عبدالكريم الجهيمان
عبدالكريم الجهيمان
قرن من الإبداع
محمد باوزير: جدة
حين تدقق النظر في تجربة الرائد الشيخ عبدالكريم بن عبدالعزيز الجهيمان الأدبية (1333 - 1433هـ) تجدها لا تحيد عن أربعة مسارات البتة، خطها لنفسه وارتضاها لقلمه ومضى يبدع فيها بكل تفان واقتدار، فلا يبصر سوى الحق، ولا ينشد غير العدل، ولا يطلب إلا الخير، وأول هذه المسارات: الكتابة للطفل، وثانيها: الكتابة في الصحافة، وثالثها: تدوين الأدب الشعبي، وآخرها: رصد ذكرياته، ولم يتعاط مساراً من هذه المسارات إلا وجاء فيه مبرزاً كل هذه المناحي؛ نافح وكافح وجاهد واستبسل فجاءت تجربته الطويلة في الثقافة ونشر الوعي في المجتمع ممهورة بالدقة والتميز في جل ما تناوله.
في نجد - قلب الجزيرة العربية - وتحديداً في إحدى قرى إقليم الوشم وتدعى (غسلة) استقبل الشيخ عبدالعزيز الجهيمان الذي كان يمتهن الفلاحة في قريته وليده الجديد الذي أطلق عليه اسم عبدالكريم.
عاش الطفل عبدالكريم كبقية لداته في تلك الفترة في كنف والده يحنو عليه ويعطف، والطفل في صباحه ومسائه يلهو مع أطفال قريته بين الحقول، وحين أكمل عامه السادس ألحقه والده بكتاب القرية الذي كان شيخه إمام المسجد، فيحمل لوحه وبعض قصباته للكتابة، وفي هذه الظروف الصعبة وتلك الإمكانات البسيطة استطاع أن يتعلم القراءة والكتابة ويختم القرآن الكريم مع حفظ بعض سوره وهذا ما كان متيسراً له في القرية، لكن إرادة الله شاءت أن يسافر والده إلى الرياض لطلب الرزق فصحب معه ابنه عبدالكريم وهو فتى في مطلع عقده الثاني، وكان من حسن حظه أن وجد في حلقات الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وأخيه الشيخ عبداللطيف التي كانت تعقد بالرياض ما يصبو إليه من علوم الدين كالفرائض والفقه والتوحيد وعلوم العربية.
وفي ظني أن هذه المرحلة التي عاشها في الرياض قد صادفت في نفسه حباً للاستزادة من العلم والمعرفة ففكر للسفر صوب مكة المكرمة عام (1347) التي كانت ومازالت محجاً للعلم ومقصداً للعلماء، فلحق بركب الحج النجدي يرافقه ابن عمه، وحين وصلا وأديا فريضة الحج انضم ابن عمه موظفاً في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بينما الشاب عبدالكريم انخرط جندياً في الهجانة وأخذ يتردد على حلقات العلم بالحرم المكي، وبعد مضي عام افتتح المعهد العلمي السعودي فالتحق به طالباً يغترف من علوم أساتذته ومزاملاً لثلة من رواد الأدب والعلم منهم: حمد الجاسر، وعبدالله عبدالغني خياط، وأحمد علي أسدالله، وعبدالرحمن آل الشيخ، وغيرهم حتى نال فيه شهادته عام (1351).
أحس الشاب عبدالكريم أنه قد بلغ درجة من العلم والمعرفة تؤهله ليكون أحد المعلمين في مدرسة المعلاة ليمضي بين فصولها عاماً كاملاً ثم ينتقل لمدرسة الفيصلية ليتعرف على عدد من زملائه كان منهم الناقد عبدالله عبدالجبار والمؤرخ عمر عبدالجبار، وفي هذه المدرسة أيضاً كان من تلامذته الشعراء الأمير عبدالله الفيصل وسراج خراز وعلي غسال.
أبدى المعلم عبدالكريم الجهيمان تميزاً وإخلاصاً في مهنته ما جعله يرشح لتأسيس مدرسة في مدينة الخرج ويكون مديراً لها، فعلى صيته وبرزت مواهبه في الإدارة فاختاره ولي العهد (الملك سعود فيما بعد) ليتولى إدارة مدرسة الأنجال ومنها ينتقل إلى مدرسة أنجال الأمير عبدالله بن عبدالرحمن ويمضي بها خمس سنوات.
طيلت هذه الأعوام كان الشاب عبدالكريم يمارس القراءة ويتلمس طريقه في نشر ما يبثه قلمه عبر صحف تلك المرحلة، فصوت الحجاز وأم القرى شهدتا جمهرة من مقالاته فبرز كاتباً مرموقاً بين أقرانه ناهيك أنه شرع في فتح مكتبة تجارية في الرياض يبيع من خلالها ما يجلبه من مصر ولبنان من أحدث الإصدارات الأدبية والثقافية إضافة إلى صحف ومجلات تلك المرحلة، وهو بذلك يمارس دوره في نشر الوعي بين أفراد مجتمعه، ثم ارتأى أن يخوض غمار الصحافة ليرحل للمنطقة الشرقية ويستقر في الظهران مديراً لشركة الخط العربي للطبع والنشر والترجمة التي أنشأها الأستاذ عبدالله الملحوق، وعمل مديراً لتحرير جريدة (أخبار الظهران) التي كان يرأسها الأستاذ عبدالله الملحوق عام (1374) لتصدر مرتين في الشهر.
فانصرف الجهيمان حينها يصرف جل وقته معها لتكون صوتاً لأبناء المنطقة تتبارز فيها الأقلام وتتباين فيها الآراء تارة وتتفق تارة أخرى، كما تبنت كثيراً من أصوات الشبيبة هناك واحتضنت أفكارهم، فكانت مسرحاً لمقالاتهم، ودوحة لأشعارهم، ومنتدى لأفكارهم، إضافة لكونه يعرف قيمة النقد ويرعى حرمة الرأي إلى أن توقفت بعد عامين من صدورها.
لم تقف مشاركات الجهيمان الكتابية عند تلك الصحيفة بل كان من أوائل من كتبوا في الصحف النجدية مثل: اليمامة وأخبار القصيم والجزيرة، إضافة إلى تأسيسه مجلة وزارة المالية، لذلك اتسعت دائرة مشاركاته بين مقالة تحمل فكرة جديدة، ورأي يصدع به، وقصيدة يتغنى بها، وأثمرت هذه التجربة من الكتابة هذه الكتب: (دخان ولهب) و(أحاديث وأحداث) و(أين الطريق) و(آراء فرد من الشعب) حَوت مقالات في النقد الاجتماعي والتحليل السياسي وخطرات في الفكر وآراء تحفها الجرأة والصراحة، فدار اسمه ولمع صيته، كما جاءت هذه المقالات بأسلوب سهل ولغة لا تدنو إلى الضعف ولا ترقى إلى البيان الرفيع، مع اهتمام بالغ في معالجة ما يطرح من آراء.
ولسنا ببعيد عما خطه قلم الجهيمان منتصف الستينات الهجرية حين عمد لتأليف كتب مدرسية للأطفال في التوحيد والفقه والتهذيب والمحفوظات، حيث إن الطفل عماد المستقبل، فضاعف اهتمامه به وأخذ يروي له القصص ويسرد له الحكايات ذات المغزى الشريف والهدف النبيل، وراح يكتب سلسلة (مكتبة الطفل في الجزيرة العربية)، بل ارتأى أن يغدق على جيل الغد كثيراً من القصص، فانصرف يكتب سلسلة أخرى عرفت بـ(مكتبة أشبال العرب)، وهو بهاتين السلسلتين وبما ألفه في المناهج التعليمية يؤكد أهمية بناء الجيل الجديد والحرص على غرس قيمة المعرفة التي لا يمكن اكتسابها إلا عن طريق القراءة فقط.
زان لأبي سهيل - كنية الجهيمان - أن يزيد من دوره التوعوي في مجتمعه ويلج نحو عالم التراث الشعبي أو ما يعرف بالأدب الشفهي الذي كان يمثل طفرة كبيرة في معظم طبقات المجتمع آنذاك، فأراد أن يخوض تجربة جديدة بتوثيقه الموروث الشعبي الشفهي في نجد فعمد إلى تدوين الأمثال الشعبية في قلب الجزيرة العربية من أفواه الناس لاسيما أصحاب الأعمار الكبيرة والذاكرة الحية وهو لعمري من أشق أنواع التأليف فجال قرى نجد وأقاليمها يدون الأمثال ويفسر مضامينها ويشرح ما غمض من كلماتها ويقارن ما يماثله أو يتشابه معه من الأمثال العربية القديمة، حتى ناف عددها عن (9000) مثال وأخرجها في كتاب عام (1383) جاءت في عشرة أجزاء رافد بها المكتبة العربية، وفي ظني أن النجاح الذي لاقته هذه الموسوعة الشعبية أغراه أن يواصل التأليف في هذا الميدان فانبرى يجمع الأساطير الشعبية من قلب جزيرة العرب، وذلك أمر لا يقل صعوبة عن تدوين الأمثال، فخاض صعوبتها وراح يلتقط من أفواه المعمرين وما ذكر في بطون كتب تاريخ المنطقة ليجمع شواهد هذه الأساطير للأجيال القادمة ويلقي الضوء على لون من ألوان الثقافة التي كانت سائدة ويمارسها المجتمع في الماضي، كما يكشف ملامح من حياتهم وطرائق تفكيرهم، ثم دفع بها نحو النشر لتصدر في خمسة أجزاء عام 1387هـ ضامة بين صفحاتها قرابة 140 أسطورة، وقد حالف جل مؤلفات الأديب الجهيمان الرواج والذيوع وتعددت طبعاتها، بل إن كتاب (الأساطير) قد تمت ترجمته إلى اللغة الروسية قبل سنوات.
وبعد هذه التجربة الثرية الحافلة بالإبداع والتنوع الثقافي، ناهيك أن الله قد حباه بسطة في العمر، الأمر الذي دفعه ليدون أيامه ولياليه ورحلاته لتكون زاداً للقارئ ومفتاحاً للدارس، يطلع من خلالها على أعماقه الخاصة ودواخله التي ربما لم تظهر فيما أخرجه من مؤلفات، لذا اتجه صوب الكتابة للسيرة والرحلات فأخرج غير كتاب وهي: (ذكريات باريس)، وذهب فيه لتسجيل هذه الرحلة التي كانت عام 1371هـ منذ مغادرته الرياض مروراً ببيروت ثم القاهرة ومنها لنيس ثم يستقر في باريس عاماً كاملاً برفقة تلميذه الأمير يزيد بن عبدالله بن عبدالرحمن، ولطول الرحلة بدى له أن يدونها فأخذ يبدي إعجابه بباريس ويصف طبيعتها الخلابة وقصورها المنيفة ومسارحها الشامخة ومتاحفها العريقة وطرقها الواسعة وعشق أهلها للنظام والعلم واحترامهم للغريب، كذلك من قابل من شخصيات كبيرة وتعلمه قيادة السيارة، وعرج الجهيمان وهو في فرنسا صوب دول أوروبية أخرى ارتحل إليها كبلجيكا وهولندا وإيطاليا وسويسرا، ثم ثنى أبو سهيل بتدوين سيرة رحلته الأخرى وعزم على إخراجها في كتاب سماه (دورة مع الشمس) وهذه الرحلة وقعت أحداثها عام 1392هـ، وجاب فيها أبرز أمهات المدن الأوروبية والأمريكية والآسيوية مثل: لندن وشيكاغو ولوس أنجلوس وهوليود وفرانسسكو وطوكيو وتايبيه وهونج كونج فالبحرين حتى عاد للمملكة، وقد أسهب في وصف هذه الممالك فراح يرسم طبيعتها ويصور ما وصلت إليه من حضارة وتقدم.
لكن ماذا عن حياة أديبنا الجهيمان الأخرى داخل بلاده وبين أهله وصحبه فلابد أن لها وقع خاص لاسيما وأن وظائفه تنوعت وتعددت أماكن إقامته، لذلك أزمع على أن يسطر شيئاً منها فأصدر كتابه (مذكرات وذكريات من حياتي) عام 1415هـ سجل فيه صوراً من حياته بين مرابع صباه ومعاهد هواه القديم إلى أن يرسم حياته الخاصة والعامة عبر الجيل الماضي والجيل الحاضر وما عاشره من طبقات مختلفة في مجتمعه منهم الناجح ومنهم الذي أخفق فيها، كذلك حملت نقداً اجتماعياً يرمي إلى رفع مستوى أفراده، إضافة إلى حيوات مختلفة في مرحلة الطلب والوظيفة والصحافة والسفر والعيش بين جملة من الأماكن كغسلة والرياض ومكة والخرج والظهران وغيرها من المدن، ثم خرج علينا أبو سهيل بتجربة جديدة عام 1418هـ في فكرتها ومضمونها عبر كتابه (رسائل لها تاريخ) الذي ضم أكثر من 90 رسالة مع من عاش معهم أو اختلط بهم اعتزازاً منه بهذه الرسائل وبأصحابها لاسيما أنها تؤرخ لمرحلة من عمره وجزء من حياته، كما أنها ترصد أفكاره على الرغم أنها ليست في مجملها رسائل بل تنهض في بعضها على برقية أو سجال في صحيفة أو دعوة أو اعتذار أو تهنئة أو تعيين، وجملة القول أن الكتاب -في نظري- شاهد على مرحلة مهمة من تاريخ بلادنا.
وللجهيمان سهمه من ديوان العرب وإن لم يغدق لها كثيراً فلم يخرج منها إلا بديوان يتيم وسمه بـ(خفقات قلب) تنوعت أغراضه بين الحنين والوصف والغزل والوطنيات وغير ذلك من الأغراض.
إلا أن هذه التجربة الطويلة ذات الصدى الواسع لابد أن تكون لها مكانتها الرفيعة في منصات التكريم، وهذا ما حدث، فقد كُرِّم الأديب الجهيمان في مهرجان الجنادرية السادس عشر لكونه الشخصية الثقافية المختارة لعام 1421هـ، وكذلك كرمه مركز الأمير سلمان الاجتماعي عام 1419هـ، وكرمه معرض الرياض الدولي للكتاب مرتين، كذلك تم تكريمه من قبل جامعة الملك سعود، ومنتدى اثنينية الخوجة، ومركز بن صالح الثقافي، وخميسية الجاسر الثقافية، وجمعية الثقافة والفنون بالدمام، وغيرها من المؤسسات الثقافية، في حين وقف أمام منتوج الشيخ الجهيمان الثقافي دارساً وقارئاً ومحللاً غير واحد، منهم: المريدون كالأدباء الأساتذة محمد القشعمي وناصر الحميدي ومحمد عبدالله حسين، وتوثقت بينه وبينهم أسباب المودة، ناهيك عن الدراسة العلمية التي قدمتها الروائية بدرية البشر عن إنتاجه في الأدب الشعبي.
لقد عاش الأديب عبدالكريم الجهيمان قرناً من الزمان مؤمناً بأهمية دور الكلمة في نشر الوعي بين أطياف المجتمع، وإلى ضرورة العودة إلى المعرفة عبر منافذ القراءة والقراءة فقط حتى يتسنى لأفراده الخروج نحو آفاق أرحب وفضاءات أوسع.