جميل الحجيلان
جميل الحجيلان.. سيرة منتظرة
محمد بن عبدالله السيف: الرياض
مع الملك سعود بن عبدالعزيز في حفل وضع حجر الأساس لمبنى مديرية الإذاعة والصحافة في جدة
في التاريخ الإداري السعودي، وعلى مدة 60 عاماً، برز علمان شامخان من آل الحجيلان، هما فيصل وجميل. ورغم أنهما من أسرتين مختلفتين، إلا أن كلتا الأسرتين من مدينة بريدة.
يلتقي فيصل وجميل بعدد من المشتركات؛ فهما من أبناء العقيلات، فيصل من عقيلات مصر، وجميل من عقيلات الشام، وكلاهما درس القانون في جامعة القاهرة، والتقيا في الجهاز الحكومي الإداري بعد تخرجهما، وعملا بداية في وزارة الخارجية.
عمل جميل الحجيلان سفيراً لبلاده في فرنسا، فخلفه فيصل الحجيلان. وكان جميل قد عمل وزيراً للصحة، فكان أن عمل فيصل أيضاً وزيراً للصحة في فترة لاحقة.
هنا عرض موجز لسيرة الشيخ جميل الحجيلان، الذي أكرمني بقراءة مذكراته التي يعكف عليها حالياً لإخراجها إلى النور، بعد جهد سنوات من الكتابة والمراجعة والتدقيق.
في دير الزور
ولد جميل الحجيلان في دير الزور شمال شرق سوريا، لأُسرة استوطنت تلك المدينة من عشرات السنين، ضمن أُسر العقيلات التي هاجرت من قلب نجد إلى بلاد الشام ومصر والعراق بحثاً عن الرزق وطلباً للتجارة. وكان الشيخ إبراهيم الحجيلان واحداً من أبرز تجار العقيلات في رحلاتهم واستقرارهم، فهو من الذين يُشار إليه بالبنان متاجرة في الخيول العربية، تماماً كما هو الحال لدى الشيخ عبدالعزيز الحجيلان، والد فيصل.
وفق السجلات الرسمية فإن جميل الحجيلان من مواليد بريدة! ذلك أن والده حينما أراد استخراج بطاقة تعريفية لابنه البالغ من العمر عشر سنوات من القنصلية السعودية في دمشق، كتب أنه من مواليد بريدة. لاحقاً أدرك جميل أن والده فعل ذلك عن قصد، رغبة منه في أن تبقى مدينة بريدة، مسقط رأس العائلة، حية متقدة في ذاكرة من سيخلفونه في أعماله التجارية خارج الحدود، أو على الأقل في ذاكرة ابنه الأكبر جميل.
إسطبل الشيخ إبراهيم الحجيلان في دير الزور هو واحد من أهم علامات وآثار ووسوم العقيلات في تاريخهم الطويل. وكان الشيخ إبراهيم يتاجر بالإبل من العراق إلى مصر مروراً بدير الزور ودمشق، فكان أن نشأ ابنه جميل في هذه الأجواء، التي أكسبته قوة وصبراً، ومنحته شموخاً كشموخ خيول أبيه الأصيلة.
لا يعرف جميل في أي عام ولد! لكن والدته وضحى الحجيلان، تذكر له دائماً أنه من مواليد «عام الثلجة الكبيرة»، وهو عام كسى المدينة فيه ثلج غطى شوارعها، فتعطلت مدارسها وأغلقت حوانيتها، وكانت وضحى تردد على ولدها قائلة: (الله لا يعيدها علينا)!
حينما بلغ جميل السادسة من عمره بعثت به والدته إلى مدرسة لتعليم القرآن الكريم، وكما هي العادة في مدن وقرى نجد، حينما يحتفلون بأطفالهم وهم يختمون القرآن الكريم، فرح آل الحجيلان في دير الزور بابنهم جميل، وأقاموا له احتفالاً وألبسوه أجمل الثياب وطاقية مذهبة، ورشوه بالحلوى وزملاؤه التلاميذ يرددون حوله الأناشيد، وهم يطوفون به في ممرات وأزقة دير الزور! تمهيداً لانتقاله إلى مدرسة ابتدائية تحمل اسم القائد عبدالرحمن الغافقي، التي تخرج فيها، ثم التحق بالمدرسة الإعدادية، وكان أبرز معلميها آنذاك الشيخ الأديب علي الطنطاوي، الذي علّم جميل اللغة والأدب وحفظ الشعر العربي، وما كان الطنطاوي يعلم أنه سيلتقي بتلميذه النجيب بعد عقود من هذا الدرس الأدبي البليغ، حينما يستدعيه تلميذه إلى مكتبه في مدينة جدة، وزيراً للإعلام في بلاده، ليطلب من شيخه تقديم برنامج تلفزيوني، مذكراً إياه بتلك الأيام الخوالي، غير أن الطنطاوي لم يعد يتذكر، لكن دمعة غالية سقطت من عينه على خده، وهو يرى وفاء تلميذه له وعنايته به.
دير الزور أكسبت الفتى جميل الحجيلان صلابة فريدة، أودعها لمستقبل أيامه وأعوامه، فقد عاش جميل في ذلك المجتمع العشائري وزملاؤه يعيّرونه بغياب والده، الذي يقضي أكثر من عشرة أشهر في كل عام خارج دير الزور في رحلات تجارية ما بين العراق والشام ومصر. وحينما يعود ترتسم البهجة على الشفاه ويزول ما في قلب جميل من الحرمان، وتفوح في سماء البيت رائحة القهوة والهال، ويفتح الشيخ الجليل ديوانه العامر لضيوفه الذين يتقاطرون عليه من كل حدب وصوب، وأغلبهم من أُسر نجدية عُقيلية، من أمثال: الرواف والمديفر والجربوع وغيرهم. وذات يوم، وحينما عاد جميل من مدرسته لم يجد والده، الذي غادر في جُنح الظلام حتى لا يتعلق ابنه في مشلحه، كما هي العادة. شعر الفتى بحزن اخترق أعماق قلبه، فتجرع مرارة الفراق، مؤملاً بلقاء بعد عام أو أقل!
في غياب الشيخ إبراهيم ينطفئ الجمر في موقده، ويختفي صوت النجر، ولا تضوع رائحة القهوة في أرجاء البيت. كل هذا الفراق تتحمله الأُسرة، المكونة من الجدة آمنة والزوجة وضحى وأطفالها، من أجل سعادة وراحة العائل الكبير، الذي يجوب الديار لإدارة أعماله وتجارته بحثاً عن مستقبل أفضل يرجوه لأسرته ويتمناه لها بعد رحيله. بيد أن السيدة وضحى، وهي التي تحملت كل هذا على عاتقها، وما رفّ لها جفن أو تضعضع لها كاهل، قد تعرضت لموقفين من أشد مواقف حياتها ألماً. الموقف الأول حينما غاب زوجها عنها خمسة أعوام متتالية دونما أي خبر أو رسالة، وكان قد تزوّج في عام 1940 زوجة ثانية في مصر، واستقام أمره عندها، كانت هذه الأعوام أعوام حيرة في حياة الشاب جميل، غير أن والدته وضحى أبقت على غرفة زوجها مغلقة، تنتظر عودته، وتدافع عن غيابه، وفاءً وصبراً وتحملاً للمشاق في غربة طويلة وفي مجتمع عشائري يعيش أهله على حب الفضول والسؤال عن حيوات الآخرين، المغادرين والمقيمين!
الموقف الثاني، حينما قرر زوجها بيع إسطبل خيوله في دير الزور لسداد ديوان تراكمت عليه لعدد من شركائه في سوريا، غير أن وضحى الحجيلان رفضت التفريط في الإسطبل، الذي يصفه جميل على لسان والدته بأنه قطعة من النفس وليس مربعاً للأصائل من الخيول فحسب. كان هذا الإسطبل بالنسبة لوضحى الحجيلان هو السيف، وهو العزوة، وهو ما تلوذ به وتعتز، في ذلك المجتمع، لذلك تواصلت مع مُلاك الإسطبل الجدد، بأن تُسدد قيمته ويعيدوه لها، فكان لها ذلك.
مع ابنه عماد في طهران
إلى القاهرة طالباً جامعياً
في سبتمبر 1944م غادر جميل الحجيلان مدينة دير الزور إلى دمشق ومنها إلى القاهرة لاستكمال تعليمه الثانوي والجامعي، تاركاً والدته وإخوته في تلك المدينة لأقدارها. وما أن وصل القاهرة حتى التحق في مدرسة فؤاد الثانوية، كونها الوحيدة التي يوجد فيها قسم للغة الفرنسية، وهي اللغة التي تعلمها جميل في سوريا.
في القاهرة، اكتشف جميل الحجيلان الفارق الكبير ما بين عوالم دمشق والقاهرة. القاهرة كان همها وطنياً خالصاً، أما دمشق فكان همها قومياً.
وفي القاهرة عاش جميل في بيت والده مع إخوانه الصغار. وفي عام 1946م حصل الشاب جميل على شهادة الثانوية العامة، قسم اللغة الفرنسية، ليعيش صيف ذلك العام في حيرة من أمره: هل يلتحق في كلية الآداب أم كلية الحقوق؟ لكنه بعد طول تفكير، قرر الالتحاق بكلية الحقوق، رغم ميوله الأدبية، متسائلاً: ألا يمكن أن أكون محامياً، وفي الوقت نفسه أديباً؟! فقد وجد في توفيق الحكيم شخصية جمعت بين الأدب والقانون.
حينما بدأ جميل الدراسة في الجامعة تعرف إلى عدد من زملائه السعوديين، الذين التحقوا في جامعة فؤاد، وعدد من الكليات المختلفة، وكان يتردد عليهم في دار البعثة. وكان من أبرز زملائه: أحمد زكي يماني وعبدالرحمن البيز ومقبل العيسى وناصر المنقور وعبدالرحمن أبا الخيل وإبراهيم العنقري ومحمد الفريح وعبدالرحمن المنصور. وكان في لقاءاته المستمرة معهم ينتصر لشعور الغربة والاغتراب الذي لازمه في دير الزور.
في كلية الحقوق كان التعليم مختلطاً. وكان منظر الطالبات، وهن بزينتهن وجمالهن، كاشفات الرؤوس، يحرك النشوة والخيال لدى الطلاب، خصوصاً ذلك الطالب القادم من مدينة تتشح نساؤها بالسواد، ولم يكن يرى من نسائها سوى أمه وأخواته، وها هو الآن يرى شابات جميلات رائحات غاديات، بشعورهن الذهبية المرسلة.
ولأن جميل كان يعيش في بيت والده، فقد كان مختلفاً عن زملائه من الطلبة السعوديين، الذي يعيشون في دار البعثة، معتمدين على مكافأتها، إذ أكرم نفسه بما ترغب وتتطلع إليه، من ذهاب إلى السينما وإلى المطاعم والمقاهي الفاخرة، وشراء الكتب الثقافية والأدبية، فقد كان عاشقاً للأدب والشعر العربي. وحينما زار الأمير عبدالله الفيصل دار البعثات السعودية في عام 1948م يرافقه الشاعر أحمد فتحي والأديب عزيز ضياء، ألقى الشاب جميل الحجيلان قصيدتين في الحفل الذي أقيم تكريماً للأمير، قصيدة عاطفية وأخرى عن فلسطين.
في صيف 1950م تخرج في جامعة فؤاد بكلياتها المختلفة تسعة طلاب من السعوديين، كان جميل الحجيلان أحدهم، وهو الوحيد بينهم المتخصص في القانون. ومع تخرجه كانت صحة والده قد بدأت تتردى على نحو أثار القلق في قلب الشاب الطموح، الذي كان عليه أن يغادر القاهرة إلى مدينة جدة ليبدأ مسيرة حياته العملية في خدمة وطنه ومواطنيه.
في وزارة الخارجية
في صباح باكر، هو الأول من صباحات يناير 1951م، ذات النسمات الباردة، وضع جميل قبلة حارة على جبين والده، وكان القلق والخوف يساورانه من أن تكون هذه القبلة هي القبلة الأخيرة!
وما هي إلا ساعات حتى حطت قدماه في مدينة جدة، ليباشر عمله في وزارة الخارجية، في إدارة المنظمات الدولية. وفيها تعرّف بداية إلى عمر السقاف ومأمون قباني، خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت، وإلى غيرهم من موظفيها. وفيها أيضاً، كان همّ الأدب وعشقه مسيطران على تفكير الموظف القانوني، فقد كان يقدم قصصه الأدبية بصوته عبر الإذاعة ثم تقوم صحيفة البلاد بنشر القصة في يوم لاحق.
وبينما كان جميل الحجيلان في غمرة حماسه في عمله القانوني، وفي إبداعاته الأدبية، تلقى خبراً صادماً، كسر قلبه وأدمى فؤاده. ذلك أن والده قد انتقل إلى رحمة خالقه، وكانت المصيبة مضاعفة لدى الشاب جميل في أنه لن يتمكن من حضور مراسم تشييع والده وتقبل العزاء فيه، فكان أن غرق في بكاء صامت، في مكان قصي من وزارة الخارجية، غير أن يوسف ياسين قد علم بوفاة الشيخ إبراهيم الحجيلان، وكان سيتوجه إلى القاهرة في ذلك اليوم بطائرة خاصة، فطلب من طاهر رضوان، وكيل وزارة الخارجية، أن يبلغ جميل بذلك، وعلى وجه السرعة. وماهي إلا ساعات حتى أقلعت الطائرة بالمستشار السياسي الرفيع يصحبه شاب سيكون هو الآخر ذا شأن سياسي رفيع، ولكن بعد حين!
وصل جميل في الموعد المحدد، وشارك في تشييع جثمان والده، ووقف مع إخوته الصغار مستقبلاً المعزين في رحيل والدٍ كان له صيت جميل وذكر حسن في السعودية وبلاد الشام ومصر.
توفي الشيخ إبراهيم الحجيلان عن أسرتين، واحدة في سوريا، والأخرى في القاهرة. وحينما عاد جميل إلى جدة وصلته رسالة من والدته وضحى الحجيلان تعزيه بوالده، وتوصيه بإخوانه الصغار ووالدتهم، فهم لديها «أولاد إبراهيم الحجيلان»! وعلى ابنها، الذي بلغ اليوم مبلغ الرجال، وأصبح موظفاً قانونياً مرموقاً، تقع مسؤولية رعايتهم والاهتمام بهم، وكان أكبرهم صلاح، ذو العشرة أعوام. وهنا وُضِع على عاتق جميل عبء مرهق ثقيل، قبله ورضي به، نخوةً وكبرياءً ووفاءً لوالده ووالدته، فقد ضحى وصبر وتحمّل، وسُر لاحقاً وهو يراهم بما هم عليه من فلاح ونجاح في حياتهم.
مترجماً للملك عبدالعزيز
في عام 1952م زار وزير الخارجية الإسباني مدينة جدة على رأس وفد رسمي سيزور الرياض ويلتقي بالعاهل الكبير، الملك عبدالعزيز. وقد قام جميل الحجيلان بمهام الترجمة بين وزير الخارجية الإسباني والشيخ يوسف ياسين، رئيس الشعبة السياسية والمستشار في الديوان الملكي. وبعد نهاية اللقاء طلب يوسف ياسين من جميل الحجيلان أن يُحضِّر نفسه للسفر غداً إلى الرياض!
ما كان جميل يعلم عن سر هذه المهمة، غير أن الشيخ يوسف فاجأه حينما أخبره بأنه سيقوم بالترجمة بين الملك عبدالعزيز والوزير الإسباني!
أصيب الشاب، الذي يُجيد الترجمة، بذهول ووجوم، غير أن ياسين أخذ يُهدئ من روعه ويشجعه ويشرح له بعض المفردات التي يستخدمها الملك عبدالعزيز مع ضيوفه.
في الغد كان جميل الحجيلان، ذو الرابعة والعشرين عاماً، يجد نفسه في قصر المربع. كان ذلك بتاريخ 20 أبريل 1952م، أي قبل انتقال العاهل الكبير إلى رحمة ربه بسنة وستة أشهر تقريباً، وكان مشهداً مثيراً لابد أن ذاكرة المترجم السعودي لا تزال متقدة ومورقة بتفاصيل ذلك اللقاء، فلطالما سمع جميل الحجيلان، منذ طفولته، روايات العقيلات عن هذا العملاق، وعن هيبته وجلال قدره وشموخ تاريخه وعظيم بطولاته. وقد كانت مهمة الترجمة فرصة لهذا الشاب أن يودعها في سجلات تاريخه وفي أنصع صفحات مسيرته، بكل فخر واعتزاز.
أدّى جميل مهمة الترجمة بتفوق ونجاح سرّ مليكه ورجالات الديوان.
مع الشاه محمد رضا بهلوي في طهران
في طهران
بعد أن حمل جميل الحجيلان على عاتقه مسؤولية ما خلفه والده من أسرتين، زادت الأعباء عليه، وكان يطمح بأن ينتقل في عمله إلى السفارة السعودية في القاهرة أو سوريا، ليكون قريباً من إحدى الأُسرتين، غير أنه لم يتمكن من تحقيق ذلك. لكنه ظل يُلح طالباً العمل خارج المملكة كي يتضاعف راتبه مرة أو مرتين ليفي بالتزاماته العائلية. وبعد حين من الوقت والجهد، عرض عليه طاهر رضوان العمل في السفارة السعودية في طهران، عند السفير الرفيع والسياسي المحنك حمزة غوث (سبق لي الكتابة عنه في المجلة العربية، العدد رقم (467). وفي السفارة السعودية في طهران انتظم جميل الحجيلان على وظيفة سكرتير ثالث، إلى جانب ناصر غوث وصالح مداح، لكنه سرعان ما حصل على ترقية إلى سكرتير ثان، فسبق زميليه في السفارة.
وكان جميل قد تزوّج قبل ذهابه إلى طهران، وحينما ذهب إليها أحاطه السفير غوث برعاية خاصة، امتدت إلى علاقة عائلية مع زوجة السفير الإيرانية.
ولعل زيارة الملك سعود بن عبدالعزيز الشهيرة إلى طهران، صيف 1955م، هي الحدث الأهم في تاريخ العلاقات السعودية الإيرانية في الفترة التي قضاها جميل الحجيلان في سفارة بلاده هناك. وهي فترة لم تطل. لكنه، من بين قلة من السفراء والدبلوماسيين والقناصل ممن سعدوا برؤية ولقاء ومصافحة ذاك الجمال الباذخ، الذي طالما كتبت عنه الصحف الإيرانية والعالمية، ذاك الجمال المتمثل في إطلالة وجه الملكة ثريا، زوجة إمبراطور إيران، وهو - أي وجهها المشع نوراً-، وكما وصفه جميل نفسه: وجه نادر في الوجوه، لا يناله وصف! لتكون هذه الذكرى آخر ما حمله جميل الحجيلان من أرض فارس، وهو يغادرها إلى كراتشي عام 1956م، للعمل في سفارة بلاده هناك، مع السفير عبدالرحمن البسام، قبل أن يصلها السفير الشهير، المدرسة الأخلاقية والدبلوماسية محمد السليمان الشبيلي، ليُمضي معه أربعة أعوام في كراتشي، ليغادرها في مهمة وطنية أخرى، هي الموطئ الأول له في عالم الإدارة والسياسة والإعلام، فقد عُيّن مديراً عاماً لمديرية الإذاعة والصحافة والنشر خلفاً للأديب المستشار عبدالله بلخير، الذي بقي مستشاراً إعلاميا في الديوان الملكي. وقد وقف خلف دعم الحجيلان وارتقائه لهذا المنصب المهم، ذي الصلة المباشرة في الديوان الملكي شخصيتان ذاتا ثقل وحضور، هما السفير محمد الحمد الشبيلي والشيخ عبدالعزيز المعمر، المستشار والشخصية النافذة في
الديوان الملكي.
أثناء عمل جميل الحجيلان في كراتشي، وتحديداً في عام 1958م أنهى أخواه سعود وصلاح ( المحامي الشهير لاحقاً) الثانوية العامة في القاهرة، ويرغبان في الالتحاق بالبعثة السعودية لإكمال تعليمهما الجامعي، فبذل أخوهم الكبير جهداً كبيراً لتحقيق هذا الطلب، فقد كتب إلى وكيل وزارة المعارف الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن الشيخ دون رد. لكنه من حسن صدفه أن قابل في القاهرة صديقه في جامعة فؤاد، ناصر المنقور، الذي كان يعمل وقتها مديراً عاماً لوزارة المعارف، وشرح له الأمر، فوجد منه كل ترحيب وحفاوة ووعده خيراً، وما هي إلا أيام حتى وصل إليه خطاب الموافقة بضمهما إلى البعثة. كان هذا الخطاب من أسعد اللحظات في حياة جميل الحجيلان، الطويلة والممتدة، فقد أزاح عن كاهله دعم أخويه في مرحلتهما الجامعية بكل ما تتطلبه هذه المرحلة وما تواجهه من تحديات.
لم يطل المقام بجميل الحجيلان في منصبه المتميّز والفريد، إذ يبدو أن ثمة تحديات واجهته من مسؤولين عن الإعلام نافذين في الديوان، الأمر الذي صدر معه قرار بإعادة تعيين الأستاذ عبدالله بلخير مشرفاً عاماً على المديرية، ليطلب جميل الإذن من الملك سعود بمغادرتها وعودته إلى عمله في وزارة الخارجية بمرتبة سفير، وقد كان ذلك. على أنه من المهم الإشارة إلى ما حققه الحجيلان في المديرية من محاولات جادة لتطوير الإذاعة وبرامجها، رغم المدة القصيرة التي أمضاها، فقد أطل ولأول مرة في تاريخ الإذاعة صوت المرأة السعودية، وعمل على تقديم نشرة إخبارية أسبوعية باللغة الإنجليزية يصاحبها تعليق سياسي على الأحداث الإقليمية والعربية. ومن المشاريع التي يفخر بها جميل في فترته وضع الملك سعود بن عبدالعزيز حجر الأساس لمبنى المديرية العامة والأستديوهات في مدينة جدة، وهو مشروع سيتعثر بعد مغادرته، ليتحقق تنفيذه بعد عودته وزيراً. وقد كانت لديه رغبة جامحة في تنفيذ عدد من المشاريع التي أُجهضت، لكنها رأت النور بعد أقل من عامين حينما أصبح وزيراً للإعلام.
مقدماً أوراق اعتماده للشيخ عبدالله السالم سفيراً في الكويت
سفيراً في الكويت
في عام 1961م، كان جميل الحجيلان مشاركاً في بلغراد، ممثلاً بلاده في مؤتمر دول عدم الانحياز، وإذا ببرقية عاجلة من الديوان الملكي تصله وتطلب منه سرعة العودة إلى مدينة الطائف، المقر الصيفي للملك سعود، وقد كان ذلك مفاجئاً ومربكاً له، لكنه ما إن وصل الطائف حتى فوجئ بأن الملك سعود قد اختاره ليكون سفيراً في دولة الكويت، التي للتو قد حصلت على استقلالها. ويُعد جميل الحجيلان هو أول سفير في تاريخ الدبلوماسية الكويتية، وأول سفير يقدم أوراق اعتماده للشيخ عبدالله السالم. فقد كانت بريطانيا ترغب في أن يكون سفيرها هو أول من يقدم أوراق اعتماده ليكون بذلك عميداً للسلك الدبلوماسي في الكويت، غير أن الشيخ عبدالله السالم لم يستحسن ذلك، فطلب من الملك سعود سرعة إرسال سفير سعودي ليكون عميداً للسفراء، الذين سيتقاطرون بعده. وقد حقق الملك سعود رغبته بتعيين جميل الحجيلان سفيراً في الكويت، التي أمضى فيها فترة من الزمن تقصر عن عامين، كان خلالها شعلة من النشاط الدبلوماسي والاجتماعي، فقد كان مقدراً من الشيخ عبدالله السالم، وكان يتمتع بعلاقات اجتماعية ممتدة مع عدد من البيوتات الكويتية، ذات الوجاهة والمكانة. غير أن السفير السعودي، المثقف الأنيق، غادر الكويت وهو متعب القلب مما كانت تكتبه وتنشره أغلب الصحف الكويتية في تلك الفترة من دعم كبير للرئيس عبدالناصر، الذي وقف خلف ثورة سبتمبر في اليمن، وما يُنشر فيها من تعريض بحكومة المملكة، وما يحاك ويقال في الديوانيات، ولاسيما أن فرقة من الجيش السعودي مرابطة على الحدود الكويتية العراقية لحماية الكويت من أي عدوان من قبل عبدالكريم قاسم!
مع السفير حمزة غوث في طهران
وزيراً للإعلام
الجهود الإعلامية التي بذلها جميل الحجيلان، سواءً في مديرية الإذاعة والصحافة والنشر أم في دولة الكويت، لم تكن غائبة عن أذهان قادة البلاد، بل كانت مقدرة. وحينما فكرت القيادة السعودية بإنشاء وزارة للإعلام، لمواجهة تحديات تلك المرحلة، لم يقع اختيار الأمير فيصل بن عبدالعزيز في شهر مارس 1963م، إلا على جميل الحجيلان، الذي جاء إلى الوزارة، كأول وزير إعلام في تاريخ بلاده، متسلحاً بخبرة متراكمة بين الإدارة والإعلام والسياسة، ليُكمل ما بدأه من مشاريع وأفكار في المديرية. وقد حقق خلال أعوامه الثمانية في وزارة الإعلام ما كان يؤمله ويطمح إليه في مجال الإذاعة أولاً ثم التلفزيون، الذي أعلن عن قرب انطلاقته في نوفمبر 1964م، وهو العام الذي صدر فيه نظام المؤسسات الصحفية.
بذل جميل الحجيلان كل ما في وسعه، وأمضى أوقاتاً طويلة وممتدة مع سلاح الإشارة الأمريكي، ليُحقق تطلعات الملك فيصل بن عبدالعزيز لانطلاقة البث التلفزيوني، فمنذ أن أعلن قرب الانطلاقة، والناس تتطلع إلى ذلك اليوم، ما بين مصدق ومكذب، حتى جاء يوم 17 يوليو 1965م ليطل على المشاهدين المذيع اللامع عبدالرحمن يغمور معلناً بدء الإرسال التجريبي من تلفزيون جدة. تلك كانت لحظة فارقة في مسيرة جميل الحجيلان ومشهداً لا يتكرر، وهو يرى المذيع يعلن بدء الإرسال، فقد كانت المملكة في تلك الفترة بأمس الحاجة إلى تقوية إذاعتها وتدشين تلفازها ودعم صحافتها لمواجهة ما تواجهه من حملات إعلامية ودعائية تبثها وتعلنها عدة إذاعات من مصر.
كان الملك فيصل مدركاً تمام الإدراك أن المرحلة تتطلب وجود رجل قوي وحازم ومستنير ليقود إعلام الستينات، بكل همومه وأعبائه، السياسية والثقافية والاجتماعية، فكان جميل الحجيلان، الذي لم يَسلم منذ اليوم الأول من الهجوم الكاسح الذي تعرض له من قبل بعض القوى الدينية والاجتماعية المحافظة، لكنه صمد في وجه كل العواصف، رغم شدتها وقوتها.
كان عليه أن يواجه العاصفة التي هبّت بعدما أُذيعت ندوة عن المرأة ودورها في المجتمع، بمشاركة عدد من المثقفين، إذ هاجمتها منابر الجمعة، ووصف ما دار فيها بأنه تجاوز لشرع الله ومجاهرة بالمنكر، ليتم تشكيل لجنة تحقيق في الموضوع برئاسة الشيخ عبدالله المسعري.
وكان لزاماً عليه أن يواجه هجوم المساجد والخطابات المُرسلة إلى الديوان الملكي حينما انطلق صوت المرأة السعودية ممثلاً بعدد من المذيعات: نجاة حسن عواد، وشيرين حمزة شحاتة، وسلوى الحجيلان وغيرهن. وكان عليه أيضاً أن يرفض إذاعة مقال كتبه الشيخ عبدالعزيز بن باز بعنوان «الشمس جارية والأرض ثابتة»، لينشره الشيخ في صحيفة البلاد، فيستغله الإعلام الناصري ساخراً.
أما حينما أطلّت على المشاهدين المطربة فيروز لتغني عبر شاشة التلفاز، فلا تسل عن الهجوم الكاسح، وعن الخطابات التي امتلأت بها ردهات وقاعات الديوان الملكي، شاجبة ومستنكرة ما يقوم به الوزير، حتى وصل الأمر بإحدى الشخصيات المهمة إلى اتهام موظفي الوزارة بأنهم شيوعيون!
تحمّل الوزير كل ذلك الهجوم، وخرج منتصراً، حينما أسند إليه الملك فيصل بن عبدالعزيز حقيبة وزارة الصحة في عام 1970م إضافة إلى وزارة الإعلام، التي أسلَمها بعد فترة إلى الشيخ إبراهيم العنقري، ليتفرغ لوزارة الصحة، التي رأى الملك فيصل أنها بحاجة إلى رجل قوي، ولاسيما أنه - أي الفيصل- قد رأى بعينيه أن وزارة الإعلام قد شبت عن طوقها بعد أن أرسى جميل دعائمها، وأن طبول إعلام الستينات الناصرية توقفت.
ممثلا للملكة في مؤتمر دول عدم الانحياز في بلغراد عام 1961م
العودة دبلوماسياً
لا يمكن لهذه الصفحات أن تُحيط بما قدمه جميل الحجيلان في وزارة الإعلام ثم في وزارة الصحة، لكنه محفوظ في سجلات الوزارتين، اللتين غادرهما الوزير بطوعه واختياره، مفضلاً العمل الدبلوماسي، لتأتي موافقة الفيصل على تعيينه سفيراً في ألمانيا، ثم سفيراً في باريس من قبل الملك خالد بن عبدالعزيز عام 1976م، وهو العمل الذي سيمضي فيه الحجيلان عشرين عاماً مشبعة بالنشاط والحيوية والعمل الدبلوماسي الرفيع. حتى إذا ما حل أغسطس 1990م، عاد جميل الحجيلان إلى واجهة الأحداث مدافعاً عن بلاده عبر شاشات التلفزة الفرنسية وإذاعاتها، وعبر مقالاته الصحافية التي يكتبها بلغة فرنسية حاذقة، فكان خير ممثل لبلاده في قارة أوروبا قاطبة، الأمر الذي دعا الملك فهد بن عبدالعزيز بأن يطلب من وزير خارجيته تكليف جميع السفراء السعوديين في دول أوروبا بالذهاب إلى باريس للاجتماع مع السفير الحجيلان ليستفيدوا من خبرته وعمله، وليحققوا شيئاً مما يفعله.
في عام 1996م، سلّم السفير جميل الحجيلان سفارة بلاده إلى زميله السفير فيصل الحجيلان، الذي صدر أمر ملكي بتعيينه سفيراً في باريس بعد أن كان وزيراً للصحة. ومن باريس عاد جميل الحجيلان إلى الرياض مجللاً بالتقدير والاحترام من قادة بلاده، الذين رشحوه للعمل أميناً عاماً لمجلس التعاون الخليجي في مدينة الرياض، تتويجاً لعطائه، وهو منصب مستحق لرجل أفنى من عمره أكثر من 40 عاماً ما بين السفارات والوزارات. وهي سيرة جليلة، مليئة بالعبر والتحديات، عبرها جميل الحجيلان بكل قوة وصلابة، واثقاً بما يتوافر عليه من إمكانات وكفايات. شاهداً على عصور وعهود ملوك سبعة، بدءاً من المؤسس وإلى هذا اليوم، بكل ما فيه من ألق وتوهج وما تختزنه ذاكرته المتقدة، أمد الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية.
ولعلي لا أُبالغ إذا قلت إن السيرة التي كتبها الشيخ جميل الحجيلان هي أوفى وأشمل سيرة ذاتية قرأتها لمسؤول سعودي رفيع، وهي أرقى وأمتع سيرة ذاتية قرأتها لسياسي ورجل دولة عربي، من حيث لغتها العربية الباذخة التي اتسمت بدقة التصوير والوصف وبأسلوب أدبي جميل، ولم تقتصر في تفاصيلها على مسار حياته ومهماته الوطنية، بل تعدت ذلك إلى تقييد وتوثيق أحداث محلية وإقليمية، عاصرها كاتبها وأشبع تفاصيلها، زماناً ومكاناً. لذلك فهي بحق «سيرة منتظرة».