السيّد ولي الدين أسعد
السيّد ولي الدين أسعد.. ريادة البعثات التعليمية
محمد بن عبدالله السيف :الرياض
البعثة السعودية الأولى إلى القاهرة 1928 ويظهر ولي الدين أسعد الأول من اليمين جالساً
إن من يقرأ ويبحث في سيَر عدد من الرواد، في الإدارة والوزارة والسفارة، وفي الأدب والتربية والتعليم ممن تلقوا تعليمهم في دولة مصر من منتصف الثلاثينات وإلى مطلع الخمسينات من القرن الميلادي المنصرم، سيجد أنهم يدينون بكثير من الفضل والعرفان لأبٍ راعٍ ومربٍ فاضل، أشرف على تعليمهم وتابع تحصيلهم، وشجعهم وشد من أزرهم. وكان رائداً في مجاله فهو من المبتعثين الأوائل إلى القاهرة ضمن أول دفعة تعليمية في عام 1928م، وهو مدير البعثات تالياً ومعتمد لمديرية المعارف السعودية في مصر، تعليمياً وثقافياً، وبذلك فهو بحق رائد الابتعاث والملاحق التعليمية والثقافية.
مشاركاً مع الشيخ محمد بن مانع (1950م)
نشأته وتعليمه
هذا المربي القدير والإداري المحنك هو السيد ولي الدين بن علي أسعد، الذي ولد في المدينة المنورة عام 1903م، في حي الساحة على مقربة من المسجد النبوي الشريف. وهو سليل أُسرة علمية مارست التعليم والإفتاء والإمامة، ويبرز فيها جده السيد أحمد أسعد، المولود عام 1829م، الذي كان رئيس الأئمة والخطباء في المسجد النبوي، وأحد الوجوه الاجتماعية الفاعلة في مجتمع المدينة المنورة في تلك الفترة.
درس ولي الدين أسعد، كما بقية جيله، في كتاتيب المدينة المنورة وفي حلقات مسجدها الشريف، ثم التحق بالمدرسة الرشدية، وكانت دراسته على يد عدد من العلماء المبُرزين، من أشهرهم: محمد الطيب الأنصاري، وماجد بري، ومحمد العُمري، وماجد عشقي، وغيرهم ممن كانت المدينة المنورة تفاخر بهم في تلك الفترة المضطربة من تاريخها الحديث.
وحينما قررت مديرية المعارف العامة في مكة المكرمة إرسال أول بعثة تعليمية إلى مصر كان ولي الدين أسعد في طليعتها مع عدد من زملائه بلغ عددهم 14 طالباً توزعوا في كليات القاهرة على تخصصات مختلفة، في التربية والعلوم الشرعية والزراعة والطب وغيرها.
تخرج ولي الدين أسعد في كلية دار العلوم مطلع الثلاثينات الميلادية وكان ثالث ثلاثة واصلوا تعليمهم ولم يعودوا إلى بلادهم، حينما تم إلغاء البعثة بسبب الظروف المالية الصعبة التي مرت بها كثير من البلاد آنذاك. واصل تعليمه حتى تخرج، وكان معه: محمد شطا، وأحمد العربي.
وأثناء دراسته في المدينة المنورة ثم في القاهرة، كان شعلةً من النشاط والحيوية، عاشقاً للأدب والثقافة، مولعاً بالقراءة الحرة، وقد ساهم مع عدد من زملائه السعوديين في تأسيس (ندوة الأدب العربي) وهي ندوة وجدت التشجيع من عدد من الأدباء والشعراء المصريين من أمثال أحمد شوقي وأحمد زكي باشا وغيرهما، وكان حريصاً على زيارة الشعراء والأدباء المصريين لتعريفهم بما هي عليه بلاده السعودية من حركة ثقافية وأدبية وصحافية. كما اشترك في تأسيس جمعية (الهداية الإسلامية) مع عدد من زملائه وكانت هذه الجمعية برئاسة العلامة محمد الخضر حسين، شيخ الأزهر الشريف.
ولاشك أن للأحداث التي شهدتها المدينة المنورة في طفولته وفي ريعان شبابه، والتحولات التي كان يمر بها العالم العربي، ودراسته في القاهرة، كان لها جميعاً دور كبير في تشكيل شخصيته وتكوين وعيه الثقافي والفكري، مما انعكس تالياً على حماسته الوطنية وتفانيه في خدمة بلاده وطلبتها المبتعثين في أول ملحقية تعليمية وثقافية في تاريخ التعليم والثقافة في المملكة.
أحد فصول مدارس منيل الروضة
مراقباً للبعثات
في عام 1936م، أُسندت مديرية المعارف العامة في مكة المكرمة إلى السيد طاهر الدباغ، والذي تعد فترته في إدارة المديرية هي الفترة الذهبية في تاريخها، من حيث نشر التعليم على أوسع رقعة، واستئناف البعثات التعليمية وتنظيمها. وحينما أراد السيد الدباغ إيفاد البعثة السعودية الثانية في عام 1355هـ لم يتوان بإسناد مهمة الإشراف على هذه البعثة إلى السيد ولي الدين أسعد، الذي كان يعمل في المديرية مفتشاً تعليمياً، عرفه الدباغ من خلالها وعرف صدقه وإخلاصه وأمانته، فغادر إلى القاهرة مراقبا عاماً للبعثات السعودية.
وطيلة عقدين من الزمن، عمل ولي الدين أسعد بكل جدارة واهتمام وبكل ما أوتي من عزيمة على خدمة أبناء وطنه المبتعثين وعلى خدمة المديرية العامة للمعارف. رعى البعثات في أولها وأشرف على نمائها واستمراها حتى آتت أُكلها واستوت على سوقها.
الجهود التربوية والتعليمية التي بذلها ولي الدين أسعد في القاهرة لم تكن غائبة عن أعين المسؤولين في المملكة، فقد كانت جهوداً مقدرة، توّجت بثقة كبيرة حينما عُهد إليه منصب معتمد المعارف السعودية بالقاهرة ثم معتمد الثقافة، وكُلف بتمثيل المديرية لدى الجامعة العربية في مؤتمراتها التعليمية والثقافية في القاهرة وبغداد ودمشق الشام. وفي عهده تم افتتاح ملحقية تعليمية في الإسكندرية، مع تزايد أعداد الطلبة السعوديين، وأُسندت إلى الأستاذ صادق الكردي.
في كتابها (تاريخ باق وأثر ممتد)، تقول ابنته الدكتورة ثريا ولي الدين أسعد: كان والدي ينشط بأداء الملحق التعليمي في وقت مبكر، فيقوم باختيار المدرسين المنتدبين للتدريس في المملكة، ويسعى إلى تلبية مطالب مدارس المملكة من كتب وأدوات علمية، كما تولى تمثيل مديرية المعارف في اللجنة الثقافية بالجامعة العربية مع الأستاذين خيرالدين الزركلي وعبدالرحمن البسام، حيث أسهم في إصدار التوصيات والقرارات الخاصة ببرامج التعليم في الدول العربية. كما مثل المعارف في المؤتمرات العلمية التي عُقدت في سوريا والعراق ومصر، وشارك في مؤتمر وزراء المعارف الذي عُقد في القاهرة عام 1370هـ (1951م)، مع مدير المعارف العام، الشيخ محمد بن مانع والأستاذ عبدالله عبدالجبار. كما أنه من أوائل من ساهم في وضع الأنظمة واللوائح للبعثات.
ويذكر الدكتور حسن نصيف في كتابه (مذكرات طالب) وهو يتحدث عن نشاط طلاب البعثات آنذاك وتشكيلهم للجان اجتماعية وثقافية وأدبية أن السيد ولي الدين أسعد كان مُشجعاً وداعماً لتأسيس مثل هذه الجمعيات واللجان الطلابية، التي تقوم بأنشطة داخل دار البعثة وخارجها من رحلات وحفلات أدبية وثقافية.
الطلاب مع معلمتهم
مبتعثون أشرف عليهم
وقبل أن أختم حديثي عن الدور الذي قام به السيد ولي الدين أسعد في القاهرة أود أن أُذكر القراء ببعض من الطلبة السعوديين الذين أشرف على بعثتهم وتابع تحصيلهم حتى عادوا إلى بلادهم مكللين بالزهو والفخار، لينخرطوا في مؤسسات الدولة ويحققوا نجاحات مبهرة، كل في تخصصه، فمنهم الوزراء والسفراء والأطباء والأدباء والمربون والصحافيون. منهم (عبدالله الطريقي، وحسن نصيف، وعبدالله الدباغ، وعبدالله الملحوق، وعبدالله عريف، وعبدالله عبدالجبار، وإبراهيم السويل، وأحمد عبدالغفور عطار، وحمد الجاسر، ومحسن باروم، وعبدالعزيز الخويطر، وحامد دمنهوري، ومحمد فدا، وعبدالله الخيال، وعبدالعزيز المعمر، وأحمد صلاح جمجوم، وحامد هرساني، وفؤاد الخطيب)، وغيرهم في قائمة تطول لأسماء ذهبية لمعت في تاريخ الوطن، وكانت رموزا ملهمة لأجيال وأجيال تلتها. ولم يغادر السيد ولي الدين أسعد منصبه حتى أشرف على تخريج جيل آخر من الرموز الوطنية، الذين تخرجوا مع التحول الذي حدث في مصر عام 1952م ومنهم: ناصر المنقور، وعبدالوهاب عبدالواسع، وأحمد زكي يماني، وإبراهيم العنقري، وعبدالرحمن أبا الخيل، وعبدالرحمن المنصور، وحسن المشاري، ومحمد الفريح، وآخرون لا يتسع المجال لسرد أسمائهم، لكن اتسع لهم صدر المربي الكبير ولي الدين أسعد.
الأول من اليمين في بغداد في بأحد المؤتمرات الثقافية
مدارس منيل الروضة
ما إن تولى الملك سعود بن عبدالعزيز مقاليد الحكم حتى سارع إلى تأسيس عدد من الوزارات والدواوين والهيئات الإدارية، وفي مقدمتها وزارة المعارف، التي أسند مهمتها إلى الأمير فهد بن عبدالعزيز (الملك لاحقاً)، وبادرت الوزارة إلى طلب الاستعانة بقدرات وخبرات الأستاذ ولي الدين أسعد كي يتولى منصباً رفيعاً في الوزارة الوليدة، إلا أنه رأى عدم الاستمرار في العمل ، مؤثراً البقاء إلى جانب بناته وأبنائه الذين كانوا يتلقون تعليمهم في القاهرة، لاسيما وأنه لا توجد مدارس لتعليم البنات في المملكة حينذاك. وإضافة إلى رغبته لتنفيذ فكرة تعليمية رائدة كانت تعتمل في ذهنه ويرغب في تحقيقها واقعاً في مدينة القاهرة.
هذه الفكرة تتمحور حول تأسيس وإنشاء مدارس تلبي رغبات وحاجات أبناء وبنات المملكة في مصر ، فكان أن أنشأ وابن عمه الأستاذ علي بن عبدالمحسن أسعد مدارس منيل الروضة الخاصة في عام 1952م، تضمنت قسماً داخلياً بمراحلها الأربعة: الحضانة والابتدائي والمتوسط والثانوي، وتولى الإشراف الصحي في المدارس الدكتور عمر أسعد، إضافة إلى نخبة مميزة من المعلمين والمعلمات.
تقول الدكتورة ثريا ولي الدين أسعد:(كان الهدف من تأسيسها هو إيجاد مدرسة تربوية تعليمية، تُعنى بالآداب الإسلامية والمحافظة على الأخلاق الفاضلة، واحتضان أبناء الوطن من الأُسر السعودية في مصر، التي نزحت إليها وتوافدت عليها في الخمسينات، إما لظروف العمل أو لتعليم أبنائهم). ويقول المهندس عبدالوهاب بن محمد المرشد الزغيبي، الذي درس في هذه المدارس: (لم تكن المدرسة عملاً تجارياً، بل كان هدفها تربوياً).
وأنا أقرأ في كتاب الدكتورة ثريا ولي الدين أسعد عن هذه المدارس، التي أنشأها والدها في القاهرة، تذكرت (الكلية السعودية في بيروت) بأقسامها: الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وسكنها الداخلي، والتي أنشأها الأستاذ الرائد عبدالله الملحوق في الفترة نفسها التي أنشأ فيها السيد ولي الدين أسعد مدارسه في القاهرة، وعجبتُ لأمر هذين الرجلين الفاضلين اللذين سبقا في هذه الفكرة، حرصاً منهما على تعليم الأبناء والبنات السعوديين في الخارج، بما يعزز لديهم حب الوطن والانتماء ويجعلهم أسرة واحدة، وفق منهج ورسالة وطنية سعودية.
هذه المدارس وصفها الأديب حمزة شحاته بأنها (بيت من بيوت الوطن)، وأنها حلم من أحلام ولي الدين أسعد وعزيمة من عزائمه، وأن السيد ولي الدين كثيراً ما باح بحلمه إلى الأديب الكبير متطلعاً إلى تحقيق هذه الفكرة وهذا الحلم، الذي كان.
تقول الدكتورة البتول طاهر الدباغ، التي درست في تلك المدارس.. ( كنا نعيش في مصر مجتمعاً مختلفاً، لكن عندما نذهب للمدرسة نشعر أننا انتقلنا إلى مجتمعنا السعودي الصغير، فلا نشعر بالغربة).
لقد أولى المربي ولي الدين أسعد تعليم الفتاة جلّ اهتمامه، وجعله ركيزة من ركائز تفكيره، ليس تعليم بناته فحسب، بل تعليم بنات الوطن بكل ما يملك من قدرة وإمكانات، وليس أدل على ذلك من تقاعده المبكر ، وبقاؤه في مصر لتعليم بناته وبنات وطنه المقيمات في مصر، وذلك قبل تأسيس الرئاسة العامة لتعليم البنات. وحينما صدرت الموافقة الملكية على تعليم البنات بالمملكة، أرسل خطاباً إلى الملك سعود يلتمس فيه تقديم المساعدة للطالبات السعوديات اللواتي يدرسن في الخارج ومعاملتهن مثل الطلاب في الابتعاث والمكافآت وغير ذلك، وقد أرسل خطاباً إلى الوزراء الأربعة: أحمد شطا، وحسن نصيف، وعبدالله الدباغ، وناصر المنقور، يُحيطهم علماً بخطابه المرفوع إلى الملك وأنه سلمه إلى السفير محمد المرشد الزغيبي، الذي رفعه إلى الديوان الملكي، مشفوعاً بتوصية من السفير القدير، مستحثاً في خطابه هؤلاء الوزراء الأربعة على الاهتمام بالموضوع وتأييد المقترح، مقدماً شكره لهم.
لقد أثنى على هذه المدارس كل من زارها وتجول في أركانها، ومن أولئك السفير السعودي محمد المرشد الزغيبي، والدكتور حسن نصيف، والأديب حمزة شحاته، والأديب عبدالله عبدالجبار، والشيخ محمد بن مانع، وآخرون.
لقد درس في هذه المدارس وتخرج فيها كوكبة من أبناء وبنات الوطن، ممن واصلوا تعليمهم ثم عادوا إلى بلدهم يسهمون في خدمته ورقيّه في مجالات مختلفة، ولايزال بعضهم في أعمالهم إلى اليوم مواصلين المسيرة، مستذكرين الدور الرائد للمربي الكبير ولي الدين أسعد. فممن تخرج فيها أبناء وبنات صاحبها، وبنات الأديب حمزة شحاته، وأبناء الأديب محمد حسين زيدان، وبعض من آل جمجوم، وآل الدباغ، وآل محمد عمر توفيق، وآل برزنجي، وآل شطا وآل الياس، وآل عناني، ومحمد عبدالعزيز المعمر، ويزيد الدغيثر، وطلعت لامي، وفيصل حسن كتبي، وعبدالوهاب الزغيبي، ووديع كابلي، ورضا لاري، والمئات ممن يجب أن يستنطقوا ويستكتبوا ليوثقوا ذكرياتهم عن تلك المدارس الرائدة، وعن دور مؤسسها، تربوياً وتعليمياً، فينصفوه.
لقد ظل الأستاذ طلعت لامي، رجل الأعمال المعروف، وفيّاً لهذه المداراس، فهو يزورها في كل مرةٍ يزور فيها القاهرة ويتجول بين فصولها، ويذكّر معلميها بدور مؤسسها وذكرياته فيها.
هذه المدارس لاتزال قائمة إلى اليوم، وقد انتقلت ملكيتها إلى أحد رجال التربية والتعليم من أبناء مصر، وقد أوصاه مؤسسها، عند البيع، بأن يُعطي الطلبة السعوديين أولوية في القبول، فما كانت التجارة وكسب المال سبباً مباشراً في تشييدها، بل كانت الوطنية المخلصة عند مؤسسها هي الدافع الأول والسبب المباشر.
رحم الله السيد ولي الدين أسعد، الذي وافته المنية عام 1970م بعد رحلة ثرة ومثيرة في عالم التربية والتعليم.
غرفة الطعام في القسم الداخلي
طالبات المدارس على مسرح دار الأوبرا
الوزير حسن نصيف في زيارة للمدارس
من طلاب وطالبات المدرسة في حصة رياضية
من كشافة المدارس
الصور المنشورة نقلاً عن كتاب (تاريخ ممتد وأثر باق) للدكتورة ثريا ولي الدين أسعد.