مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

مهدي بك المصلح: مؤسس الأمن العام

مهدي بك المصلح: مؤسس الأمن العام
محمود صباغ:جدة


سعادة مهدي بن قدري بن صالح قلعه جي -أو مهدي بك المصلح كما شهرته- من العناصر العربية من بقايا جيش الأتراك في المدينة المنورة. عمل في شرطة المدينة منذ عهد الأشراف، ثم أوعز إليه الأمير محمد بن عبدالعزيز تأسيس شرطة المدينة في العهد السعودي في أواخر 1925، ثم في أبريل 1929 عُين مديراً لشرطة مكة، ومنها أصبح أول مدير للأمن العام في تاريخ بلادنا الحديث منذ مارس 1938 بإرادة سامية من جلالة الملك عبدالعزيز.


مواهبه
وصل مهدي بك مكة وبها فقط خمسة ضباط وما يزيد قليلاً على ثلاثمئة جندي يديرون ثلاث عشرة حارة مركزية. طبق مبدأ الصرامة، التي تصل إلى حد القسوة، في توطيد الأمن، وفي تعميم هيبة الشرطة، وقد حصل عليهما بجهد وسهر طويلين جداً، فلم يكن ينام الليل، بل كان يقوم بنفسه بأعمال الحراسة الدورية كما يروي عنه عزيز ضياء. ذلك السهر الذي طبع سيرته وأورثه القلق والأمراض المزمنة والتقاعد الباكر.
ومنذ لحظة وصوله إلى مكة، فكّك ملفات الجرائم المنظمة في وقت قياسي، وبكفاءة نادرة، ما أكسبه سمعة رهيبة، وأذاع صيته لدى دوائر مجتمع مدن الحجاز. لقد أبطل جرائم القتل المتسلسلة التي استهدفت نساء مستقلات في مكة، منها جريمتا قتل آمنة التكرورية وشرعا البيشية، وأعاد أموال النشل التي جرت بطرق فيها مهارة غريبة، وأوقف جرائم الاحتيال المالي منها الإيقاع بتلاعب أحد تجار الحبوب في ميناء جدة ضد دلالي البيع، من بعد جولة استجواب خاطفة إلى مرفأ جدة.
وكان مهدي بك سابقاً لعصره في الانفتاح على علم الأدلة الجنائي. لكنه أيضاً تمتع بقسط وافر من الفراسة والذكاء والتمرّس في الحيل النفسية، فهو بفطرته وحساسيته، فطن لأهمية الدعاية وضرب الهالة على شخصيته في المخيال الشعبي، لتعينه في اختصار مهامه عند التحقيق وفي تفكيك الجرائم بالتعبئة المسبقة ضد أعتى من يقع تحت يديه في مراحل التحقيق. فكانت أخبار تفكيك الجرائم يجري تداولها بتفاصيلها في صحيفتيّ أم القرى وصوت الحجاز، مقرونة بنجومية مهدي بك وبطولته الخارقة.
ولم يمض على استلامه شرطة مكة تسعة أشهر، حتى احتفلت مكة المكرمة رسمياً بمرور أسبوع كامل بلا حوادث ولا جنح أو شكاوى. وقد عمد مهدي إلى نشر ذلك الإعلان في الصحف الرسمية، لاستخدامه كحيلة نفسية، ترمي إلى ترسيخ حضور النظام في نفوس العامة، تعين على إشاعة حس الانضباط ومضاعفته خصوصاً مع مجتمع كان لتوه يخرج من ذهنيّة الحارة العصبانية الضيّقة التي تستسهل المعارك والهوشات لأتفه الأسباب.
نجم التحقيقات الأول
في أواخر 1930 استطاع أن يفكك جريمة اختفاء شاب ينتمي لإحدى عوائل الأعيان من أهالي حارة الشبيكة، وكشف بتحقيقاته تآمر أحد تجار سويقة مع رفيقين له، في قتل الضحية بعد استدراجه بسبب علاقة غرامية ورغبة في ارتكاب الفعل الشنيع به، التي تطورت درامياً وانتهت بقتل المجني عليه وبناء جدار على جثته من المعتدين. وهي حادثة مريرة مشهورة في تاريخ مكة، انتهت في السابع من نوفمبر من تلك السنة بتنفيذ حكم الحرابة، بقطع رؤوس القتلة الثلاثة في ساحة أمام دار الحكومة بجياد، بإشراف من مهدي بك.
وفي يونيو 1933 أوقع بقتلة التاجر عبدالعزيز بن حمد البسّام، أحد أعيان عنيزة، من قبل جماعة من تجار عنيزة في شِعب عامر، إثر خلافات تجارية، فتولى التحقيق في الحادثة، وحملهم على الاعتراف بجريمتهم، فأقيم فيهم إنفاذ القصاص.
ولما حضر الكساد الكبير، بعد الحرب العامة، وتأثرت البلاد وشحت مواردها، انتبه مهدي بك لعصابات النشل والسرقات المنظمة، فقام بالإيقاع بعصابة عزّلتي جلاّب وايداع أفرادها في السجون.
ثم جاءت جريمة الاغتيال السياسي التي استهدفت جلالة الملك عبدالعزيز، وهي الحادثة الشهيرة بحادثة المطاف في موسم حج 1353هـ. صعد مهدي بك إثرها كبطل مطلق للتحقيقات، بعد أن أدت تحقيقاته إلى تفكيك تفاصيل المؤامرة، وإثبات أنها من دوافع سياسية، اشترك بها ضباط ينتمون للأسرة الحاكمة في اليمن المتوكلي، هي نتيجة لأوهام وترسبات سياسية باطلة.

قسوته
كان مهدي بك رجلاً مخيفاً، ومن خوف الناس منه كان البعض منهم لا يمر أمام مبنى الحميدية، وهو مقر الحكومة وبه إدارة الشرطة، خشية أن يكون واقفاً في الشرفة العريضة أمام الباب، حتى لو كان ذلك الفرد ليس عليه مأخذ، ولم تكن له سابقة مشينة.
وهو ذو صوت جهوري، يهدر باستمرار، لا يقدر نفر على مواجهته علناً، لكنه كان مثالاً في النزاهة والإخلاص والانضباط لا يفتح مجالاً لتفاوت المعاملة، ومن ذلك أوامر الإركاب في سيارات البريد، وما كان في موضوع السفر بين المدن، الذي كان لا يتم إلا بإذن منه، فكان يطبق النظام على الجميع ولا يراعي فيه أياً من الأكابر.
ولعله تشدد في بعض إجراءات الاستجواب، أو تمادى في شيء من الإجراءات بما يتماشى مع روح عصره، لكن مجلس الشورى الذي جاوره في مبنى الحميدية، كان مواكباً بشكل باكر في وضع أطر من الضبط والرقابة على مهدي بك تحد من تغول سلطته وتمنع انحرافها، من ذلك ما أقره المجلس في نوفمبر 1933، من نظام جديد للجنح والتعزيرات لا يجوز فيه حبس الاحتياطي، ويمكّن فيه الكفالة من الحبس بمقابل مادي.

مخاوفه
زامل مهدي في شرطة المدينة مجموعة من الضباط العرب المستوطنين وعلى رأسهم مديره وقتها الضابط حُسني بك العلي المقدسي الذي كانت بينهما غيرة وتنافس طاغيين، دمغا مسيرة مهدي بك التي جاءت في فصول منها أشبه بردة فعل وصدى لتلك العلاقة التنافسية.
رد ذلك التنافس المواهب العلمية والمزايا الشخصية التي بزّ بها حسني العلي عن قرينه القلعجي، فالأول أقرب للأفنديّة خريج جامعي في القانون، والثاني محض عسكري بتعليم متدن، وإن أجاد كلاهما اللغة التركية، على مقدسيّة الأول وعراقية الثاني.
وكانت الحظوة في عهد الأشراف لحسني، الذي لربما عامل مهدي بشيء من الاستهتار، ثم لما جاء العهد السعودي صعد مهدي، فرد المعاملة بمثلها في الجفوة والتجميد وزرع اليأس في نفس رفيقه.
لكن مهدي كان يحمل في نفسه إعجاباً بريادة حسني تظهرها آثاره، وإن أنكرها. بل لعله عاش كمن يريد إثبات نفسه وجدارته لدى حسني دون غيره. لما ترك حسني سلك الشرطة، استقل وأسس مدرسة الأيتام في المدينة المنورة، فاقتفى مهدي أثره وأسس مدارس الأيتام والفقراء ودور العجزة في مكة. لكن مهدي استطاع عبر نفوذه ووجاهته أن يسحب بساط التوهج إلى مؤسساته، وإلى اقتناص المساعدات الملكية، وجلب التبرعات من أثرياء ومحسني الحجاج والزائرين حتى وصلت في سنة التأسيس إلى أربعمئة جنيه ذهب إنجليزي وغيرها من التبرعات العينية. وقد بنى مهدي للدار مبنى فاخراً في حي جياد، قام لاحقاً بتوسعته، وضرب فيه الشهادات للطلاب من الأيتام، وألحقهم بدراسات أكاديمية وصناعية، وجعل موارد الشرطة في خدمة الأيتام.
ثم لما ذهبت بعثة علمية وطنية محدودة إلى أمريكية بيروت، بعث مهدي، بابنه محمد في عداد تلك البعثة لربما تعويضاً عن الأحلام التي افتقر إليها وشكلّت عقدته.
إن الوجه القاسي الذي أظهره مهدي بك كان يخفي وراءه مجموعة من المخاوف والأوهام التي تكشف عن إنسانية الفرد ومواطن الضعف فيه.
فهو كان يخشى ركوب الخيل، ويخاف منه، ويحاول ما استطاع إخفاء ذلك. وقد روى عزيز ضياء أنه في لحظة انتقام بريئة منه، أراد هو وزملاؤه إحراجه أمام حشد رسمي، بإعطائه أكثر الجياد شراسة في الترويض، لمراقبة توتر مديرهم الصلب عن بعد كمادة للتندر.
ومهدي تزوج من فتاة تصغره بسنوات طويلة، هي ابنة الشيخ يوسف بصراوي، بل إنه كان يكبر أبيها في السن -وبحسب رواية عزيز ضياء، فقد كانت فتاة جميلة فاتنة، في سن اليفع والتفتح للحياة، وهي زيجة قوبلت باستنكار من قبل المثقفين- ولعله في ذلك يغطي بعض جوانب النقص في تركيبته.
وكان لمهدي عادة سنوية لا يتنازل عنها في قضاء سحابة صيفه الطويل في العراق أو لبنان أو إسطنبول، هرباً من خشونة الحياة الدائمة في الحجاز، رغم أنه سكن داراً فاخرة في حي جياد النموذجي.

ميراثه
أياً كانت الدوافع النفسية لدى مهدي بك في تأسيس مدارس العجزة والأيتام، فقد أنبت مؤسسة خيرية رائدة حملت رؤية اجتماعية متقدمة في وأد الجريمة في مهدها والتخلص من أسبابها. وكان مهدي يحارب الشحاذة بقطع دابر القادمين منهم إلى الحجاز من الخارج، وتوفير وسائل الحياة للذين هم من الحجاز خصوصاً لدى النابتة الصغار.
وعلى قسوته، فقد كان شديد العطف على رجاله، ومن ذلك عدم التأخر عليهم في أي طلبات للترقية أو تحسين للأحوال أو طلب الإجازات، فهو يسلفهم بسخاء الجنيه على الراتب وهو مبلغ باهظ، يريد أن يقيهم من حبائل الرشوة. خرّج مهدي أجيالاً من الضباط في مؤسسة الأمن العام. ابتداء من خليفتيه في إدارة الأمن العام اللواء علي بك جميل، والسيّد طلعت وفا، مروراً بأسماء قيادية أخرى مثل صالح باخطمة، وفايز العوفي، وخليل هجّانة، وأحمد يغمور، وحمزة نائل، وطه خصيفان، وعبدالعزيز الزهير، ويوسف جمال، ومحسن عنقاوي، الذي كان من أول فوج تخرج في دار الأيتام بمكة، وفي العمل المؤسسي عمر رفيع، وعبدالله خوجة، وعبدالقادر أبوالخير الذي رافق مهدي بك محاسباً لدار الأيتام.
واستوعب مهدي باكراً، الشباب المتأدب، في مفاصل جهازه. فكان عبدالسلام الساسي مدير مكتبه، ومحسن أفندي حواري سكرتير الجهاز، واستقطب عزيز ضياء من المدينة وعيّنه ضابطاً. ومن ثم استوعب محمد حسن عواد، حيث دعاه من بعد صدور براءته في أزمة فتنة ابن رفادة وخروجه من سجن المصمك، وعيّنه كاتباً في الشرطة، ثم ضابطاً، ثم محققاً، ثم معاوناً لرئيس القسم العدلي، وقد مكث فيه إلى تقاعد مهدي بك من الأمن العام في أواخر 1946.
ومن قصص انحيازه للشباب المتأدب موقفه من صالح الجهيمان، طالب المعهد حينها، الذي أزلقه حماس الشباب حينها في خطاب غير لائق وجهه للملك، انتقد فيه مدير المعارف حينها الشيخ محمد المانع، فأخرجه مهدي بك من ورطته بكتابة خطابيّ اعتذار.
أدخل مهدي بك الحداثة في مؤسسة الشرطة، وجعل لها قوانين وأنظمة، علّمت كل فرد من سكان البلاد حقوقها وواجباتها وعلاقتها العملية مع الشرطة على عكس رجال الجندرمة الذين كانوا من آلات التعذيب في العهود البائدة. وأسس مدرسة الشرطة، وجعل على إدارتها معاونه علي جميل، واستلم أقلام -أو أجهزة- الإطفاء والمرور والجوازات وتفتيش الرقيق على فترات وأدخل فيها تطورات ملموسة في الآلة والأنظمة. فهو من أدخل نظام العلامات الفارقة في الشرطة، ووحّد لون الخاكي في أزيائهم، وأدخل إليهم الصافرة، وجعل للسيارات الخصوصية نِمر، وللسائقين سجلات تحمل صورهم الفوتوغرافية، وهو أول من وضع المصابيح الحمراء على مراكز ومخافر الشرطة في مكة ليستدل بها الحجاج ووفود بيت الله الحرام للإخبار عن ضائع أو فقدان شيء أو شكوى من إخلال أو تهديد.
وقد أسس مهدي بك منهج تدريس السجناء لتقويمهم وتأهليهم. كما دعم أول بعثة عسكرية لتعلم الطيران الحربي المتجهة إلى إيطاليا في 1934م.
وكان مهدي بك قد استحصل على إذن من جلالة الملك على تأسيس دار لليتيمات في مكة في 1943.
ولمهدي أدوار ريادية أخرى منه اشتراكه مع أعيان البلاد في الرفع إلى جلالة الملك باقتراح تغيير اسم البلاد بعد توحيدها إلى المملكة العربية السعودية، وفي انتدابه لتولي إمارة الطائف في 1934 علاوة على إدارته للشرطة، وفي تأسيسه للشرطة في مقاطعة الأحساء، ناهيك عن مراكز رابغ وضباء والظهران.
أنعم جلالة الملك عبدالعزيز، عليه بلقب المصلح، جزاء إخلاصه، وتقديراً له على مسيرته الناصعة في العمل العام.
أصيب مهدي بك بالفالج وهو الشلل النصفي إثر جلطة داهمته هي نتيجة حتمية لاقتباسه أسلوب الإدارة المركزي والإسراف في العمل. رحل لأوروبا للتداوي ومراجعة الأطباء، وقد أعفاه جلالة الملك من أعماله، مع إبقائه شرفياً تقديراً لمكانته التأسيسية.
في حفل شاي أقيم لتوديعه في حديقة أوتيل مصر بمكة، في أواخر 1946، هتف أحد الشعراء بخطاب فياض قائلاً: نودع طلعتكم هاتفين.. ونهتف في أمل آسفين
رجلٌ إذا افتخر العراق به فقد.. أصغى الحجاز بمنجدٍ وبمُتهَمِ.
في ذلك الحفل، أخذ مهدي بك الكلمة وقال: (لقد دخلت مؤسسة الشرطة بشعر أسود، وخرجت منها بشعر أبيض). صورة فاقعة بصرياً لسيرة درامية.

ذو صلة