القبور المثمَّرة) بالفتح والتشديد التي تعني الكثرة واستخدامهم لهذه المفردة صحيح. قال لسان العرب في ترجمته لمعاني فعل (ثمر) ثمَّر الله مالك كثَّره.


أهم المعارك التي خاضها ضد الغزو التركي
 عندما غزا الأتراك بلاد زهران قادمين من الطائف قبل عام 1230هـ وعرف أهدافهم غير السوية ناصبهم العداء من أول وهلة وأخذ يشن عليهم الغارة تلو الغارة حتى أثخن جراحهم وقتل قادتهم وجندهم وتعقب أثرهم في بسل والقنفذة وتربة وناصرة في ديار بالحارث متعاوناً مع الجيش السعودي الباسل حتى أصبح المطلوب رقم واحد عند الباب العالي في الدولة العثمانية وحامياتهم في الجزيرة العربية، ولحنكته وحسن إدارته للحرب ودفاعه المستميت عن وطنه وهويته لم يتمكنوا منه في ساحة المعركة، ومن أهم معاركه على الإطلاق معركة وادي قريش (زهران) التي حدثت عام 1229هـ حيث تصدى لجيشهم الذي قدر بعشرين ألفاً وجيش زهران وغامد الذي قدِّر بعشرة آلاف مقاتل فهزمهم شر هزيمة بعد أن قتل منهم في يوم واحد ألف محارب بين قائد وجندي، ولما أدرك قادة الغزاة أن لا فائدة من حربهم هذه وأن الهزيمة مصيرهم لا محالة قرروا الانسحاب والعودة إلى الطائف يجرون أذيال الخيبة.

 كيف تم القبض عليه وقتله؟
 بعد أن أعيت القيادة التركية في جنوب الجزيرة العربية القوة لتحقيق رغبة الباب العالي في القاهرة وإسطنبول للقبض على بخروش حياً أو ميتاً لجأوا إلى الحيلة فألقوا القبض على بعض قومه وسجنوهم واشترطوا حتى يطلق سراحهم تسليمهم بخروش، وبعد أن تأكد الخونة من وجوده في منزله في قريته العدية حاصروا بيته ونقبوا جداره، ودخلوا عليه وهو نائم وسلاحه ليس معه فاستطاعوا القبض عليه ووضعوا الأغلال في يديه ورجليه ورحلوه على وجه السرعة لمقر القيادة في (قوز بالعير) ناحية القنفذة.
 وفي صبيحة اليوم التالي قابل قائد الحامية هناك الأمير بخروش فقال له: لماذا فعلت بجنودنا ما فعلت؟ قال بخروش في ثبات ووضوح وهو مكبَّل بالأغلال: أنتم غزاة مجرمون ومن حقي مقاومتكم وما دمت حياً سوف أفعل ما أريد، قال له القائد: وأنا سوف أعاملك بنفس المعاملة ووجه جنوده بإعادته إلى سجنه في نفس الخيمة التي كان يسكنها الأمير الأسير طامي بن شعيب العسيري فعرض بخروش على طامي الهرب، لأنه أدرك المصير المحتوم وهو القتل إلا أن الأمير طامي لم يوافق على ذلك وعدَّ الهرب عاراً لا يليق بهما فطلب منه بخروش التكتم على الخبر وقال: سوف أتدبر الأمر بنفسي، وفي ليلة ممطرة والجند نائمون تحت الخيام استدرج حارسهما حتى استطاع الإمساك به وخنقه حتى الموت ثم أخذ سيفه وهرب، ولما علم القائد التركي هروبه أعلن النفير العام ثم طارده الجند واشتبكوا معه فقتل منهم سبعة وقيل خمسة عشر ولم يستطيعوا القبض عليه إلا بعد أن انكسر سيفه عندها ألقوا القبض عليه وأعادوه إلى خيمته مع رفيق دربه في الفداء والتضحية، ثم أمر الجند بعدم قتله مباشرة وإنما وخز جسمه بالحراب حتى ينزف ويموت موتاً بطيئاً انتقاماً منه، وتقول الروايات التاريخية إنه رغم الآلام والنزيف المستمر لم يتوسل لأحد منهم ويطلب الرحمة منهم ولم يتأوه من شدة آلام الحراب واستمر الحال كما هو حتى لقي ربه.
وبعد وفاته دفنوا جثمانه في مقر القيادة قرب القنفذة وقطعوا رأسه ورحَّلوه مع البطل طامي بن شعيب حياً إلى القاهرة، وهناك وضعوا رأس بخروش على كتف طامي وطافوا بهما شوارع القاهرة مع رفع الأعلام على كوكبة من الخيول وعزفوا الموسيقى ابتهاجاً بالنصر الخالي من المضمون، ثم نقلوهما بعد ذلك إلى إسطنبول وقاموا بنفس الحركة ثم دفنوهما في قبر واحد.
ولم يتأخر نصرهما حيث لم تعِ القيادة التركية ذلك الدرس والهزيمة النكراء التي باؤوا بها بل عاودوا الغزو لهذه المنطقة مرة ثانية بعد عام 1300هـ قادمين هذه المرة من عسير فقابلهم جيش زهران بقيادة الفارسين راشد بن جمعان بن رقوش وأحمد بن عصيدان فهزموهم في قرية شبرقة التي تقع جنوب العُدية بثلاثة وعشرين كيلاً تقريباً شر هزيمة وولوا هاربين فطاردت فلولهم الخاسرة جيوش زهران وغامد حتى عاد من بقي منهم إلى عسير يتجرعون كأس الهزيمة للمرة الثانية.

ماذا قال عنه المؤرخون العرب والمستشرقون؟
- يقول الدكتور المؤرخ محمد بن مسفر الزهراني في بحثه تحت عنوان «بلاد زهران في ماضيها وحاضرها»: (وقد أظهر بخروش في حروبه ضد الأتراك شجاعة نادرة وإخلاصاً صادقاً لآل سعود وكان بالتالي حجر عثرة أمام توسع الأتراك في منطقة عسير سراة وتهامة).
- أما الأستاذ الدكتور غيثان بن علي بن جريس أستاذ التاريخ بجامعة الملك سعود فقد قال في كتابه «القول المكتوب في تاريخ الجنوب»: (... وكان على مقدمة القوات السعودية الأمير بخروش بن علاس الزهراني الذي ألحق خسائر فادحة بجيوش محمد بن علي).
- أما الأديب والكاتب محمد بن عبداللطيف آل الشيخ فقد كتب عن بطولات بخروش عبر صحيفة الجزيرة وتساءل فيها عن سبب تجاهل التاريخ والمؤرخين لأبطال هذا الوطن العزيز الذين ضحوا بأرواحهم دفاعاً عن الأرض والعرض في زاويته (شيء من) حيث قال عن بخروش: (وكان بخروش مضرب مثل في الشجاعة والقوة والإصرار والإخلاص والتفاني للدعوة والدولة... إلخ).
- وفي شهادة مستحقة من مستشرق أحسبه محايداً قال المؤرخ الإيطالي (جيوفاني فيناتي) الذي رافق الحملة التركية على الجزيرة العربية عن بخروش: (لم يشهد العرب أشجع من بخروش في زمانه).
- أما المستشرق جون لويس بوركهارت الذي رافق هو الآخر الحملة التركية على الجزيرة العربية فقد قال في كتابه «البدو والوهابية»: (بخروش واحد من أكثر الزعماء الوهابيين حكمة).

ذو صلة