مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

عبدالله السعد

قاسم خلف الرويس: الدوادمي

سير رجال الوطن جزء من تاريخه، وحفي بنا أن لا ننسى لهم مساهمتهم الكبيرة في بناء الدولة الإداري مع ما لهم من مساهمة في التنمية الحضارية، والنهضة الاقتصادية، والحضور الثقافي، ومن هؤلاء معالي الشيخ عبدالله السعد القبلان رحمه الله، الذي كان في يوم من الأيام وزيراً للمواصلات، ورئيساً لمجلس إدارة البنك الزراعي، وعضواً في مجالس إدارات شركات كهرباء مكة وجدة والطائف، وعضواً في الهيئة التأسيسية لجامعة الملك عبدالعزيز، وعضو مؤسسة البلاد الصحفية، وعضو مجلس إدارة شركة الأسمنت العربية، وهو إلى جانب ذلك أديب واسع الثقافة، صاحب قلم رشيق، مارس الكتابة الصحفية، ونشر بعض المؤلفات، ومع ذلك نلاحظ تجاهلاً لشخصيته، وإهمالاً لدوره وإنتاجه، بل ربما سقط اسمه من بعض معاجم وتراجم الأدباء والكتاب السعوديين دون مبرر! هنا نسجل شيئاً من سيرته تذكيراً للأجيال الصاعدة، وإحياء للأعمال الصامدة: 

 المكان والزمان في صحراء الميلاد

ولد عبدالله السعد القبلان الحارثي في فضاءات الصحراء الواسعة، ولم تكن ولادته مصادفة أثناء رحلة سفر طارئة كما قد يظن بعض مترفي المدنية! بل تفتحت عيناه أول ما تفتحت بين الجبال والسهول، لأن أهله وقبيلته الذين يعتز بهم ويعتزون به كانوا من البادية الرحَّل الذين لا يكادون يستقرون في مكان طلباً للكلأ وانتجاعاً للحيا لارتباط نمط معيشتهم الدائم بالإبل وبالغنم أيضاً.

أما المكان حيث تتشابه العناوين في تلك الفيافي، فكان جنوب شرقي الطائف، وتحديداً بين الطائف وتربة، فقد ولد بالقرب من جبل حَضَن، فكان له أول حُضن، وحَضَن في اصطلاح البلدانيين هو أول منازل نجد، فكان حجازي الأصل، نجدي المولد، منصهراً بتراب وطنه الكبير في منطقة برزخية كانت خطوط التّماس السياسي متوقدة فيها بعد سنيات قليلة!!

وأما الزمان فلا يمكن الوقوف على تاريخ ولادته بدقة ولا تحديده بالضبط، كغالب مواليد وسط الجزيرة العربية إلى ما قبل نصف قرن، لأن عامة الناس بادية وحاضرة كانت ولا تزال تؤرخ بالحوادث لا بالسنين.. ولكن يُقدر أن يكون ميلاده ما بين عام 1328هـ وهي السنة التي يسمونها بعض أهل نجد (سنة ساحوت) وهي سنة جدب ومجاعة، وعام 1330هـ وهي التي تسمى عند بعضهم (سنة الحصبة) وعند البعض الآخر (سنة أبو دخن)، والتاريخ الأخير هو التاريخ المسجل في بيان حياته الوظيفية وإن كان الأول أرجح.

 

حلاوة الطفولة الأولى ومرارتها 

تذوق الطفل الحارثي حلاوة الطفولة الأولى في أحضان والديه متمتعاً برعايتهما، وما محضاه له من العطف والحنان في بواكير أيامه في تلك البيئة الصحراوية النقية الممتدة أمام ناظريه، مع ما في حياتها من شظف المعيشة وفقر الحال، فالبدوي حتى لو امتلك بعض الإبل والأغنام فإن معيشته تقوم على الضروريات الأساسية للحياة حيث لا وقت ولا مال للكماليات، ولكنه في أوقات الخصب والربيع لا ينازعه منازع على عرش السعادة والسرور.

 ولكن أيام السعادة لا تطول في تلك الصحراء، فما إن طرق الصغير باب السابعة أو اجتازه إلا وتبدلت حلاوة الحياة مرارة، وضاق الفضاء الواسع بجسده الضئيل، فقد فجع بوفاة أبيه وأمه ليس ذلك فحسب، بل كانت فجيعته بهما في يوم واحد!! حيث اجتاح وباء الحمى الصفراء أو الوافدة الإسبانية الجزيرة العربية في عام 1337هـ ومات بسببه خلق كثير، فكانوا يسمون تلك السنة (سنة الصخونة) حيث يقلبون السين صاداً، بينما سماها بعضهم (سنة الرحمة) تفاؤلاً!

ويشاء الله أن يتزامن هذا العام الذي فقد فيه والديه مع دخول تربة وما حولها تحت مظلة حكم الملك عبدالعزيز بعد معركة تربة الشهيرة في الخامس والعشرين من شهر شعبان 1337هـ التي هزم فيها جيش عبدالله بن الحسين شر هزيمة!! وهو من الأسباب الرئيسة التي جعلت قافلة حياته تتجه فيما بعد إلى المشرق حيث عاصمة السلطان عبدالعزيز آل سعود. 

 

الرحيل من البادية إلى الحاضرة

لقد رحل والداه وتركاه وأخوته أيتاماً مفجوعين لا حول لهم ولا طول ولا مال يغطي حاجتهم في الحياة، وعلى الرغم من أن لهم بعض الأقارب لكنهم كانوا مثلهم يصارعون العيش ويصارعهم، وكأن حبال وصلهم بالصحراء تصرمت برحيل والديهم حيث لم يمكثوا طويلاً هناك، فقد ترك هو وأخوته حياة البادية ويمموا وجههم شطر مدينة الرياض عاصمة السلطان ابن سعود في عام 1340هـ بعد أن باعوا ما تبقى لهم من نويقات وغنيمات تسوقهم أحلام الحياة الكريمة في جوار السلطان الذي طارت بمآثره الأذكار.

 وفي الرياض نزل الإخوة مع أفواج الطلبة في مسجد الظهيرة أولاً ثم حلة الأجناب ثانياً، وكرَّسوا وقتهم للقراءة في الكتاتيب الملحقة بالمساجد، ويشير أحد المصادر أنه دخل كتّاب المطوع ابن مفيريج في حي دخنة، أما طعامهم ففي مضيف الأجناب الذي أعده الملك لكل قادم للرياض محتاج أو غير محتاج من البادية والحضر على السواء، ولا يخلو الأمر من بعض (روبيات) ينفحهم بها وزير المال، بل وزير كل شيء في ذلك الحين (شلهوب أبو صالح) بأمر السلطان، فيكتسون من هذه (الروبيات) ويقضون بالباقي حاجاتهم البسيطة.

 وبعد شهرين أو ثلاثة من إقامتهم في الرياض حدث فقدان جديد في حياة الفتيان الصغار حيث إن أخوهم الأكبر لم تقف طموحاته في الرياض فتركهم وسافر إلى البحرين وقطر والتحق بغواصي اللؤلؤ ونفسه تحدثه وأحلامه تحدوه ليكون تاجراً دفعة واحدة ثم يأتي للرياض ليأخذهم معه إلى مكان الثروة في الخليج العربي، ولكنه غاب غياباً طويلاً استمر بضع سنوات ثم عاد إليهم في مكة محملاً بالديون حيث نالت منه سني كساد سوق اللؤلؤ الذي عم دول الخليج آنذاك.

 في كنف آل سليمان

وفي الرياض بعد سفر أخيه الأكبر أدركته العناية الإلهية فتعرف إلى آل سليمان الكرام حيث كان عبدالله السليمان الحمدان يعمل في ديوان الملك ـ قبل أن يصبح وزيراً ـ  فعاش هذا اليتيم في كنف ابن سليمان الذي تعهده بالاهتمام وأحسن إليه غاية الإحسان ونال عطفاً منه ومن أخيه حمد السليمان، بحيث أشركاه مع أبنائهما في كل شيء؛ العلم والمأكل والمشرب والمسكن والرعاية والعناية إلى أن كبر وأدرك من العلم قسطاً. قال عبدالله السعد عن ذلك: «تربيت في كنف عبدالله السليمان منذ الطفولة، وتعهدني وأكرمني، وأحسن إليَّ في كل مراحل عمري، وسعى إلى ترقيتي في كل وظائفي في الدولة إلى أن صرت وكيل وزارة، ولا أزال أذكر عطفه وحنانه في معاملتي».

 مثلث المعاناة: اليتم والغربة والمرض 

وأثناء دراسته في الرياض بعيداً عن أهله وقبيلته ومفارقاً لأخيه الأكبر، أصيب هذا اليتيم بأمراض شديدة ومتعددة لم تنفك ملازمة له، وكأن المآسي تضرب مواعيدها معه بعد تجاوزه مأساة الحرمان من حنان والديه ورعايتهما وما صاحبه من ألم نفسي واجتماعي حيث عاش مع المرض تجربة حزينة انكسرت لها حاله، فالمرض العضال أنهك قوى الفتى الصغير ولكن.. ماذا يفعل؟! وأين يمكن أن يجد العلاج؟! وهو في عمق الجزيرة العربية المعزول عن العالم حيث لا يوجد مستشفى ولا طبيب!! وجل اعتماد سكانها على العلاج الشعبي الذي يشارك الموت في أجسادهم النحيلة وما من جسد إنسان عاش في تلك الفترة إلا وللنار فيه وسم حيث يتحول الكي في ثقافة الصحراء إلى أول الطب وآخره في الوقت نفسه!!  لقد كان أقرب البلدان التي يتوافر فيها الطب الحديث هي البحرين حيث كان فيها مستشفى للإرسالية الأمريكية، ولم يكن ليتهيأ السفر إلى البحرين لكل الناس على افتراض معرفة عامتهم بوجود مثل هذه المستشفيات في البحرين أو الكويت أو البصرة، ولعل وجود أخيه في تلك الأنحاء وبحكم العلائق التي ربطته بابن سليمان القريب من الملك عبدالعزيز، تهيأت له فرصة الذهاب إلى البحرين مستشفياً عام 1343هـ وظل هناك مدة طويلة لأنه لم يعد إلا في السنة التي تليها 1344هـ ولكن عاد اليتيم حزيناً مكسور الخاطر على الرغم من تعافيه من المرض! فلماذا؟

لقد  كان من آثار هذا المرض الذي تأخر علاجه تعطل عضو مهم من أعضاء جسده النحيل، وهو يده اليمنى التي ربما أدى فقدانها إلى فقدان الأمل في مواصلة طلب العلم لولا الله سبحانه ثم ما تكتنزه نفس هذا اليتيم من همة وطموح، إنها إرهاصات الأقدار التي تصهر الأيتام المبدعين في بوتقة العزيمة المتوقدة والاعتماد على النفس، وقد فقد والديه قبل فقد إحدى يديه فلم يفتّ ذلك في عضده ولا في طموحه.

دراسته وتعليمه 

 لقد كان الفتى متجهاً إلى طلب العلم اتجاهاً حثيثاً ولكن لم يكن التعليم في نجد آنذاك تعليماً نظامياً حديثاً ولكنها مجرد كتاتيب يعلم فيها (المطاوعة) القراءة والكتابة والقرآن وبعض المعارف في الدين واللغة، وفي تلك السنة 1344هـ سافر برفقة آل السليمان إلى مكة المكرمة حيث دخل الحجاز تحت مظلة الحكم السعودي وهو يتعالج في البحرين، وبعد نهاية موسم الحج في تلك السنة أي في بداية عام 1345هـ تقريباً بدأ مرحلة من التعليم النظامي المتطور الذي لم يعهده التلميذ النجدي حيث دخل مدرسة المسعى الابتدائية وهي الابتدائية الحكومية الوحيدة في ذلك الوقت فأخذ شهادتها، وبينما تذكر بعض المصادر أن تخرجه كان في عام 1349هـ فإن المصادر الأوثق تؤكد أنه في هذا العام كان من طلاب المعهد العلمي السعودي بمكة، والذي التحق به حينما كان مقره بأجياد أمام عمارة كانت تسمى وزارة المالية، وهي عمارة تركية التاريخ والمنشأ وكان يديره الشيخ كامل قصاب، ثم إبراهيم الشورى، ومن زملاء دراسته في المعهد الشيخ عبدالله خياط والشيخ أحمد علي، وقد نال شهادة المعهد عام 1352هـ، وعمره يناهز العشرين عاماً، وكان عازماً على أن يكمل تعليمه العالي خارج البلاد من خلال البعثات ولكن ظروفاً قاهرة أهمها المرض حالت دون ذلك على الرغم من دعم الوزير ابن سليمان له.

وقد لازمته الأمراض طيلة دراسته، وأكثر ما تشتد عليه أيام الاختبارات نتيجة السهر والإجهاد ولكن شفاه الله منها كلها بعد تخرجه بسنة واحدة!! تحدث عن معاناته فقال: «ووقعت بعد اليتم فريسة للأمراض المبرحة زهاء 13 عاماً ودخلت المدارس مريضاً وأكملت دراستي الابتدائية والثانوية مريضاً وكنت عازماً على إتمام التعليم العالي ولكن ظروفاً يطول شرحها أهمها المرض حالت دون بغيتي وبعد تخرجي وتحسن حالتي الصحية طرقت باب العمل».

مسيرته الوظيفية 

المتأمل في مسيرة عبدالله السعد الوظيفية يلاحظ أنه تدرج في المناصب الحكومية حتى وصل أعلاها دون انقطاع مدة واحد وثلاثين عاماً لم يلتفت فيها إلى الخلف ولم يتجاوز خطوة إلى التي تليها، وعلى الرغم من الزوابع التي تهب في وجهه ومن خلفه، ورغم العقبات التي توضع في طريقه، والمشاكل المتعددة التي عارضته في حياته الشخصية والعملية، لكنه تغلب عليها ـ كما يقول ـ بإيمانه العميق بالله وبصبره وبجلده وبالمرونة اللازمة لكل موظف ناجح.

وقد بدأ حياته الوظيفية المتدرجة على سلم العمل الجاد بوظيفة بسيطة في وزارة المالية بمسمى (كاتب إحصاء) ثم (كاتب برقيات) في مكتب وزير المالية ثم (مساعد مدير مستودع) ثم (مساعد مدير مصلحة) ثم (مدير مصلحة) فـ(رئيس مالية) ثم (مساعد مدير عام الوزارة) فـ(مدير عام الوزارة) فـ(وكيل الوزارة المساعد) ثم عين بمرسوم ملكي وكيلاً لوزارة المالية للشؤون الخاصة الملكية، وتقديراً من الملك سعود لكفاءته وثقته به، صدر المرسوم الملكي رقم 1867 وتاريخ 22 شعبان 1375هـ، بنقله من وزارة المالية وتعيينه وكيلاً لوزارة المواصلات، فكان ركنها الركين والعضد الأيمن لوزيريها سلطان بن عبدالعزيز (1375-1380هـ) ثم بدر بن عبدالعزيز (1380- 1381هـ) ظل كذلك حتى صدور الأمر ملكي رقم 13 بتاريخ 1 / 4 / 1381هـ بتعديل وزاري قضى بتعيين عبدالله السعد وزيراً للمواصلات، خلفاً للأمير بدر بن عبدالعزيز الذي قدم استقالته، فكان السعد رابع وزير لهذه الوزارة في تاريخها وأول وزير لها من خارج الأسرة الحاكمة، وكانت هذه الوزارة مضطلعة في ذلك الحين، بالإضافة إلى ما يتعلق بالطرق والجسور بالموانئ وبالسكك الحديدية وكذلك بالبرق والبريد والهاتف، فانضم السعد بذلك إلى مجلس الوزراء الذي كان برئاسة الملك سعود ولكنه لم يستمر في منصبه هذا أكثر من سنة وشهر وثمانية عشر يوماً، حيث صدر أمر الملك سعود ذي الرقم 17 بتاريخ 18 / 5 / 1382هـ  بإقالة الحكومة، بينما أسند إلى ولي عهده الأمير فيصل رئاسة مجلس الوزراء واختيار وزراء حكومته، فكتب حسين منصوري تحت عنوان (وداعاً أيها الوزير): «إن من العسير على أي مواطن أن يذكر اسم وزارة المواصلات دون أن تقترن في ذهنه باسم عبدالله السعد فقد ارتبطت به هذه الوزارة وارتبط بها فهو ابنها البار حقاً وصدقاً». 

كانت هذه نهاية عهد عبدالله السعد بالوظائف الحكومية حيث أحيل على التقاعد بعد عمر ناهز الخمسين وخدمة مدتها 31 سنة وشهران وعشرة أيام، وهو ما يعني أنه دخل الخدمة الحكومية في 28 ربيع الأول 1351هـ الأمر الذي يرجح أن تخرجه من المعهد السعودي لم يكن في عام 1352م كما أشارت بعض المصادر إذا علمنا أنه لم يطرق باب العمل إلا بعد تخرجه!!

اهتماماته الثقافية وآثاره الأدبية

لقد حدث أثناء دراسة عبدالله السعد في المعهد السعودي قصة، وهي مع طرافتها تعكس شعوره الوطني الصادق، وتوقّده الفكري المبكر، ونضجه الثقافي الواعي، وقد أشار إليها الشيخ حمد الجاسر في سوانح ذكرياته (ج2 / 715) فقد حضر نائب الملك (فيصل) إحدى مناسبات المعهد وكلف (السعد) بإلقاء كلمة معدة عن طلاب السنة الثانية فألقاها، ولكنه بعد ذلك أخرج من جيبه كلمة أخرى كان قد أخفاها عن الأساتذة! فماذا كان محتوى هذه الكلمة التي أحرجت الأساتذة! إنها كلمة عادية بمقاييس اليوم ولكنها في ذلك الزمان تعد جرأة كبيرة!! خصوصاً أن قائلها مجرد طالب يدرس في المعهد!!

فقد لاحظ هذا الطالب النجيب أن تركيز التنمية والتعليم النظامي في الحجاز في حين لم يبدأ التعليم النظامي في نجد لأسباب مختلفة لسنا بصدد الحديث عنها هنا، ولكن قال السعد في كلمته: «مولاي: بمناسبة زيارة المقام الكريم لهذا المعهد العلمي السعودي في هذا اليوم السعيد وبصفتي وليد تلك الواحات النجدية أقول: نظرت إلى ما عملته أيديكم المباركة في بلادنا الحجازية فسررت كثيراً وحمدت الله على ذلك، ولكنني سمعت من أختها نجد صوتاً عالياً جاء به نسيم الصباح وردده الصدى في جبال الحجاز وهي تقول: أين نصيبي مما عملتم في شقيقتي الحجاز؟! إن نجداً مسقط رؤوسكم وحصنكم الحصين فلا تنسوني، فتأثرت من سماع هذا النداء ورجوت الله أن يحقق آمال نجد في بث التعليم في ربوعها.. مثل الحجاز»... ورغم غضب المسؤولين في المعهد من المناورة التي قام بها هذا الطالب إلا أنها لم تغضب الفيصل بقدر ما لفتت أنظاره! ولا غرابة أن نجد هذا الطالب بعد سنوات طويلة عضواً في المجلس التأسيسي لجامعة الملك عبدالعزيز!! 

قال السعد في لقاء أجرته معه مجلة المنهل عن نفسه وقد ناهز السبعين: «... فلست من الأدباء الملتزمين المجيدين ولست من الكتاب المشهورين، وإنما أنا هاوي أدب، وكويتب صاحب مبدأ والتزام، وقد مارست هوايتي عندما تخليت عن مناصبي الحكومية أو عندما تخلت هي عني، فسرت على هذا المنوال فترة من الزمن إلى أن تقدمت بي السن وضعفت مقدرتي الإنتاجية فتوقفت عن الكتابة وتركت المجال لأبطال الميدان والقادرين على النزال».  

والحقيقة أنه بالفعل انصرف إلى ممارسة الكتابة والتأليف بعد تقاعده من العمل الحكومي بغض النظر عن الجوانب الأخرى ولكن هذا لا يعني أنه لم يمارس الكتابة والنشر قبل ذلك، فقد نشرت له جريدة أم القرى في مرحلة مبكرة من حياته وهو ما زال طالباً في المعهد السعودي بمكة سنة 1349هـ مقالة بعنوان (الحجاز في عهد مليكه عبدالعزيز آل سعود) ذيلها بإمضاء: «عبدالله السعد القبلان النجدي، أحد طلاب القسم الثاني، من المعهد العلمي السعودي» وربما تكون هذه المقالة هي أول مقالاته المنشورة في الصحافة.  

والحقيقة أن السعد مارس الكتابة الصحفية أثناء الدراسة وأثناء العمل ولكنه تفرغ لها بعد التقاعد بمشاعر وطنية صادقة، وروح عروبية أبية، ونفس إسلامي متجل، وأغلب مقالاته كانت في جريدة البلاد، وقد كان أحد أعضاء (مؤسسة البلاد الصحفية)، وكذلك في مجلة (المنهل) التي ربطته بصاحبها الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري رابطة أدبية خاصة، ولذا فلا غرابة أن نجده يتبرع لها بعد وفاة مؤسسها بمبلغ 30 ألف ريال حرصاً على استمراريتها ودعماً لدورها الثقافي الرائد. 

في الثمانينات الهجرية، الستينيات الميلادية، كتب عبدالله السعد حلقات طويلة عن (بروتوكولات حكماء صهيون)، وكان من أوائل الكتاب السعوديين الذين كتبوا عنها، وحللوا ما جاء فيها، وكان حريصاً على عرض بعض الكتب السياسية والتعليق عليها، ما يؤكد عمق قراءاته واطلاعه الواسع، ولم ينفك محذراً من خطر اليهود ومطامعهم في البلاد العربية، وكان يستخدم تعبير (الثالوث الشرير) ليشير إلى (الصهيونية العالمية، الاستعمار الصليبي، الشيوعية)، وكان يستخدم تعبير (نصف الأمة) حين يطالب الحكومة بالاهتمام بالمواطنين للإشارة إلى البادية! والحقيقة أنه حفي بمقالاته أن تجمع بين دفتي كتاب لتبقى سجلاً خالداً على ما دونه قلمه من أفكار سابقة لزمانها وجريئة في شأنها. 

وتشير كثير من المصادر إلى تأليفه كتابين مطبوعين فقط هما: الكتاب الأول اسمه (النكبات الثلاث)، وهو يتحدث عن الصراع العربي الإسرائيلي، ويقصد بالنكبات الثلاث يقصد نكبة العرب في فلسطين سنة 1948، 1956، 1967. ص272، من منشورات الدار السعودية، طبع في جدة 1388هـ / 1968م، أما الكتاب الثاني فعنوانه (على خط النار)، وهو في الأصل رحلة قام بها  إلى الأردن عام 1966م بدعوة من حكومتها، وتطرق فيها بتمهيد طويل إلى حرب حزيران: مقدماتها، معقباتها، العمل الفدائي، طبع في بيروت 1971م.

رموز على اللوحة

وبينما لا تشير المصادر إلا إلى الكتابين المطبوعين السابقين، فإن عبدالله السعد قد طبع كتاباً ثالثاً قد يكون سبباً لشهرته الثقافية، ولكنه أسقط هذا الكتاب من سيرته وإنتاجه بسبب الضجة التي أثيرت حوله، فهذا الكتاب أشبه بالمعدوم في المكتبات العامة أو التجارية، وتحول بعد تلك الضجة في ذلك الزمان الذي صدر فيه إلى كتاب خفي أو منشور سري يتداوله الناس بعيداً عن أعين الرقيب! ويمكن أن يكون سبباً للإهمال الذي عاشه السعد آخر حياته وبعد مماته، وقد أشار معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية إلى أنه  لم يعد له ذكر في النشر والتأليف بسبب تأليفه كتاباً كان ذا أثر في ابتعاده عن هذا المجال، فما هو هذا الكتاب وما محتواه؟!

اسم الكتاب (رموز على اللوحة) وقد حوى كما ذكر الشيخ حمد الجاسر (سوانح الذكريات ج2 / 711) بعض النوادر التي كانت تتردد بين بعض الناس في مجالسهم العامة، وقد حملت على غير المحمل الذي أراد، فالرجل صادق الولاء متفان في خدمة مليكه وأسرته الكريمة، مقدر للرجال المخلصين من أبناء هذه البلاد، وما كان محلاً لسيِّئ الظنون والأوهام، ولا يحمل ضغينة في قلبه، ولا حقداً على أحد ممن دارت الشكوك حول إلصاق تلك النوادر بهم! ولكن يغلب على قلبه سلامة القلب وطيبه. قال الجاسر: وكان من أثر ما أخذ عليه أن انطوى عن المجتمع وعاش في شبه عزلة إلا من خاصته وبعض الواثقين به!

وهذا الكتاب طبعته مطابع الأصفهاني وشركائه بجدة دون تاريخ، ولكن المصادر تشير أنه كان تحت الطبع في شهر ذي القعدة 1387هـ / فبراير 1968م ضمن ستة كتب أخرى سياسية واجتماعية كان المؤلف قد وقَّع عقد طبعها مع الأستاذ محمد صلاح الدين صاحب الدار السعودية للنشر بجدة! ولا يصح بأي حال من الأحوال الربط بين هذا الكتاب وبين إقالته من الوزارة لأن الكتاب لم يصدر إلا بعد الإقالة بأكثر من خمسة أعوام! 

وفي حين ذكر السعد في مقدمة الكتاب بأن فكرته طرأت في خاطره منذ عشرة أعوام، وتخيل أبطاله، وتصور قصصه الرمزية فيما بعد ذلك، ثم بدأ بكتابة بعض حوادثه في عام 1378هـ نشر منها ما نشر في ذلك الحين ومن بعد ذلك الحين، ومنها ما لم ينشر.

 إذن يجب أن يعلم القارئ أن هناك جزءاً كبيراً من الكتاب سبق نشره في الصحافة وآخرها قطعة نثرية عنوانها (يا ليل) نشرت أثناء طباعته ولم يثر نشر أي موضوع من موضوعاته لغطاً ولا إشكاليات!!

 وقد أهدى الكتاب: «إلى من يحاسبه ضميره قبل أن يحاسبه الناس....» وأكد في مقدمته: « ...لا أعني برموزي هذه أشخاصاً معينين، ولا جهات بذاتها، وإنما هي تصورات وتخيلات فلسفية أمْلَتها عليَّ تجارب الحياة ومعاشرة البشر فسجلتها.. فأنا كالخياط يفصل أثواباً على مقاسات شتى ثم يقوم بخياطتها ويضعها جاهزة للارتداء في المعارض ليختار كل لابس مقياسه منها وليقدر كل قارئ مواصفات الأشخاص الذين يحق لهم ارتداءها». أما هدفه من هذا الكتاب فقد وضَّحه في قوله: «وغاية ما أرجوه ممن يجد في نفسه خصلة أو أكثر من هذه الصفات حسنها أم سيئها أن يحاول التخلص من السيئ والاستزادة من الحسن، وأن لا يلومني على إيرادها أو يظن أنني عنيته شخصياً بها..».   

كما أن للسعد بعض الكتب المخطوطة الغائبة، فلعلها فقدت أو تلفت أو اختفت، أو لعلها موجودة عند أسرته ولا نعلم عنها!! ومنها: (عبد الناصر والعرب) و(الطريق إلى تل أبيب) و(مخارز في أديم المجتمع) و(حياة يتيم)، وكان عازماً على طباعتها ونشرها، بل إنه وقَّع عقد نشر ستة من كتبه كما أشرنا بينما لم يطبع له إلا ثلاثة فقط!!

الختام

لقد انطوى عبدالله السعد الوزير الذي كان ملء السمع والبصر في آخر حياته على نفسه، وعاش بعيداً عن الناس في شبه عزلة اختيارية، دعاه إليها الإحباط والجحود المجتمعي، حتى انتقل إلى رحمة الله في يوم الجمعة 2 ذي الحجة 1414هـ عن نحو 84 عاماً وخبر صغير عن وفاته، ولا زلنا ننتظر من المهتمين بالتعاون مع أسرته المبادرة  إلى كتابة سيرته والبحث عن أعماله الأدبية المجهولة المصير.

 

ذو صلة