عبدالله بك كاظم
عبدالله بك كاظم.. كاتم الأسرار وحاوي الأسلاك
محمود صباغ: جدة
خبر تعيين عبدالله بك كاظم مديراً عاماً للبرق والبريد، سنة 1926
أقصوصة من أم القرى: بعثة اللاسلكي إلى لندن
عندما دخلت تقنيات الاتصال الحديثة على مجتمعاتنا المستغرقة في عزلتها، هلع نفر من الأهالي لكشف تلك التقنيات لأسرارهم، وهتكها لسرائرهم. اعتبروا ذلك الاقتحام جنوحاً عاتياً.. سوف يزحزح قيمهم السائدة، ويقذف بكل ما ألفوه من عالمهم اليقيني في أتون مصائر يفقدون فيها رحى السيطرة. نفر آخر من الممانعين اتجه إلى إدانة التقنيات بحجج موروثة.. خلعوا عليها ألفاظ الحظر ورجس الشيطان، وردوها إلى أفعال السحر والحواية.
كانت تلك أول فصول توترات دخول الحداثة، وإرهاصة سجالات سؤال الخصوصية التي استفزتها تقنيات بدائية خجولة، سبقت عصر الـ(Big Data) الذي انفجر على مصراعيه في حياتنا المعاصرة، وانكشف عن طوفان تفيض فيه البيانات بسرعات رقمية هائلة، وتتدفق بأنماط سحابية غامرة، تطوقنا ذيولها باستحقاقات معقدة في حماية البيانات وآداب التشفير الكودي.
ولأجل طمأنة الأهالي وتسكين النزعات المتوجسة حينذاك، اجتمع مجلس الوكلاء في مكة برئاسة نائب الرئيس، الشيخ عبدالله سراج، وأصدر قانونيّ البرقيات والبريد، وقانون موظفي البريد والبرق والتلفون. وقد نصّ الثاني، في مادتين: أنه (على مأمور التلفون أن يجتهد كل الاجتهاد في كتم أسرار المحاورات التلفونية).. وأنه (لا يجوز لمأمور التلفون ولا لغيره استماع محاورات الدوائر الرسمية إلا بطلب من صاحب المحاورة وتكليفه).
في زمن الريب، كان (كتم الأسرار) عُملة رئيسة وأولوية يجب أن تتوافر فيمن ينظّم تخابر الأسلاك البرقية. وكان تأسيس النظام البرقي والبريدي المنتظم بداية لإخضاع الحجاز للسيطرة العثمانية، ثم جاء عهد الحسين الذي تضاعفت فيه مشاعر الأوهام والارتياب، وكان من البدهي أن ينحسر ذلك الارتياب عن مظاهر إهمال وتخلف.
توارت إدارة البريد في مبنى متواضع من ثلاثة طوابق، يقع في سوق صغير بجانب باب الوداع، ضم جميع مكاتب الأقسام، منها مكتب المدير العام الذي حُشر في غرفة 3×3 أمتار، يعمل به إلى جانبه نفران، فيما لا يتجاوز عدد موظفي الإدارة كاملة الثلاثين موظفاً. وكانت رسائل البريد والأمانات تنطلق إلى خارج مكة على أكوار الهجن رفقة الجمّالة، وتوزع داخلياً عن طريق شيخ الحارة في أكياس من القلع تحملها ظهور الحمير.. حتى لقد اقترن البريد شعبياً باسم: (بوسطة الحمّارة).. فيما حمل فرد ساعي البوسطة منهم لقب (موزع الحمّارة)!
وتوافرت المدن الرئيسة على أجهزة لاسلكي متداعية خربة، فيما لم يتجاوز عدد التلفونات في آخر عهد الحسين خمسين نمرة، أقصرها على ضروراته العسكرية والإدارية. لكن ثمة تيّار حديث كان يتنامى في الداخل، يريد توسيع رقعة (الترقي) و(التمدن) والاتصال بالمدنيّات المجاورة، وتحرير الذهنية من إسار الريبة، والعبور بالبلاد إلى روح العصر. حتى أتى العهد الجديد الذي لبّى تطلعات الذهنية المنفتحة الصاعدة.
صورة نادرة للشيخ عبدالله كاظم (بالعباءة البيضاء) يتوسط كوكبة من الشخصيات العامة وموظفي إدارة البرق والبريد. ويظهر عن يمينه معاونه الشيخ إبراهيم سلسلة، كما يظهر أيضاً معالي الشيخ عبدالله السليمان في وسط الصورة، وعن يساره الشيخ إبراهيم إسلام مدير المالية العام، وفي أقصى يمين الصورة نرى الشيخ إبراهيم الجفالي وكيل شركة سيمنس. (مصدر الصورة: عائلة الشيخ عبدالله كاظم)
ما بعد الريبة
مع رفع حصار جدة، رفعت اللجنة الأهلية التي انتخبها السلطان عبدالعزيز بجدة، برئاسة الحاج عبدالله علي رضا قرارها بتعيين الشيخ عبدالله بك كاظم مديراً عاماً لدائرة البريد والبرق واللاسلكي في سائر البلاد.
ورغم توافره على خصال الورع والاستقامة والنزاهة، التي تجعل منه (كاتم أسرار) نموذجياً لاتصالات الأسلاك؛ كان المدير العام الجديد، يعبّر أكثر عن روح تلك المرحلة الجديدة التي رفعت شعارات السيادة الوطنية وإزالة الألقاب والأوهام الطبقية.
في مارس 1926م؛ بدأ كاظم إدارته بقرارات شعبية، وذلك بتخفيض أجور الخدمات، وتوفير أخرى كانت ممنوعة على عهد الحسين. أخفِضت أجور البرقيات اللاسلكية من خمسة قروش على كل كلمة إلى ثلاثة قروش، وأجور المكاتيب لعموم المدن الداخلية إلى نصف قرش أميري، وللخارج قرش ونصف أميري، كما ألغيت طوابع السندات التي تلصق على كواشين البرق والبريد. فيما صار البريد ينقل أخيراً بواسطة السيارات بعد أن كان ينقل على ظهور الحمير، كما سمح بتركيب التلفونات للعموم في الدور والدكاكين.
وطرح في أغسطس 1926م مشروع صناديق البريد المخصصة أمام المنازل والدور، لأول مرة في البلاد، كما هو معمول به في سائر البلدان، وبنصف الأجرة. (لحفظ المراسلات، وسرعة تسليمها إلى أصحابها). ثم قام بتنزيل أجرة صناديق البريد بمكة إلى نصف جنيه في أكتوبر 1926م.
وفي حج سنة 1345 للهجرة (الموافق مايو 1927م)؛ سخّر كاظم صناديق في طرقات مكة للتسهيل للحجاج إرسال جواباتهم. وشرع في قبول الحوالات والطرود العادية في مديرية البرق والبريد في مكة منذ يوليو 1927م.
وأضاف (سنترال) آخر، سعة مئة نمرة أخرى، وضعه في مبنى المالية، تماشياً مع توسعات الجهاز البيروقراطي، واستمر في إضافة السنترالات اليدوية في وتيرة متسارعة حتى وصل عددها إلى خمس مئة نمرة، امتصّت احتياجات الحكومة الجديدة وأغلب الطلب الجماهيري المتزايد. كان كاظم يكشف عن مواهب إدارية تحركها ذهنية حداثية سوف تجعل منه أحد الرموز الحيوية للحكومة الجديدة.
جينالوجيا عبدالله بك كاظم
وعبدالله بن إسماعيل بن كاظم، هو مواطن مكي من أهل حارة جياد، من مواليد سنة 1889م على وجه التقريب. درس أولاً عند (الخطاط) وفي الحرم المكي، ثم في المدرسة الرشيدية. وهو يجيد إلى جانب العربية، التحدث بطلاقة باللغتين التركية والإنجليزية. وهو موظف عصامي، شبّ على حب الوطن والخدمة العامة، وهو من غير عائلة كاظم الثريّة في مكة، مطوفي الهنود والبنغال، آل محمد حسن كاظم وإخوانه.
تدرج عبدالله كاظم في العمل في إدارة البوستة والتلغراف، فبدأ مأموراً لتلغراف بحرة، إحدى ملحقات مكة، في أنحاء عام 1908م، كما ورد ضمن جدول متحصلي إعانة الدولة في مكة المنشور في صحيفة (حجاز) الرسمية الصادرة من مكة. ثم ترقى مع عام 1910م إلى مأمور من الصنف الثاني في بوستة وتلغراف مكة، في المركز، ليعمل تحت إدارة أحمد خيري أفندي، يزامله محمد علي مفتي ومحمد هندي. فيما حل مكانه في مديرية بحرة: جمال كتوعة.
ولما قامت الحركة العربية في مكة؛ تم تقديم عبدالقادر أفندي يوسف غزاوي، الذي كان يعمل في مرتبة أقل من كاظم، إلى منصب مدير عام البرق والبريد.
كان الأفندي غزّاوي، ابناً لمطوف ميسور شغل منصب رئيس طائفة المطوفين، وكان مقرباً من بلاط الشريف حسين. وكانت مخاوف (الريبة) تسيطر على مجرى التعيينات، (القرابة) وضمانة (كتم الأسرار) قبل (الجدارة). تعيّن غزّاوي نائباً لرئاسة مجلس الشيوخ في مكة، إضافة إلى منصبه كمدير عام للبرق والبريد، لكنه اضطر، مع بداية العهد السعودي، إلى ترك البلاد مؤقتاً لحين استتباب الأوضاع السياسية؛ كونه كان من أركان حكومة الحسين. كان ذلك إيذاناً لصعود عبدالله كاظم، وإعادة الاعتبار لكفاءته وأسبقيته.
بيت اللاسلكي في جدة، سنة 1918. (أرشيف لورانس)
مؤسس اللاسلكي
مع تسلمه إدارة البرق والبريد؛ هرع كاظم إلى إعادة ترميم ما خربته النزاعات السياسية الأخيرة. نصب ماكنة جديدة للبرق اللاسلكي في الطائف، في سبتمبر 1926م، وأعاد المخابرات البرقية إليها.. ووضع آلة تلفونية لاسلكية خفيفة في مكة يمكنها تناول الأخبار من جميع الجهات.
طفق يزرع ما يتحصل عليه من أجهزة السبارك القديمة في مراكز حيوية في الأنحاء، في جازان (1927م).. وفي الليث، وموانئ البحر الأحمر الشمالية.
يقود جهود التعمير تلك باستعدادات ذاتية.. ويشترك شخصياً في تركيب ونصب تلك الأجهزة رفقة معاونين هما: إبراهيم سلسلة وإبراهيم زارع. مثل حادثة إصلاحه جهاز اللاسلكي القديم الموجود في المدينة منذ زمن الأتراك.. وكان في طبيعة متهالكة.
لقد استشرف كاظم باكراً ضرورات توسيع رقعة الاتصالات الجغرافية، ولم تكن النتائج مرضية؛ فأجهزة السبارك، وهي صناعة ألمانية متواضعة، كانت ذات صوت ضعيف تضيع منها الإشارات البرقية عند التأثيرات الجوية، بل تتعطل حركة عملها تماماً عند هطول الأمطار والرعود أو البروق. كان غير الناجز من البنية التحتية، أوسع بكثير مما تم إنجازه.
جيّر كاظم علاقته المميزة مع السلطان عبدالعزيز إلى كسب ثقته في ترجيح جلب أجهزة ماركوني الحديثة لتواكب تغير نظام الاتصالات البرقية.
يقول فرينان بروديل: إن المسافة هي العدو الأول لأي وحدة بشرية، أزاح السلطان عبدالعزيز أعند الخصوم لما وحّد أطراف الجزيرة العربية، إلا المسافة بقيت عقبة جوهرية تهدد مشروعه الحديث.
ومع مطلع الثلاثينات، تضافرت العوامل الموجبة التي دعت جلالة الملك إلى حسم ربط جغرافية البلاد بشبكة تلغراف متطورة. فأصدر أوامره إلى جملة من رجاله، على رأسهم الشيخ عبدالله كاظم بتطوير رقعة الاتصالات في البلاد وتأسيس شبكتها اللاسلكية بأحدث الأجهزة. (لقد كان الشيخ عبدالله كاظم الكل في الكل في إدارة الأعمال المذكورة، وكان رجلاً صالحاً ومحبوباً كبير السن وقوراً.. له كلمة مسموعة وطلبات مجابة لدى جلالة الملك عبدالعزيز)، كما يقول محمد سعيد عالم أحد أوائل موظفي إدارة البرق والبريد، وشاهد مرحلة التأسيس.
عهدت الحكومة السعودية مقاولة جلب أجهزة ماركوني البريطانية إلى الشركة الشرقية للحاج سان جون فلبي. وتم توقيع العقد رسمياً في 7 أكتوبر 1930م، بقيمة (36900) ستة وثلاثين ألفاً وتسع مئة جنيه إنجليزي، معلناً مرحلة التحول من استخدام جهاز السبارك القديم إلى أجهزة ماركوني ذات الموجات القصيرة.
أسس كاظم أولاً مدرسة بجدة لتعليم أشغال اللاسلكي في المخابرة والأعمال المكاتبية.. وصل قيد الطلاب بها مئة ونيفاً، اختارت منهم الإدارة (48) طالباً فقط. رافقها إرسال بعثة فنية إلى بريطانيا في نوفمبر 1930م.. تضم ثلاثة موظفين، لتعلم فن اللاسلكي أصالة عند شركة ماركوني في تشيلمفورد، وهم: إبراهيم سلسلة مفتش عموم اللاسلكي، محسون أفندي حسين مدير لاسلكي جدة، وإبراهيم زارع مدير لاسلكي ينبع.
رافق الموظفين المبتعثين في أوبتهم، مهندس شركة ماركوني، أستاذهم الإيرلندي المستر بوزكال.. وشكّلوا -مجتمعين ومفترقين- فرق التعمير المقيمة والمرتحلة، التي نصبت الأجهزة الجديدة، وعممت شبكة الماركوني الحديثة في أرجاء البلاد.
وتقرر إنشاء مركزين (لاسلكيين) رئيسيين لمكة المكرمة والرياض، قوة كل واحدة منهما 6 كيلوات.
وصلت أول دفعة من الأجهزة إلى ميناء جدة من شركة ماركوني من لندن.. عبارة عن أربع سيارات لاسلكي في أبريل 1931م.
ولإجراء التجارب المؤقتة، اختيرت أرض فضاء في ضاحية المعابدة، خلف قصر السقاف الملكي في مكة. أُحضر جهاز الماركوني ذو الذبذبة العالية، ووضع في (شنطة) كبيرة على سيارة اللوري الخصيصة التي نقلته من ميناء جدة.. فيما نصبت العواميد بضاحية الششة أمام قصر النائب العام. أمر كاظم بك، فخري أفندي، وهو موظف لاسلكي مخضرم، لإدارة عمل التجارب.. فكان الفريق يتصل بالمدينة وجدة ورابغ كتجارب أولية، ثم بضبا والوجه والعلا.. (وتبيّن أن المرسلة الجديدة تعمل بوضوح تام، عكس أصوات مراكز السبارك القديمة المرهونة بتقلب حالات الطقس. واستمرت التجارب ما ينوف على 15 يوماً).. كما يتذكر حامل الشنطة، المتدرب محمد سعيد عالم.
رُكب الجهاز في مكة، عبر الفريق المحلي بقيادة إبراهيم سلسلة ومحسون حسين، فيما كان المهندس بوزكال قد انطلق إلى ضباء والأنحاء الشمالية لتركيب أجهزتها حسب الخطة المرسومة.
وحضر جلالة الملك عبدالعزيز للوقوف على نجاح تجارب أول جهاز ماركوني، ومباركة تدشينه. استقبله المدير العام الشيخ عبدالله كاظم، يصحبه أكابر موظفيه: محسون حسين وإبراهيم سلسلة وفخري أفندي. وجرى اتصال بين مركز المعابدة، ومركز ضباء.. فكتب أميرها لجلالته برقية تهنئة بهذه المناسبة في حينه، قرئت على جلالته: (كل عام وأنتم بخير.. يا طويل العمر).
أشخص كاظم بعدها، محسون أفندي حسين، رفقة فريق من المعاونين، إلى الرياض لبناء محطة لاسلكي الرياض المماثلة - التي تقرر مكانها في حي الديرة.
وفي يوم الأربعاء 20 أغسطس 1931م جرت أول مخابرة لاسلكية في التاريخ بين الحجاز ونجد، وكانت تحديداً بين الطائف والرياض، وهي برقية من الأمير فيصل رفعها لحضرة صاحب الجلالة الملك والده في الرياض.
على إثر النبأ المباشر بين القطرين حديثي العهد بالوحدة السياسية، رفع مجلس الشورى في مكة عبر نائبه الثاني محمد شرف رضا، برقية لصاحب الجلالة الملك، يبارك له تلك اللحظة التاريخية.
وجّه الشيخ عبدالله كاظم بتركيب كامل عدة جهاز ماركوني بصفة دائمة على أرض أخرى في المعابدة مساحتها 250×250 متراً.. وقام بمباشرة التركيب كل من إبراهيم سلسلة ومحسون حسين وإبراهيم زارع ومهندس تركي اسمه طرغد بك ومهندس تركي آخر اسمه علي أفندي.
وانتشر فريق كاظم، يشاطرهم المهندس بوزكال لاستكمال نثر باقي عقد مراكز شبكة اللاسلكي الحديثة، التي وصلت إلى عشرين مركزاً جديداً.
وعمّت الاتصالات البرقية بريدة وحائل وتبوك وقريات الملح منذ سبتمبر 1931م، ثم القطيف والجبيل والعقير منذ يوليو 1932م. وحصلت الأحساء على جهاز ماركوني ثابت في ذات الفترة، بعد أن كانت تعتمد على جهاز سيّار منذ أكتوبر 1931م. تلاه مركز الدوادمي في أكتوبر 1932م. حتى وصلت مراكز اللاسلكي مع حلول فبراير 1933م إلى 28 مركزاً لاسلكياً تجري عليها المخابرة لكافة الأنحاء، منها ثمانية قديمة، ومن هذه المراكز 19 مركزاً تلغرافياً وتلفونياً في آن واحد.
استئناس الدهر
كان البريد على الهجن السريع يستغرق بين مكة والمدينة ما بين يومين إلى ثلاثة أيام، وكانت الرحلة من قلب نجد إلى مكة تستغرق من أقل من شهر إلى أكثر من سبعين يوماً، تكثر وتقل بحسب السير والمهل. لكن كاظم سوف ينسف تلك السمات البنيوية الثابتة منذ القرون الوسطى، ويحدث انقلاباً هائلاً ينسجم مع نغمة ناموس التطور. لقد تقرر نقل البريد لأول مرة على سيارات بين مدن مكة وجدة والمدينة منذ أبريل 1929م. وبدأت رحلة أسبوعية لسيارة البريد بين مكة والمدينة تنطلق عصر كل سبت من مكة، اختصرت الزمن إلى خمس عشرة ساعة. فيما انطلق أول بريد بالسيارات يصل مكة بالرياض فالأحساء، ابتداء من يوم الإثنين 17 أكتوبر 1934م. لينتظم مرة كل خمسة عشر يوماً، مختصراً الزمن بصورة قياسية.
موزع الوحدة
أعقب انبساط ساحليّ البحر بأول جسر بريدي؛ إطلاق خطوط أخرى رسخت للوحدة الجغرافية الجديدة. واستطاع عبدالله بك كاظم، في أقل من عقدين من الزمان، نسج كامل شبكته الترانس- وطنية للبريد. وانطلق خط بريدي بالسيارة من مكة إلى القصيم فحائل فالجوف لأول مرة في أغسطس 1934م. أما أول خط لبريد الجنوب فكان في 28 مارس 1941م، ربط بالسيارات بين مكة وأبها عن طريق بيشة مرتين في الشهر.
ومنذ أكتوبر 1949م ربط خط بريد بالسيارات إلى الشمال، ينطلق أسبوعياً كل ثلاثاء، من مكة ماراً في طريقه بجدة- ينبع- أملج- الوجه- وأخيراً ضبا. وخط آخر يغطي الجهة الجنوبية من مكة ماراً في طريقه بجدة - الليث- القنفذة- القحمة- وأخيراً جيزان.
وكاظم الذي لم يكن يعرف التؤدة، بادر للتوزيع الجوّي مع انطلاق خطوط الطيران، فمنذ فبراير 1937م أرسل أول بريد جوي من جدة للمدينة، لينتظم يومياً عبر شركة الملاحة المصرية التي رخصت لها الحكومة السعودية. وفي سبتمبر 1947م عممت مراسلات البريد الجوي على الطائرات السعودية بين جدة والطائف والرياض والظهران ومصر.
وأطلق مركز التلفون في الرياض في فبراير 1933م. وجرت المكالمة التلفونية اللاسلكية الأولى بين مكة والرياض في صباح الخميس 17 مايو 1933م، وكانت بين الأميرين سعود وفيصل، ودامت عشرين دقيقة.
ونقلت صحيفة (أم القرى) أخبار احتفال مبايعة ولاية العهد لسعود في الرياض لأول مرة عبر برقيات لاسلكية خاصة. وكانت أخبار الرياض تصل إلى مكة وتنشرها صحيفة أم القرى عبر برقيات عن طريق البحرين قبل ذلك التاريخ.
وفي يوم الخميس 22 أكتوبر 1931م جرت أول مخابرة لاسلكية بين الأحساء ومكة، وفي يوم السبت 24 أكتوبر من ذات العام جرت أول مخابرة بين مكة وبريدة.
نجومية السيادة الوطنية
اكتسب كاظم زخماً باكراً من مفاوضات الإيسترن التي زامنت أجواء تشكّل وعي الدولة الوطنية، لقد أوفد جلالة الملك عبدالعزيز كلاً من عبدالله بك كاظم والشيخ سليمان قابل إلى السودان لينوبا عن الحكومة في مفاوضات شركة الإيسترن في مارس 1926م. وهناك أنجز كاظم اتفاقية ملكية خط الكابلو (الكيبل البحري) بين جدة وبورتسودان، واتفاقية تشغيله التي بموجبها عُهد إلى شركة تلغراف (الإيسترن) المحدودة تشغيل الخط المذكور وتشغيل منتهاه في بورتسودان.. وأما منتهاه في جدة فقد احتفظت الحكومة السعودية لنفسها بحق تشغيله. وفرّغ كاظم محاسباً خاصاً مسؤولاً عن حسابات شركة الإيسترن للبرقيات الخارجية، هو عبدالخالق رفّة، وجعل مكتبه لصيق مكتبه في الطابق الثاني من بناية البريد القديمة.
وأسند كاظم لمؤسسة البريد إبرام الاتفاقات الدولية للبريد، وأعطى لها شخصيتها الملحوظة، وأتاح لها أن تتعاطى مع سائر الإدارات البريدية في الخارج.
ووضع البلاد على الخارطة الدولية، منذ اتفاقية البريد الدولية 1929م في مدينة لندن. ثم الاشتراك في عضوية اتحاد البريد العالمي ومقرّه بيرن منذ سبتمبر 1926م، والانضمام إلى الاتفاقات البريدية الموقع عليها في مدريد. واتفاقات بينية مع الهند وفلسطين بتبادل التحاويل البريدية وتصفية الحسابات المتقابلة، وأخرى مع البريد المصري من أجل تنظيم البريد الترانزيت عن طريق مصر.
وصمّم جدول إشارات حديثة يتماشى مع الأعراف الدولية. بعد أن كانت مراكز اللاسلكي القديمة تلقب نداءاتها بمصطلحات محلية غير معروفة دولياً، فجدة (ظفر) وأبها (قمر)، إلخ.
وعاد كاظم لقيادة مفاوضات الإيسترن بعد ما يراوح العقد. فحضر الأدميرال قرانت والمستر ستابلز مدير الشركة في بورتسودان إلى جدة في 31 مارس 1935م. واستقبلهما على سطح البارجة كل من الشيخ فؤاد حمزة وعبدالله كاظم الذي رافقه اثنان من موظفيه. طلب كاظم إلغاء اتفاقية عام 1926م، وإصدار اتفاقية جديدة كلياً. واستغرقت المفاوضات التي قادها الشيخ كاظم بكل حذق وتمرس 16 يوماً، انتهت بتوقيع الاتفاقية الجديدة رسمياً في قصر خزام بجدة في 17 أبريل 1935م.
التلغراف الأهلي
ضم هيكل البريد القديم قسماً خاصاً لموزعي البرقيات الأهلية للمطوفين والتجار، أداره الشيخ سعيد عادل، من الطابق الثالث من بناية البريد القديمة. فطن كاظم باكراً إلى أهمية تعميق أغراض البريد والاتصال، كان يريد تطويع المراسلات في متناول يد الناس، لسدّ الفجوات والفوارق.
كان مفاوض (الكابلو) المخضرم -أول وسيلة اتصال تجاري خارجي حديثة في تاريخ البلاد- يعي أكثر من غيره، أهمية الاتصال الخارجي في دفع عوامل الازدهار التجاري والمعيشي. منذ البداية رمى إلى استقبال البرقيات التجارية والأهلية من مراكز اللاسلكي، وعدم قصرها على المواصلات الإدارية والسياسية. واشتغل على شيوع خدماتها وانفتاحها على أرحب الآفاق الإقليمية والدولية.
بدأ لاسلكي الرياض في قبول برقيات الأفراد والجمهور للبحرين والعراق منذ يناير 1936م، وبين الرياض وسوريا منذ يوليو 1937م. وبدأ في تسيير البريد الخارجي من بريد الرياض في يوليو 1940م، وأسس مكتباً لقبول الحوالات والطرود فيها في أغسطس 1941م. وبوشر في سبتمبر 1948م بقبول البرقيات المباشرة بين جدة وأمريكا، عبر محطة لاسلكية عملاقة شيّدها كاظم في جدة. كما بوشر في قبول البرقيات الفردية إلى مصر من محطة لاسلكي جدة رأساً بأجرات متفاوتة للكلمة العادية، والمؤجل والمطبوعات والخطابي. ومنذ مارس 1952م، توسع كاظم في افتتاح محلات للجمهور، كنقاط بيع وتجزئة، في المعلاة وسوق الليل والشبيكة والشامية والقرارة والمدعى وجرول في شوارعها العامة. وهو نهج استمر من بعده.
قلعة جبل لعلع بعد إعادة بنائها في 1944 وتحويلها مركزاً للاسلكي مكة.
فجر تنظيم البيانات
في مطلع 1937م نظر مجلس الشورى أنظمة البرق والبريد والتلفون، بالتنسيق مع عبدالله كاظم وأجهزته الفنية، وقد صدرت تباعاً خلال تلك السنة قرارات متضمنة بنوداً تفصيلية انسجمت مع عصرها في تنظيم نقل البيانات والطرود. وخرج أول دليل لمشتركي التلفونات الموجودة في مكة والمدينة وجدة والطائف وجازان في 1938م. ودعت المديرية التجار وأهل المصالح للإعلان في الدليل واستغلال الفرصة المبتكرة للترويج لمصالحهم في مطبوعة دائمة. كان ذلك أول دفاتر تنظيم البيانات المحلية، وأولى مبادرات التكسب والتربح من تنظيمها.
سيارة البريد.. بساط الرمال الناعم
إلى جانب حمل الرسائل الحكومية والطرود والرسائل التجارية والأهلية، والحوالات المالية؛ تطورت خدمة سيارات البريد لتشمل نقل المسافرين. كانت (رحلة السبت) موعداً صاعداً في تقويم المدينة الحديث. سجّل يومياته نفر من الكتاب والأدباء ورواد الكفاح، في أحاديث ذكريات أسفارهم الباكرة، مثل عزيز ضياء الذي اعتبر نبأ ركوب سيارة البريد أشبه بالفرحة لأفراد جيله، (لأنها السيارة الوحيدة التي يفترض أنها لا تتعطّل في تغاريز الرمال أو الأوحال).
كان إشراف عبدالله بك كاظم، وحضوره الشخصي؛ دمغة بارزة ضمن برنامج طقس ركوب سيارات البريد. يستلم ويرتب وينظم أوامر الإركاب التي كانت تصدر آنذاك إما من مدير الأمن العام ورئيسه الأسطوري في مكة مهدي بك مصلح، أو من وزارة المالية صادرة من معالي الوزير عبدالله السليمان أو خلفه معالي الشيخ محمد سرور الصبّان.
لقد انصرم ذلك الزمن الذي اقترن فيه البريد بمفردات (الحَمّارة) التبخيسية، وصعدت (سيارة البريد) كأيقونة للحداثة الصاعدة وكموضة عصرية أولى، تلهج بها ألسنة الشبيبة المعاصرة على طول البلاد السعودية.
بطل التحول الأوتوماتيكي
وكان كاظم قد زرع، بطليعيته ودربته، في إدارة البرق والبريد عقيدة استشراف الأنماط الجديدة واقتباسها. ففي أكتوبر 1930م جلبت الحكومة خمسين ماكنة من ماكنات التلفون الأوتوماتيكي من شركة سيمنس لاستخدامها في قصري الملك ونائب الملك. وفي يونيو 1934م أهدت حكومة السوفييت خمساً وعشرين ماكنة تلفون أوتوماتيكي مع ماكنة سنترال، فقرر كاظم إضافتها إلى ماكنات التلفون الأوتوماتيكي الموجودة في مخازن الإدارة، وانتدب فريقاً من موظفي التلفون للتدرب على يد المهندس الروسي شينف الذي انتدب من أجل تركيبها، واستمرت التمارين شهرين.
ركبت التليفونات بين القصر الملكي ودوائر الحكومة في مكة المكرمة، وانتدب طالبان شابان تدربا على يد المهندس الروسي المنتدب هما إسماعيل بن عبدالله كاظم، ومحمد علي هداية، ذهبا إلى الرياض لتركيب أول جهاز سنترال في محل إقامة جلالة الملك.
لكن كاظم كشف عن ملامح مشروعه الطموح للتحوّل الكبير مع النصف الثاني لسنة 1938م، من خلال تطوير شبكة التلفون العمومية الحالية، والبدء في إجراءات التحول للجيل الجديد من السنترال الأوتوماتيكي؛ فانتدب لأجل ذلك خبيرين فنيين، هما: الفلسطيني شعبان حسن الريس (في أكتوبر 1938م)، والمصري مصطفى قشلان (في نوفمبر 1938م).. وكلفهما لإصدار تقارير عن ذلك.
استورد كاظم في سبتمبر 1938م، سنترالين كبيرين من الطراز الحديث لتسهيل المخابرات التلفونية وانتظامها، أحدهما يحتوى على (700) نمرة مقرّه مكة، والثاني (400) نمرة ومقرّه في جدة. وجرت مقاولة جلبهما من شركة (سيمنس) الألمانية، مع إيفاد مهندسين أخصائيين من طرفها للتركيب. ثم جلبت في يوليو 1939م اثنتي عشرة آلة تلفون من أمريكا، لترتفع أعداد الخطوط إلى ألف خط هاتفي. ومثل الأيام القديمة، شوهد عبدالله كاظم شخصياً في عمليات تركيب السنترالات، يعاونه إلى ذلك عبدالله أفندي فراش مدير التلفونات.
كان المهندس قشلان قد رفع تقريره عن تحسين وازدواج الشبكة القائمة إلى كاظم في فبراير 1939م، وقد جاء فيه ضرورة استيراد نواقص، والتحول من الشبكة الهوائية للأرضية.. وخطة ازدواج الخطوط بين المدن. ورفع كاظم تقرير الخبير إلى جلالة الملك عبدالعزيز. لكن اندلاع الحرب العامة أعاقت مخططاته. وظلت فكرة التحوّل إلى السنترال الأوتوماتيكي هي هاجسه الأول.
عاد كاظم، من جديد، بعد انتهاء الحرب العامة، للترويج لرؤيته التحوّلية، والاشتغال على خطواتها الأولى. اشتكى كاظم في التقرير السنوي لعام 1945م من (أن أعمال قسم التليفون لا تنتظم إلا إذا أعطي ما يستحقه من الموظفين والإمكانات).. فهو يخجل من إمكانات الاتصالات بالبلدان العربية المجاورة التي أدرجت استعمال السنترال الأوتوماتيكي. كان يبرر مسوغات طلبه إلى واجبه في تسهيل أعمال الجمهور، وتعظيم واردات الحكومة مع خفض مصروفاتها. ومع انخماد نيران الحرب، وانتعاش الاقتصاد السعودي من جديد، شرع كاظم في مشروع زيادة خطوط التلفون وتحديثها. اتجه صوب شركة سيمنس من جديد، واستورد منها تقنيات حديثة لازدواج المكالمات ورفع سعتها أربعة أضعاف. ومع انطلاق عقد الخمسينات صار بالإمكان تأمين ثماني مكالمات تليفونية في آن واحد بين مكة وجدة على الخطوط الحالية مقابل مكالمتين في السابق، وهي زيادة محسوسة للجماهير. وعمم كاظم ازدواج الخطوط التلفونية بين بقية المدن. وانفتح على حركة الاستيراد النشطة الأخيرة، فصار يجلب النحاس والعوازل والأسلاك من موانئ السويد وبريطانيا وأمريكا. واستمر ازدياد أعمال تركيب التلفونات، خصوصاً في مكة وجدة، لكن كاظم، لهوسه بالإتقان، كان يشعر أن إيقاع التحول لا يزال بطيئاً.
ومع مطلع عام 1950م؛ انفرجت مزيد من الاعتمادات المالية لتسعف مشروع كاظم الكبير، لقد تمت الموافقة على إنشاء السنترالات والتليفونات الأوتوماتيكية في كل من مكة وجدة والطائف، وأعدت المواصفات الفنية لذلك، وحازت جدة على قصب السبق لأول سنترال أوتوماتيكي في البلاد، وشرع في إنشاء بناية سنترال البغدادية. وكان على كاظم، مواجهة الجمهور الذي ألف عاداته القديمة وتباطأ في اقتباس الخدمة الجديدة. فقرر وضع السنترال الأوتوماتيكي بجانب السنترالات الحالية ريثما يتعود الجمهور على استعمال الأوتوماتيكي. كان كاظم يقود جولة جديدة من جولات جهاد تغيير الذهنية والممارسة السائدة، هذه المرة للتطبيع مع (السنترال الأوتوماتيكي). استمر مشروع التحوّل، حتى بعد خروج كاظم على المعاش، بعد أن وضع كامل قواعده الفنية والخططية. وبإشراف خلفه إبراهيم سلسلة استكمل إطلاق مشروع السنترالات العمومي، خصوصاً في المنطقة الوسطى، فافتتح في 23 أكتوبر 1955م أول سنترال للأهالي والتجار في الرياض، ومقره في أول شارع فيصل.
ومع يناير 1956م أعلنت الحكومة، عبر وزارة المواصلات المنشأة حديثاً، تعميم الاتصالات التلفونية اللاسلكية في كافة مدن المملكة.
وفي 1956م افتتح أول هاتف آلي بالمملكة في جدة، تبلغ سعته (3999) نمرة. كانت تلك أولى لبنات التحول الكبير، التي جاهد وراءها عبدالله كاظم إبان الحرب العامة.
أنماط إدارية حديثة
وكشفت إدارة كاظم عن رشاقة حداثية باكرة، في ديناميكية التنظيم الإداري وفلسفة كفاءة الإنفاق. وفي 24 مايو 1935م نظراً لازدياد الأشغال في إدارة البريد والبرق والتلفون، نفذ المدير العام هيكلة حديثة في إدارته، بتقسيمها إلى ثلاث مديريات ربطها مباشرة به، وهي إدارة الأعمال اللاسلكية وجعل مديرها إبراهيم سلسلة، ومديرية البرق والتلفونات وجعل مديرها عبدالله فراش، ومديرية للبريد جعل مديرها يحيى زكريا. كما نقل مكاتب البرق والبريد والتلفون إلى قصر البو بالقشاشية في يونيو 1935م نظراً لضيق بناية البريد القديمة التي كانت بجانب باب الوداع.
وفي ديسمبر 1936م أسس شعبتين جديدتين للبرق والبريد والتلفون في مكة، واحدة في الشبيكة، والثانية بالمعلاة بجانب بئر أبودية. وأنشأ للبرق والبريد مستودعات رحبة إلى جانب عمارة اللاسلكي بالقرارة.
وفي مايو 1938م نقل إدارة الأعمال اللاسلكية وجميع فروع ذي الموجة القصيرة والورشة والمدرسة التابعتين لها من مقرها إلى مكان آخر في المدعى.
وتأسست إدارة بريد الرياض في أنحاء سنة 1930م. وأرسل كاظم لتشييدها أحد أنبه موظفيه، محسون أفندي حسين، الذي انتدب معه من موظفي لاسلكي مكة: حسن مورية، محمد نيازي وهاشم عشقي. وسار كاظم على رتم ثابت في تأسيس بقية المراكز الوطنية.
واقترنت إدارة كاظم بدقة التنظيم المالي، وكانت إدارته مثالاً في كفاءة الإنفاق، وتعظيم المكاسب بأقل الموارد. كان مثال (التقتير والإمساك عن البذل في مصاريفه الإدارية)، كما يقول عبدالوهاب آشي، وهو قيادي في وزارة المالية، حيث أن (إدارة كاظم كانت الوحيدة التي تلتزم بالاقتصاد في النفقات وحصر الصرف في الضروريات). ووصفه الكاتب محمد حسين زيدان بالقول: (كان بالقليل المقتر عليه يطوع كل الأجهزة لتعمل في خدمة الدولة، في أوقات عصيبة.. في مراحل دقيقة.. فما أكثر قليله، وما أقل الشاكرين له).
وقد حافظت حاصلات الاستثمار الصناعي للدولة في البرق والبريد والهاتف على واحد إلى واحد ونصف في المئة من الإيرادات غير النفطية للدولة طيلة عهد عبدالله بك كاظم، رغم ضعف الإمكانات وقلة الأموال المستثمرة.
ريادات تعليمية
كانت أول بعثة تعليمية رسمية في تاريخ البلاد السعودية قد خرجت من مديرية البرق والبريد وبترتيب مباشر من عبدالله بك كاظم، وذلك في نوفمبر 1927م، حين اتجهت البعثة الفنية إلى فلسطين للتمرن على سير معاملات البرق والبريد والتلفون ودرس القيود المتعلقة بها بحسب نمط الإدارة الإنجليزية. رحلت من ميناء جدة على الباخرة الإيطالية، وهي تضم: وهبي كردي مدير لاسلكي الليث، إبراهيم سلسلة مدير لاسلكي جدة، نوري قرملي مأمور تلفون مكة، وعبدالقادر محتسب رئيس موظفي البريد في جدة. وقد عادت البعثة على الباخرة (عباسية) بعد أن أمضت ما يزيد على خمسة أشهر. وقد سبقت هذه البعثة أول بعثة علمية رسمية انطلقت إلى مصر في العام التالي. وأسس كاظم مدرسة بإدارة اللاسلكي بجدة لتعليم أشغال اللاسلكي في المخابرة والأعمال المكاتبية، وخصص لطلابها أربعة جنيهات شهرياً لكل طالب، بعناية مباشرة من صاحب الجلالة الملك. وقد وصل قيد الطلاب في مدرسة اللاسلكي بجدة إلى مئة ونيف، اختارت منهم الإدارة 48 طالباً فقط.
وكانت بعثة اللاسلكي إلى بريطانيا للتدريب لدى شركة ماركوني في تشيلمفورد، هي أول بعثة رسمية اتجهت إلى أوروبا في تاريخ البلاد. وقد ضمت أبرز موظفي عبدالله كاظم، كما سبق، وهم: إبراهيم سلسلة، محسون حسين، إبراهيم زارع، وقد رافقهم عبدالعزيز المانع مترجماً لهم. حيث غادرت البعثة يوم 15 نوفمبر 1930م إلى بورتسودان، ومنها على إحدى البواخر إلى لندن، ومكثت مدة تراوح ثمانية أشهر. وتوالت بعثات اللاسلكي إلى مقر شركة ماركوني ببريطانيا، كما يذكر أحمد أفندي زيدان، الذي أخبر بانضمامه إلى إحدى تلك البعثات الاستلحاقية.
وانتقلت المدرسة اللاسلكية من جدة إلى مكة لتستقر في جياد في دار الكسوة أمام مبنى المالية، تداول عليها، بالترتيب، الأساتذة: فخري أفندي ومحمود وهبي وعلي كردي وأحمد زيدان وصالح وزنة ومحمد سعيد عالم.. وافتتحت معها ثلاث مدارس في الرياض، والأحساء وضباء، لتعلم فن المخابرات. وقد خرّجت مدرسة اللاسلكي إلى عام 1974م ما ينوف على ثلاثة آلاف موظف كلهم سعوديون، منهم من التحق بوزارة الدفاع والخارجية والإعلام والحرس الوطني والسفارات الأجنبية في أقسام اللاسلكي.
ولم تكن هذه المدارس حكراً على فئة، بل انفتحت على أساس الجدارة. من ذلك انضمام خمسة من تلاميذ دار الأيتام بالمدينة المنورة بمدرسة لاسلكي مكة في يناير 1938م.
وفي عام 1947م أرسلت بعثة فنية لتعلم هندسة التلفونات الأتوماتيكية، ترسيخاً لجهود التحوّل التي أشرف عليها. فيما انطلقت أول بعثة لأمريكا لتعلم فن التلفون، في يوليو 1952م.
ويعد كاظم أول مؤسس لقسم محلي لدراسة الهندسة، وذلك في 3 أغسطس 1951م عندما أسست إدارة البرق والبريد قسماً لدراسة هندسة اللاسلكي والكهرباء وقراءة الرسوم البيانية للاسلكي.
مديرية البرق والبريد.. بستان الكفاءات
في الستينات الميلادية ذاع صيت بستان اللاسلكي، أو (حوش اللاسلكي)، في مشعر منى، وهو فسحة مركزية تحفّها زروعات الليمون والكمثرى، ورياحين الفل والياسمين، تعمل أثناء موسم الحج كعصب للمخابرة على مدار الساعة لإدارة الاتصالات والمواصلات، وتبرز بالتوازي كملتقى اجتماعي لكبار تنفيذيي وموظفي المديرية. كان يتردد على البستان رجالات لمؤسسة البرق والبريد من كافة الطبقات، ينتمون لمدرسة عبدالله كاظم الإدارية. وكان هناك إبراهيم عبدالرحيم سلسلة، أحد أعضاء فريق كاظم التأسيسي الذي باشر توسعات اللاسلكي، وعضده الأيمن على مرّ السنين. تدرج سلسلة في وظائف البرق والبريد، فبدأ مفتشاً لعموم البرق، ثم استحال أول مدير لمديرية الأعمال الفنية في إدارة البرق والبريد عند تأسيسها في سبتمبر 1934م، ثم معاوناً للشيخ عبدالله كاظم، إلى تعيينه مديراً عاماً بالوكالة بديلاً له عند استقالته. وإبراهيم زارع يعد رجل التأسيس الذي بدأ من لاسلكي ينبع وتنقل بين الإدارات. ينضم إليهم من الجيل التأسيسي: محمد بياري الذي جلبه الشيخ عبدالله كاظم من النيابة ليستحيل كبير محاسبي مديرية البريد والبرق، ومحسون حسين مدير لاسلكي جدة ثم الرياض، وهشام برادة مفتش الإدارة، وعبدالله كردي مدير البرق في مكة، وعبدالقادر محتسب مدير البريد الأسبق بجدة، ومحمد سعيد أبوناصف مدير البرق والبريد في الطائف، ومحمد سعيد عمودي مدير البرق والبريد في مكة ورئيس قلم التحريرات، وحسن عبدالملك قاضي مدير بريد مكة، ونوري قرملي مأمور التلفون المخضرم. يتخلف عنهم من جيل التأسيس: يحيى بك زكريا صدقي مدير برق وبريد المدينة، الذي توفي على رأس العمل بعد خدمة راوحت ربع قرن، وفخري أفندي المتوفى سنة 1937م. يلتحق بهم من الجيل الثاني: صالح كيال مدير برق وبريد جدة، وعبدالله أفندي فراش مدير التلفونات، ومحمد سعيد عالم مدير مدرسة لاسلكي مكة وأستاذ أجيال الموظفين، وعبدالحميد عقاد المدني مدير لاسلكي الرياض، وعبدالله ومحمد باحنشل، وأحمد السرّاج مدير البريد الخارجي بالرياض، وعمر صباغ محاسب بريد مكة، وبكر رجب مدير اللاسلكي، وسليمان مجلد مهندس اللاسلكي، ومحمد عربي سقاط رئيس ديوان مستودعات البريد، وحسين محمد خان مدير لاسلكي وبريد تبوك وبلجرشي. ومن الجيل الثالث عمر عراقي مدير البرق في مكة، ورشاد زبيدي وعبدالله عبدالرحمن طيب.. وآخرون.
وطبعاً.. نجم المواصلات المتأخر.. أحمد أفندي زيدان، وكيل المواصلات للشؤون اللاسلكية والسلكية والبريدية منذ ديسمبر 1963م، وهو الذي بدأ مديراً لإدارة لاسلكي جدة، وتقلّب تحت إدارة كاظم، منذ أن انضم لها متدرباً، حتى قيادته للمرفق الذي شهد دفعه بالأعمال السلكية واللاسلكية إلى آفاق كبرى تزامنت مع انطلاق مشاريع التنمية وتدفقات أموال الزيت.
في مقال نعيه، لخّص صالح كيال الخطوط العريضة لمدرسة عبدالله كاظم في القيادة: (لقد كانت حياته بالنسبة لنا مدرسة تتلمذنا فيها على أستاذيته، لا في الإخلاص للعمل وحده؛ بل في التمثل بالروح الطيبة التي كان يعامل بها الجميع).
عباءة العمل الرسمي
أخذ محمد عمر توفيق في إحدى مقالاته على الشيخ كاظم إسرافه في تلبس عباءة العمل الرسمي، واستغراقه الحالة الرسمية أكثر من اللازم، حتى تماهى شخصه مع المديرية، فصار هو المديرية، والمديرية هو.
والحقيقة أن كاظم كان رجلاً قد انكبّ على عمله حد الحلول التام، ولعله قد زايد في الإخلاص والصرامة الوظيفية.
لم يعرف عنه أن تمتع بإجازة إدارية قضاها في راحة ولهو واستمتاع طوال عمله الوظيفي الممتد لعقود طوال. يقول عنه عبدالوهاب آشي الذي زامله في سلك الحكومة من إدارة المالية: (هو أبدر العاملين حضوراً إلى مقر عمله وآخرهم خروجاً، بل إنه يبقى في إدارته بعد انتهاء وقت الدوام الرسمي ساعات وساعات طويلة بين درس وبحث في شتى المعاملات التي تتطلب البت والإنجاز).
ولضراوة العمل ضريبة على الصحة والأعصاب تعرض كاظم إلى وعكة ألزمته الفراش في أبريل 1947م، نقلتها الصحف كخبر عام. كان قد جاوز الستين عاماً. وكانت تلك إشارة على أحكام الزمان. لكن المحارب القديم، الذي استأنس الدهر واختصر الأزمنة، سيظل يقاوم بعد تلك الوعكة لعقدين آخرين.
حتى جاء الأمير طلال، وزير المواصلات الجديد، بروح جديدة في الحكومة، رأت في شيخوخة الشيخ عبدالله كاظم عبئاً على التطلعات الجديدة، فأحاله إلى المعاش، في يناير 1954م، وصعّد مكانه عضده ومعاونه إبراهيم سلسلة. وجاء في بيان الإحالة أن كاظم كان (مثال الإخلاص والنصح والنزاهة والاستقامة والدربة والحنكة والدراية).
خلع الشيخ كاظم عباءة العمل الرسمي أخيراً، بعد خدمة تتجاوز الأربع وأربعين عاماً، كان فيها من القلائل الذين قضوا أكبر تاريخ يمكن قضاؤه في دائرة واحدة.
ترجّل وإدارته قد أنجزت وثبات عملاقة، إذ بلغ عدد الموظفين من إداريين وفنيين ثلاثة آلاف موظف، بعد أن كانوا ثلاثين، كلهم أنبتتهم مدارس المديرية ومؤسساتها وورشها الفنيّة. وقد أسس ثمانين مركزاً للاسلكي بعد أن كانت بضعة مراكز، أغلبها متداعٍ، ومئة وعشرين مكتباً رئيسياً للبريد، وعشرين شبكة رئيسية للتلفون تشّد أطراف المملكة. لقد قفز بالاتصالات من عصر (الحمّارة) إلى العصر الأوتوماتيكي.
انتقل كاظم بعد استقالته إلى الطائف، ومكث بمنزله الكائن في ضاحية العزيزية، لكن روح كاظم، قرينة العمل والإنجاز الدائم ستدفعه للانضمام في يوليو 1956م إلى جانب حمزة عجاج، كعضوين في مجلس إدارة كهرباء مكة والطائف، بدلاً من العضوين المستقيلين: الشيخ عبدالله قاضي، والشيخ محمد المغيربي.
في خريف 1967م، توفي الشيخ عبدالله كاظم.. عن عمر يناهز الثمانين عاماً، قاد عبرها تحولات البلاد المحورية في طورها الانتقالي ثم التأسيسي. فهو، بلا نزاع، أحد الرجال الروّاد والعاملين الأفذاذ في تاريخ بلادنا الذين أحدثوا فارقاً جوهرياً ملموساً في وعي الشعب وطرائق حياته.
كان الشيخ كاظم حداثياً يتدثر في إهاب وعباءة دينية زاهدة
وصفه محمد حسين زيدان عند وفاته أنه كان: (عف اليد واللسان.. قد استبرأ لدينه وعرضه حينما اتقى الشبهات.. له التزام مع نفسه ولنفسه في خط محدد لم يكن ينحرف عنه.. له شجاعة الإحجام من شدة صبره على نفسه.. يكبح هواها لا تجري وراء ما يغري.. لم يرد أن يكون باز صيد يأكل الناس من فضلات فرائسه حتى لكأنه العظة الحية تمشي على رجلين تتكلم في صمت الوقار). لقد توفي (فقيراً في دنيا عرضت نفسها تتبرج بالثراء بين يديه فلو شاء لمد يده لتمتلئ).
حتى (سيارة البريد) الرسمية التي امتلك مفاتيحها في جيوب عباءته.. يوم كانت منتهى الترف وغاية النقل المريح.. لم يستخدمها شخصياً إلا في أضيق الحدود.
لكنه خلّف سيرة عملية فذّة، وآثاراً سامقة، طبعها بأداء وطني ناصع مشرّف، وأعقب من ذريته رجالاً، وابنة، اقتبسوا من هوامش شخصيته بصمة الريادة والطليعة.
أكبر أبنائه إسماعيل أفندي، تسلّك أولاً في أعمال البريد والبرق، وأبدى في أعمالها الفنيّة موهبة فطرية، ليتركها إلى مصر لتعلّم الطيران التجاري، الذي نال شهادته سنة 1938م. وكان من أوائل الطيارين الوطنيين الذين احترفوا قيادة الطائرة التجارية، أعقبها انضمامه إلى مؤسسة الخطوط السعودية، فكان من روادها في مراحل يفوعها. كما افتتح بالتزامن مقهى شهيراً في وعي وذاكرة جدة الحديثة، هو (مقهى كاظم)، الذي كان يقع على طريق المدينة المنورة، في ضاحية شمالية خارج عمران البلدة وقتها، كان ملتقى الشبيبة والشيوخ أمثال الأديب محمد حسن عواد الذي كان له مركاز شبه يومي على أحد كراسي الشريط.
ومن أبنائه شرف كاظم، من طلائع الجامعيين، خريج مدرسة تحضير البعثات في مكة، وخريج كلية العلوم في القاهرة ضمن البعثة السعودية التي أوفدت في أكتوبر 1942م، كما كان من الملتحقين بأول بعثة سعودية لأمريكا عام 1948م لدراسة الجيولوجيا. وقد عيّن حال عودته في وزارة الزراعة.
وابن ثالث هو محمد عبدالله كاظم الذي التحق ببعثة التلفون الأوتوماتيكي عام 1947م.
وابنة وحيدة هي خيرية عبدالله كاظم أستاذة الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الملك عبدالعزيز.