مدحت شيخ الأرض
الملك عبدالعزيز وعلى يمينه الأمير سلمان بن محمد بن سعود بن فيصل وخلفه جالسا ولي عهده الأمير سعود، والأمير فيصل،
والشيخ عبدالله السليمان، وعبدالله بالخير، والدكتور مدحت شيخ الأرض ورئيس أرامكو بالزي السعودي، في حفل افتتاح الخط الحديدي بين الرياض والدمام 1951م
مدحت شيخ الأرض.. بين الطب والسفارة
د.عبدالكريم إبراهيم السمك: الرياض
على واقع نازلة بلاد الشام عامة وسوريا خاصة، بعد استعمارها من قبل فرنسا؛ دخل السوريون في مناهضة الاستعمار الفرنسي على أرضها، بدايةً من معركة ميسلون في 24/ 7/ 1920م، وحتى الثورة السورية الكبرى عام 1925م، حيث استجاب السوريون لهذه الثورة على الأرض السورية، وشهدت دمشق وغوطتها أكبر مواجهة حربية بين الدمشقيين ومن التحق بالثورة من غير أبناء دمشق، وقد مارس الفرنسيون سياسة الإبادة في سعيهم للقضاء على الثورة، وبخاصة في مدينة حماة ودمشق وغوطتها وجبل العرب، وكان الدكتور مدحت شيخ الأرض واحداً من جملة أطباء التحقوا بالثورة. ومع تمكن الفرنسيين من إطفاء جذوة الثورة في دمشق وغوطتها وجبل العرب؛ انسحب الثائرون إلى الجنوب، حيث شرق الأردن، ونزلوا في بلدة الأزرق. وقد خاف الإنجليز على استقرار وضعهم في فلسطين وشرقي الأردن؛ فتوجهت قوات بريطانية لطرد الثائرين، فقصدوا جيرة الملك عبدالعزيز، فوصلوا إلى القريات ووادي السرحان، وطاب لهم المقام في هذا الجوار، وكان الدكتور مدحت من جملة الذين وصلوا إلى القريات، ومن القريات قصد الدكتور الرياض، وقدم نفسه للملك عبدالعزيز، فرحب فيه الملك، ونال في جواره الأمان والعيش الكريم.
مولده ونشأته التعليمية
في مدينة دمشق ولد الدكتور مدحت، وذلك سنة 1318هـ/ 1900م، لأسرة كريمة دمشقية، وكانت دمشق حاضنة لأسرتين تحمل الكنية نفسها (شيخ الأرض)، فالأولى التي ينتسب لها الدكتور تسكن في حي القنوات، والثانية تسكن في حي العمارة البرانية، وكلا الأسرتين جاءت ترجمتهما في كتاب معجم الأسر الدمشقية، وتحدث الكتاب عن الدكتور وأسرته. وفي مدينة دمشق تعلم في مدارسها، في جميع المراحل التعليمية، وبعد حصوله على الثانوية العامة، التحق بمعهد الطب العربي بدمشق، وتخرج منه سنة 1924م، وكان الدكتور محمود حمدي حمودة واحداً من الأطباء الذين ساهموا في نشأته، ومع تخرجه كانت الثورة السورية قد اشتعلت في دمشق وبقية المناطق السورية، فالتحق في الثورة مع أبناء دمشق، وقد ترتب على مشاركته هذه -كما سبقت الإشارة- الالتجاء إلى المملكة العربية السعودية.
ولي العهدالأمير سعود وحوله الدكتور مدحت شيخ الأرض، وخير الدين الزركلي، وعبدالعزيز الرفاعي في تتويج الملك جورج، في لندن ١٩٣٧
شيخ الأرض في ديوان الملك
بعد وصول الدكتور مدحت شيخ الأرض إلى الرياض، قدم نفسه للملك عبدالعزيز طبيباً، للعمل في مديرية الشؤون الصحية، ورحب به الملك عبدالعزيز، ليكون من ضمن الفريق الطبي السوري الذي سبقه في الوصول إلى الرياض، وهم: د.محمود حمدي حمودة مدير الصحة العام وطبيب الملك الخاص، والدكتور محمد علي الشواف. وفي مجال نشاطه الطبي هذا حفظت لنا ذاكرة جريدة أم القرى وصوت الحجاز شيئاً من أخباره الكريمة، في مزاولته لمهنة الطب، إضافةً لملازمته للملك عبدالعزيز طبيباً خاصاً له. كما يشير إلى ذلك كتاب الرحلة الملكية، والمعنية برحلة الملك عبدالعزيز من المدينة المنورة عائداً منها إلى الرياض، حيث كان الدكتور مدحت مرافقاً له برحلته هذه، والمؤرخة في 13/ 10/ 1345هـ 15/ 4/ 1927م. وقد أشارت إلى خبر الرحلة جريدة أم القرى في عددها رقم (122)، برقم تكشيف (1188)، الصفحة الثانية، مقال للدكتور مدحت نفسه عن خط سير الرحلة حتى وصولها إلى الرياض.
وتمثل جريدة أم القرى كما هو معروف، جريدة الدولة الرسمية، وقد احتوت ذاكرتها على العديد من أخبار الدكتور مدحت، وهي كذلك تمثل ذاكرة التاريخ السعودي الحولي، وقد احتوى قرابة ثمانية أعداد أخباراً عن الدكتور مدحت، وجاءت أخبار خدماته والأعمال التي تم تكليفه فيها طيلة سنوات التكليف التي ارتبطت خدماته فيها بالمملكة، فقد عاش في ظل الملك عبدالعزيز وبمعيته قرابة ستة وعشرين عاماً، مع خلفه الكريم الملك سعود والملك فيصل والملك خالد رحمهم الله.
وهذا بيان بأخبار الدكتور مدحت، وهو في ظل ديوان الملك عبدالعزيز، وفق ما اعتمدته دارة الملك عبدالعزيز في كتابها الذي أصدرته عن الجريدة في مجلدين:
1 - خبر سفر شكري القوتلي ومعه الشيخ كامل القصاب وبمعيتهم الدكتور مدحت شيخ الأرض إلى سوريا وذلك سنة 1349هـ / 1930م.
2 - خبر وصول د.مدحت شيخ الأرض، والدكتور بشير الرومي، بعد الانتهاء من دراستهما التخصص في الطب من أوروبا.
3 - وصول د.مدحت شيخ الأرض من أوروبا سنة 1356هـ - 1937م.
4 - صدر أمر سامٍ بتعيين د.مدحت شيخ الأرض، الطبيب الخاص لجلالته، مديراً عاماً لصحة الرياض.
5 - عطف كريم بمنح د.مدحت شيخ الأرض والدكتور رشاد فرعون لقب مستشار لجلالة الملك.
6 - صدور أمر ملكي بإنعامه على مدحت شيخ الأرض بلقب وزير دولة.
7 - قدوم د.مدحت شيخ الأرض إلى الطائف من الرياض بمعية الملك عبدالعزيز سنة 1370هـ - 1951م.
وفي جريدة صوت الحجاز جاء من أخبار الدكتور مدحت شيخ الأرض:
- خبر وصول الدكتور مدحت شيخ الأرض قادماً من سوريا إلى العاصمة 1351هـ /1933م.
- سفر بعض رجال جلالة الملك إلى الرياض وبمعيتهم الدكتور مدحت شيخ الأرض 1353هـ - 1934م.
- خبر مغادرة الدكتور مدحت شيخ الأرض من جدة إلى مصر، حيث سينتظر هناك ولي العهد للسفر إلى أوروبا في 1356هـ / 1937م.
- خبر وصول طبيب الملك الخاص د.مدحت شيخ الأرض قادماً من أوروبا 1356هـ /1937م.
شيخ الأرض مستشاراً في ديوان الملك سعود
بوفاة الملك عبدالعزيز رحمه الله في 2/ 3/ 1373هـ، تم تعيين الدكتور مدحت مستشاراً ملكياً في ديوان الملك سعود، لمدة سنتين، وبعد سنتين تم نقله للعمل سفيراً للمملكة في مدريد من سنة 1955-1961م، ثم تم نقله إلى ليبيا بناءً على طلبه، ومن بعد ليبيا نقل إلى فرنسا من سنة 1963-1964م، وفي سنة 1972م نقل إلى سويسرا بتوصية من الملك فيصل، ليكون ممثلاً للمملكة في منظمة الأمم المتحدة في جنيف حتى سنة 1990م.
وخلال إقامته في جنيف، أسس مؤسسة ثقافية إسلامية فيها، وكان الملك فيصل قد أناط به بناء مسجد في جنيف، وقد تم بناء المسجد وافتتحه الملك خالد سنة 1977م، وكان المسجد سبباً في دخول الكثيرين في الإسلام، ومنهم المفكر الفرنسي روجيه جارودي، وكان المركز الإسلامي حافلاً بالنشاط الدعوي الإسلامي، تحت إشراف الدكتور مدحت شيخ الأرض رحمه الله.
وعلى هذه الصورة يكون الدكتور قد خدم في السلك الدبلوماسي قرابة ثلاث وعشرين سنة، تاركاً في ذاكرة التاريخ الدبلوماسي السعودي أسمى الصور عن مكانة المملكة عالمياً، لما يتمتع به من علاقات اجتماعية في وسطه الدبلوماسي الذي كان يخدم فيه، وعندما أحيل للتقاعد تفرّغ للعمل الدعوي الإسلامي من خلال المركز الإسلامي الذي أنشأه في جنيف رحمه الله.
وفاته
عندما أدركت الوفاة الدكتور مدحت رحمه الله، كان قد بلغ العمر فيه قرابه مئة عام، وجاءت وفاته في يوم الجمعة 18/ 5/ 2001م، وصلّي عليه في جامع الإمام تركي بن عبدالله، وفي الرياض تم دفنه. وتخليداً لذكراه، بنى ورثته له مسجداً في مكة المكرمة في حي بيبان في جرول، وقد خلف وراءه ابنته هالة، وولده رفعت من رجال الأعمال.
وفي ختام الترجمة فإن الذي يتتبع سيرة الدكتور في خدمة المملكة العربية السعودية، موزعة بين عمله الطبي والدبلوماسي يجد بأنه في سنوات عمله، قد تجاوز النصف قرن، خدم فيها في ديوان الملك عبدالعزيز رحمه الله، ومن بعده خلفه الكرام الملك سعود والملك فيصل والملك خالد، تاركاً خلفه في ذاكرة التاريخ السعودي الكريم أسمى صور الوفاء لهذه البلاد وولاة أمرها. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.