فوزان السابق.. الوزير المفوّض في مصر
د. عبدالكريم إبراهيم السمك: الرياض
هو فوزان بن سابق بن فوزان بن عثمان البريدي، من الوداعين الدواسر، ولد في مدينة بريدة عام (1275هـ / 1859م)، وفيها نشأ وترعرع في ظل رعاية والده، وكعادة أبناء نجد في مسألة التعليم، فقد ألحقه والده في النظام التعليمي الذي كان يسود نجداً يومها، ذلك هو تعليم الكتاتيب، فالتحق بكتاب الشيخ سليمان بن محمد بن سيف، وحفظ القرآن كاملاً، ثم تعلم على يد ناصر بن سليمان السيف، بعضاً من علوم الحساب والقراءة والخط، وقد أهله ما حققه من أمور التعليم أن يتابع دراسة العلوم الشرعية على يد علماء بلده، ثم انتقل إلى الرياض التي كانت مقصداً في ازدياد طلب العلم، حيث قصدها عام (1302هـ/ 1884م) وفيها تتلمذ على يد الشيخ حمد بن فارس.
وجرياً على عادة أبناء نجد بالاستزادة في طلب العلم خارج موطنهم، قصد البحرين والكويت والبصرة والزبير، وخلال تنقلاته هذه، وجد أنه بحاجة للسفر إلى الهند فقصدها، فوجد عدداً كبيراً من أبناء الرياض وغير الرياض يدرسون فيها، وكان يكثر في الهند الكثير من العلماء الثقة من أصحاب الإجازات والأهلية العلمية العالية، وبخاصة في علوم السنة، وغيرها من علوم الشريعة، فالتحق في حلقات هؤلاء العلماء الفضلاء مع من وجده فيها من أبناء نجد، وقد عاد من الهند يحمل عدداً من الإجازات العلمية بعلم الحديث وعلم الأصول، وبمصنفات ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من علماء السلف، حيث غدا مؤهلاً في علوم الشريعة الإسلامية، فدخل في طبقة العلماء ومن أبناء طبقات الحنابلة.
فوزان السابق وعن يمينه عبدالرحمن شهبندر ويظهر مفتي مصر الثاني على يساره في القاهرة عام 1973م.
نشاطه التجاري
بعد تأهيله العلمي الذي وصل إليه، كانت بريدة الواقعة في وسط نجد في هذه البيئة الصحراوية القاسية والصعبة، على موعد مع الانفتاح على العالم خارج نجد من باب التجارة، حيث كان في جوارهم خارجها كل من الشام والعراق ويلحق بهما مصر، فالشام والعراق رئتا الجزيرة العربية، وذلك في الهجرة لهذين الإقليمين منذ القديم والتجارة معهما، وفي تاريخ عصر الشيخ فوزان، اهتم أبناء بريدة في التجارة مع الشام والعراق ومصر، وقد دخل الشيخ فوزان على خط التجارة هذا، وكما هو معروف عن العقيلات، فقد كان الشيخ واحداً من أبنائها، وقد لمع اسمه فيما بين أبناء قومه، بعد أن اتخذ من دمشق مركزاً له وقاعدة عمل، فدمشق غنية عن التعريف بمكانتها التجارية ونشاطها هذا، وهي بالنسبة لنجد أقرب الحواضر للتجارة معها في الذهاب والإياب، وكذلك اتخذوا منها مركزاً للسفر إلى العراق ومصر.
حظي الشيخ فوزان في دار إقامته في دمشق، بمكانة سامية عند أهلها، كما كان باب داره مفتوحاً لأبناء قومه، وقاعدة صلة وترحال لهم، واكتسب عندهم المكانة والوجاهة، فكان يقضي بينهم أي خلاف، ويقدم لهم الخدمات الرسمية، وذلك لما اتصف به من الارتقاء في علاقاته الرسمية مع أبناء دمشق، وقد شاع خبره هذا بين العقيلات، حتى وجد فيه الملك عبدالعزيز الأهلية كي يكون وكيلاً له فيها، وعرف عنه -يرحمه الله- من خلال وجوده فيها التواصل مع أبنائها الوطنيين الذين ناهضوا سياسة جمال باشا، مثل الشيخ كامل القصاب، وشكري القوتلي، والدكتور عبدالرحمن الشهبندر، ومحمد كرد علي، وكذلك خيرالدين زركلي، فقد وقع هؤلاء تحت ملاحقة جمال باشا، فاستطاع تهريبهم من دمشق لمصر عن طريق إخوانه من العقيلات، كما كان من معارفه الشيخ محمد بهجت البيطار وغيره من علماء دمشق، مثل عبدالقادر المبارك.
واستمر الشيخ فوزان في دمشق مقيماً فيها يمارس التجارة، إضافة لشرف تكليفه من قبل الملك عبدالعزيز في أن يكون وكيلاً له فيها، حتى تم نقله منها إلى مصر.
بعد تسليم جدة في (26 / 6 / 1344هـ / 21 / 12 / 1925م)، كان الشيخ فوزان في القاهرة، قبلة الإعلاميين والصحفيين ليسمعوا منه أخبار الحجاز، وتسارعت الدول الغربية لتقديم اعترافها بالدولة الحجازية النجدية، وكان قد اكتمل عند الملك عبدالعزيز رسم الخارطة الجغرافية لدولته، ومع اعتراف الدول هذا، فقد ذهب الملك عبدالعزيز، بإصدار أمر تكليف للشيخ فوزان رسمياً كوكيل له في مصر، وذلك في العام (1344هـ / 1925م)، وعرفت بوكالة مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، ثم تحولت إلى مفوضية، بعد تحويل اسم المملكة إلى (المملكة العربية السعودية)، بتاريخ (21 جمادى الأولى 1351هـ / 1932م)، وقد رفض الملك فؤاد الاعتراف بالمملكة الحجازية النجدية، وبقنصليتها، وبالمقابل رفض الملك عبدالعزيز الاعتراف بقنصلية مصر في جدة، من باب المعاملة بالمثل، ومع تولي ابنه فاروق الملك، فقد تم الاعتراف بالمملكة وبالقنصلية، وتم التوقيع على معاهدة صداقة في (16 صفر 1355هـ / مايو 1936م)، وتم تعيين الشيخ فوزان السابق قنصلاً عاماً في مصر، بعد تحويل الوكالة إلى مفوضية، بتاريخ (22 جمادى الأولى1355هـ / 10 أغسطس 1936م)، وأصبح لقب الشيخ فوزان (قائم بالأعمال) في المفوضية، وقنصلاً عاماً فيها، وبعد اعتماد وزارة الخارجية المصرية أعمال المفوضية السعودية، تم ترقية الشيخ فوزان إلى وزير مفوض، ومندوب فوق العادة بمصر، بموجب المرسوم الملكي الكريم رقم 2 / 2 / 1 / 5168 وتاريخ 28 محرم 1365هـ / 1 يناير 1936م، وقد كان خير مساعد للشيخ في عمله هذا، خير الدين الزركلي كمستشار لمدة اثني عشر عاماً.
فوزان السابق في مكتبه في القاهرة.
تشارلز كراين
هذا الرجل غني عن التعريف، فهو سفير عصبة الأمم بعد مؤتمر السلام لعام (1919م)، إلى بلاد الشام، حيث كان مناهضاً لسياسة اتفاقية سايكس بيكو لسنة (1916م)، وقضية تهويد فلسطين، وصاحب لجنة الاستفتاء على الانتداب البريطاني والفرنسي على دول المشرق العربي، وكان محباً للعرب، وأراد أن يخدم الملك عبدالعزيز في النهوض بالمملكة من خلال البحث والتنقيب عن النفط والمعادن، وقد التقى الملك عبدالعزيز، وأكرم وفادته الملك، ولما شاهده من أطايب الخيل في الجزيرة العربية وهو محب لها، كان قد طلب من الملك خيلاً يأخذها معه لأمريكا، فقال له اذهب إلى مصر وهناك الشيخ فوزان سيتدبر أمرك، ولما وصل مصر وزار الشيخ فوزان ناقلاً رسالة الملك له، فأرسله إلى الإسطبل ليختار ما يريد، وذلك من باب كرم الشيخ له، في عدم تقديم جواد هو يختاره له، فاختار كراين الجواد (مهلهل) وهو من أفضل جياد الإسطبل، لونه أبيض زاهٍ، وقوامه وأصالته وجماله كان شيئاً لا يوصف، فتقدم كراين بشيك على بياض كي يكتب قيمته، فقال له الشيخ: (هذا هدية مني لك، وأغلق دفتر شيكاتك). وتم نقله له من قبل الشيخ للإسكندرية، واستلمه هناك كراين وتم نقله لأمريكا، فغدا أعجوبة هناك، بعد أن شاع خبره في أمريكا وكتبت عنه الصحف يومها، وقد أرسل كراين رسالة شكر للشيخ فوزان على هديته، وفيها يطلب منه توصيل سلامه للملك عبدالعزيز.
الشيخ فوزان والدعوة السلفية
اكتسى الشيخ فوزان ثوب التمثيل الديبلوماسي لبلاده بتكليف من الملك عبدالعزيز، مع أهليته العلمية في علوم الشريعة والدين، وقد أحسن وصفه خيرالدين الزركلي في ترجمته له بقوله: من علماء وفقهاء الحنابلة، فلم يتخل الشيخ -يرحمه الله- عن نشاطه العلمي في نشره كتب السلف وحضور المنتديات العلمية في مصر، وتفعيل نشاط الدعوة السلفية، من خلال نشر الكتب فيها، وقد كلفه الملك عبدالعزيز بنشر العديد من كتب السلف على نفقته الخاصة، وقد كلف الشيخ فوزان الشيخ محمد رشيد رضا بالإشراف على طباعتها، فتم توزيعها على أهل العلم، وكان الملك تعهد بكلفة طباعتها.
ومن مآثره الكريمة في الخير؛ إهداء مكتبته الكبيرة لمسجد الجامع في بريدة، كما كان له منزل كبير بجوار المسجد، فطلب منه الشيخ عمر بن سليم أن يتبرع في البيت لتوسعة المسجد، فنزل على طلب الشيخ وتبرع فيه، فسجاياه كثيرة، وعطاياه كبيرة ولا يمكن حصرها عنه -يرحمه الله- وأجزل له المثوبة.
طلب إعفائه من العمل
وجد الشيخ فوزان -يرحمه الله- أن حالته الصحية لم تعد قادرة على تحمل أعباء العمل، فطلب من الملك عبدالعزيز -يرحمه الله- أن يعفيه من العمل بعد هذه السنين من العمل في المفوضية السعودية، فعلق الملك الطلب على أن يختار الشيخ فوزان من يكون بكفاءته وأهليته، فرشح له الشيخ عبدالله الفضل، وقبل الملك عبدالعزيز استقالته، وتم تعيين الشيخ عبدالله الفضل مفوضاً في سفارة المملكة في مصر، وعندما هم الشيخ بترك مبنى السفارة حيث كانت له دار سكن ودار عمل، قال له الملك تبقى أنت في بيتك، ونحن الذين نخرج، وفي (8 جمادى الأولى 1366هـ / 30 مارس 1947م)، أصدر الملك عبدالعزيز أمراً بإهداء البيت للشيخ فوزان، فيما كان قرار تقاعد الشيخ فوزان هو يوم (15 محرم 1366هـ / 9 ديسمبر 1946م).
فوزان السابق يتوسط بعض الدبلوماسيين والمسؤولين من السعودية ومصر.
الشيخ فوزان وأمين سعيد
ترك أمين سعيد في موروثه آثاراً كريمة عن الشيخ فوزان -يرحمه الله- وذلك بسبب علاقته بالشيخ فوزان في دمشق قبل مصر، وكان يومها أمين سعيد قد لمع اسمه في شارع الصحافة الدمشقية من خلال جريدتيه (الأردن - أبو نواس العصري)، وكانت السلطات الفرنسية قد لاحقت أمين سعيد، فقصد مصر لحاقاً بصاحبه د.عبدالرحمن الشهبندر، ولما جاء الشيخ فوزان للقاهرة وكيلاً للملك عبدالعزيز، تجددت العلاقات فيما بينهما، وكان الشيخ فوزان بطبيعته اجتماعياً، فكان يحضر جميع المنتديات العلمية من محاضرات وندوات وغير ذلك. وأمين سعيد وأبناء الشام المقيمون في مصر، كانوا رواد هذه المنتديات، فيلتقون بالشيخ فوزان، ففي أرشيف الصور عند أمين سعيد، وجدت له الكثير من الصور، لاسيما وأن أمين سعيد كان كصحفي يغطي أخبار المملكة العربية السعودية في صحافته التي تخصه، وبخاصة مجلة الشرق الأدنى، ومجلة الرابطة العربية. اللتان أصدرهما في القاهرة، وبسبب ولاء ووفاء أمين سعيد للملك عبدالعزيز ودولته في صحافته، فقد زاد هذا الأمر التقارب بين أمين سعيد والشيخ فوزان.
وفاته
لقي الشيخ فوزان وجه ربه في 4 جمادى الأولى 1373 / 9 يناير 1954م، في القاهرة، وفيها دفن -يرحمه الله- وقد غسله وكفنه وصلى عليه الشيخ حامد الفقي، وقد مات عن عُمر بلغ ثمان وتسعين سنة.