عبدالعزيز المنقور.. ريادة الابتعاث في أمريكا
محمد بن عبدالله السيف: الرياض
في بيروت الستينات ويبدو عبدالمحسن المنقور وعبدالرحمن آل الشيخ وأحمد المانع ومحمد الفريح وخلفه عبدالعزيز المنقور
منذ مطلع الخمسينات الميلادية، لمعت في أوساط النخبة الإدارية والتربوية والتعليمية ثلاثة أسماء من أسرة المنقور، كانت جميعها ملء السمع والبصر، وكانت محل الحفاوة والتقدير لجهود وطنية مخلصة بذلوها جميعاً، كلٌ في موقعه وحسب إمكاناته. كان عبدالمحسن المنقور، المربي الوقور، هو الكبير والمعلّم الأول، في كل مواقعه التعليمية والتربوية والثقافية في الأحساء أولاً، ومن ثمَّ بيروت. وكان ناصر المنقور، التربوي، الذي قاد فريق تأسيس جامعة الملك سعود، ثم هو الوزير والسفير الشهير. وكان ثالثهم عبدالعزيز بن محمد المنقور، الموجّه التربوي والتعليمي، والأب الحاني لكلّ من ابتعث من السعودية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، من عام 1961م إلى عام 1978م، حينما عمل ملحقاً تعليمياً في أمريكا، في فترة ذهبية شهدها تاريخ الابتعاث التعليمي السعودي.
ولد عبدالعزيز المنقور في مدينة حوطة سدير، مسقط رأس آبائه وأجداده، ومستقر عائلته، الضاربة بعمق في تاريخ المنطقة، ودرَس في كُتّاب معلمها الشهير صالح النصرالله، مع بقية من زملائه وأصدقاء طفولته، ولم يطل به المقام فيها، إذ غادرها وهو في العاشرة من عمره إلى الرياض، طلباً للعلم وبحثاً عن الرزق، ملتحقاً بوالده، الذي كان يعمل في مدينة الرياض، والتحق فور وصوله في كُتَّاب الشيخ منصور بن هويمل، ثم انتقل إلى مدرسة الأمير منصور بن عبدالعزيز النظامية، والتحق فيها بالصف الثالث. وكان من بين معلميه في تلك المدرسة الشيخ ضحيان العبدالعزيز، الذي انتدبه المفتي الأكبر لتدريس المواد الدينية.
مع الأمير محمد العبدالله الفيصل واثنين من أساتذة الجامعة الأمريكيين
بين الشرطة والقطار
بعد إنهاء الدراسة، التحق في شرطة الرياض بوظيفة (كاتب)، براتب قدره 60 ريالاً. وبعد فترة انتقل مدير القسم إلى مكان آخر، وعُيّن آخر بديلاً عنه، وهو ضابط لا يجيد القراءة نهائياً، فأصبح المنقور (كاتباً وقارئاً)، يقرأ عليه المعاملات ثم يكتب توجيهاته. وبعد فترة لا تقل عن خمس سنوات انتقل إلى العمل في محطة القطار، شرقي الرياض، وكان مسؤولاً عن قسم الجوازات فيها. وهناك تعرّف إلى عبدالمحسن الرشيد، والد المذيعة هدى الرشيد، الذي كان يعمل ضابط اتصال في المحطة، بين وزارة المواصلات وشركة أرامكو، وحينما قرر عبدالمحسن الرشيد مواصلة تعليمه في أمريكا، رشَّح المنقور لدى الأمير طلال بن عبدالعزيز، وزير المواصلات، ليخلفه في عمله (ضابط اتصال) بين الحكومة والشركة، فقبل هذا العرض، وكان راتبه 600 ريال.
كان على تواصل دائم وانسجام تام مع المستر جلدي، مدير سكة الحديد، ومقره الظهران، الذي طلب منه الانتقال إلى الظهران والالتحاق بمدرسة السكة، وهي المدرسة التي تؤهل طلبتها للابتعاث إلى أمريكا، فذهب إليها وانتظم في صفوفها، رغبة منه في مواصلة تعليمه في أمريكا، لكن بعد حين نُقلت إدارة سكة الحديد من شركة أرامكو إلى وزارة المواصلات، لذلك لم يشأ جلدي أن يستمر بالعمل نتيجة الإجراءات البيروقراطية الجديدة التي لم تكن موجودة في فترة إشراف أرامكو على السكة وتشغيلها، فسافر جلدي إلى أمريكا في إجازة، ومن هناك بعث باستقالته!
فترة عمل المنقور في سكة الحديد من الفترات الجميلة في مسيرة حياته؛ فقد تعلم من خلالها اللغة الإنجليزية، وتواصل مع عدد من الشخصيات الأمريكية في السكة أو في الشركة، وتهيأت له مشاهدة عدد من الأفلام التي كانت ترسلها الشركة إلى موظفيها في محطة الرياض.
قرر المنقور تعلّم اللغة الإنجليزية ودراستها، فأخذ إجازة مفتوحة وسافر على نفقته الخاصة إلى بريطانيا، وهناك التحق بمعهد لتعليم اللغة الإنجليزية، وبعد فترة، أحس أن ما لديه من المال بدأ بالنفاد؛ فقرر العودة إلى بلاده، مروراً ببيروت، وذلك في ديسمبر 1960م.
وفي بيروت، التقى صديقه محمد الفريح، الذي أخبره بأن لدى وزارة المعارف توجهاً جديداً في فتح ملحقيات ثقافية في أوروبا وأمريكا، وألمح له الفريح بأنه قد تم ترشيحه للعمل ملحقاً تعليمياً وثقافياً في أوروبا، ومقره جنيف، ولم يبدِ المنقور أيَّ تفاعل مع كلام صديقه، الذي كان آنذاك أحد أبرز رجالات وزارة المعارف وقادتها.
إلى أمريكا لا سويسرا
عاد إلى الرياض، وقابل وزير المعارف عبدالعزيز آل الشيخ، الذي أبلغه بأنّ خدماته نُقلت من وزارة المواصلات إلى وزارة المعارف، وأنه عُيّن ملحقاً تعليمياً في أوروبا، ومقره جنيف، لكن المنقور أبان له بأنه لا يتحدث الفرنسية، ومن الأفضل لمن سيذهب إلى هناك أن يكون على معرفة بلغة البلد، فسأله الوزير عن لغته الإنجليزية فأجاب بأنها جيدة، وأنه قد عاد لتوّه من بريطانيا بعد أشهر قضاها في دراسة اللغة الإنجليزية. فقال له الوزير: إذاً نُعينك في أمريكا. وكان هذا ما يتمناه المنقور، الذي طالما تمنى السفر لأمريكا إما للدراسة أو العمل. (عُيّن في جنيف الأستاذ المربي محسن باروم).
وصل المنقور إلى مدينة نيويورك في صيف عام 1961م، مغادراً ابن عمه عبدالمحسن المنقور في بيروت، وفي طريقه توقف في الدنمارك، مدة يوم واحد، وفي ظهيرة ذلك اليوم، أخذ يتجول في ميدان كوبنهاجن، فرأى من بعيد شخصاً مرتدياً (بالطو) ثقيلاً، وتحته ملابس شتوية، وكان الجو وقتها لا يستدعي هذا البالطو الشتوي، فسار خلفه، ورأى أثراً لكيٍّ في رقبته، فجزم بسعوديته، فاقترب إليه أكثر، وناداه، فكانت المفاجأة أنه يقف وجهاً لوجه أمام صديقه الأديب عبدالكريم الجهيمان، الذي كان يزور الدنمارك في رحلة سياحية، وكان الجهيمان، يوم ذاك، مصاباً بنزلة برد، نصحه المنقور بكأس من عسل وزنجبيل، وغادره إلى المطار متوجهاً إلى نيويورك.
في رحلة طلابية مع عدد من المبتعثين
في الملحقية التعليمية
في برج (كرايسلر) في مدينة نيويورك الشامخة والسامقة بأبراجها، حط المنقور رحاله، حيث يوجد مكتب الملحقية التعليمية، وكان يعمل به ويديره شخص واحد فقط، تساعده سكرتيرتان، أمريكية متفرغة للعمل، وأخرى غير متفرغة، اسمها ميلدريد، وكانت ترفض بشدة مسمى (سكرتيرة) وظلت لسنوات تطالب بتعديله إلى (مساعد شخصي)، وكان عملها الرئيس سكرتيرة الأستاذ أحمد الشقيري، الذي يصفه المنقور بأنه شخصية مفوّهة وخطيب بارع، يتسابق موظفو هيئة الأمم المتحدة لسماع خُطبه، وكانت لغته الإنجليزية ممتازة جداً.
أما الشخص الذي كان يدير المكتب، فهو الدكتور عمر أبوخضرا، المستشار الثقافي في الوفد السعودي الدائم في هيئة الأمم المتحدة، أي أن أبوخضرا ليس من منسوبي وزارة المعارف، إنما هو أحد أفراد الوفد السعودي، وكلّف بإدارة الملحقية، فانضم المنقور للعمل مساعداً له في إدارة شؤون الطلاب. ويتذكر المنقور اليوم، من بيته في حي الورود بمدينة الرياض، تلك الأيام الخوالي، مشيداً بقدرات عمر أبوخضرا، وتعاونه الكبير معه فور وصوله إلى نيويورك، وأنه أعطاه كامل الصلاحيات للعمل، لسبب أنه لا يتدخل كثيراً في التفاصيل، وهو أيضاً عاشق للقراءة، منكب عليها، لا يحب الاختلاط بالناس ولا بالمراجعين والطلبة، لذلك منح المنقور صلاحية إدارة المكتب ومتابعة شؤون الطلبة، مما انعكس تالياً على أداء المنقور ومحبة الطلبة المبتعثين له.
كان مكتب الملحقية يقع بجوار مقر القنصلية السعودية، وكان القنصل آنذاك السفير عبدالرحمن منصوري، وإلى جوار القنصلية كان مقر البعثة السعودية الدائمة في هيئة الأمم المتحدة، وكان يرأس البعثة أحمد الشقيري، ويساعده جميل البارودي، وكان نائب القنصل حسين بافقيه، وكان هناك زين العابدين الدباغ وتيسير بندورة، وعمر حليق، ضمن الوفد السعودي. وضمن هذه الكوكبة عمل عبدالعزيز المنقور بكل تفانٍ وإخلاص.
في البدايات لم يكن العمل كثيفاً على المنقور، فعدد الطلاب السعوديين حينما باشر العمل كان بالكاد يبلغ 161 طالباً سعودياً، من ضمنهم البعثة التي أرسلها عبدالله الطريقي، مدير عام البترول والمعادن آنذاك، وعددهم 21 طالباً (انظر أسماءهم في كتابي: عبدالله الطريقي.. صخور النفط ورمال السياسة)، إضافة إلى عدد من المبتعثين من جهات حكومية أخرى غير وزارة المعارف، غير أن هذا العدد سيتضاعف مئات المرات، خصوصاً بعد إيقاف الابتعاث إلى مصر، وتحويل الطلبة إلى أوروبا وأمريكا، وسيبلغ أكثر من 12 ألف طالب حينما يغادر المنقور الملحقية في عام 1978م، مما تطلب زيادة عدد موظفي الملحقية، إذ زاد عددهم من سكرتيرتين فقط، إلى أكثر من خمسين موظفاً، كان من بينهم عدد من السعوديين، الذين عملوا مع المنقور في أوقات مختلفة، من أمثال: صالح باوزير، وعبدالرحمن القرعاوي، وغازي عبدالجواد، وعبدالرحمن المازي، ويوسف الحمدان، وعبدالمحسن أبانمي، وعلي الحفظي.
في عام 1969م، زار الأمير فهد بن عبدالعزيز، وكان حينها نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للداخلية؛ أمريكا، وفي يوم مغادرته طلب المنقور من الدكتور عمر أبوخضرا أن يصحبه إلى المطار لتوديع الضيف الكبير، غير أن أبوخضرا ردّ عليه بأنه لن يذهب إلى المطار، فظن أن لديه عملاً ينجزه، أو أي شيء آخر يحول دون مشاركته توديع الأمير. وفي المطار أخذ الأمير فهد يصافح مودعيه من منسوبي السفارة والقنصلية والوفد السعودي الدائم، وحينما صافح المنقور شدّ على يديه، قائلاً له: خذ بالك من عيالك! ولم يعرف المنقور ماذا كان يقصد الأمير فهد بهذه العبارة، لكنه علم حينما سأل السفير إبراهيم السويل، وهم في سيارة المنقور عائدين من المطار، فأخبره السفير أن أبوخضرا أعفي من العمل، وتم تعيينك ملحقاً تعليمياً مكانه، فاستعد لهذا الأمر!
عاد المنقور إلى مكتبه، وباشر عمله وتسلم المهمة من عمر أبوخضرا، ولم تتغير الطريقة في إدارة المكتب ورعاية شؤون الطلاب، بحكم السنوات التي عمل فيها المنقور، والتي كان فيها مفوضاً من أبوخضرا بإدارة ومتابعة شؤون الطلاب ومشاكلهم في جامعاتهم أو مع مراكز الشرطة أو مع ما يعترضهم من نوائب وأحداث في بلاد مترامية الأطراف. ولا تزال ذاكرة المنقور تحتفظ بالعشرات من القصص المثيرة لكثير من الطلبة السعوديين، سواءً ذلك الطالب الذي غادر قريته مباشرة إلى نيويورك! أو ذلك الذي فصلته جامعته أو آخر مارس أعمالاً جعلته في سجن أحد مراكز الشرطة، بانتظار حضور الملحق التعليمي! أو ذاك الطالب الذي اتصل على الملحقية يخبرهم أن والدته قادمة إلى أمريكا، ولأنها كبيرة في السن، يطلب منهم مساعدتها عند وصولها وإركابها في طائرة أخرى إلى ولايته المقيم بها، وقد ذهب المنقور بنفسه، ولم يحتج إلى كثير من النظر كي يجدها، وعند التفتيش طلب منها المفتش الجمركي إخراج علبة كانت في حقيبتها الكبيرة، فشرح لها المنقور الطلب، فأخرجتها وأدخلت يدها في العلبة وأكلت منها، فسمح لها المفتش بالعبور، ظناً منه بأنّ ما في العلبة هو نوع من الحلوى. يقول المنقور كان الذي أكلت منه تلك السيدة هو الجراك الذي أحضرته لابنها في أمريكا.
قصص طويلة وكثيرة مع علية القوم ومع أبنائهم، مع الطلبة المتفوقين والمميزين، ومع الطلبة الكسالى والمتمردين، وكلها قصص تحتاج إلى تدوين وتوثيق.
وللطلبة المبتعثين، أيضاً، قصص طويلة معه، فما أن تجلس إلى أحد الذين ابتعثوا في فترة المنقور، إلا ويروي لك قصة عنه. قصة في الشهامة والمروءة، أو في الحكمة والنصح والإرشاد، ويكفي أن المبتعثين السعوديين في جميع جامعاتهم أطلقوا على المكافأة الشهرية (شيك المنقور)، وذلك لحرصه على أن يصل الشيك إلى كل الطلاب في موعده المحدد، وهي ميزة تميّز بها الطلاب السعوديون دون غيرهم من دول الخليج أو الدول العربية الأخرى، التي غالباً ما تتأخر مكافأتهم لأكثر من شهر.
يذكر المنقور أنه، بعد مباشرته العمل بسنوات، لم يكن هناك طالبات مبتعثات، باستثناء طالبة واحدة تدرس مع أخيها على نفقتها الخاصة، وهي الطالبة ثريا عبيد، لكن بعد فترة بدأ ابتعاث الطالبات، وإن كان بأعداد محدودة، وكان أغلبهن أن لم يكن كلهن يدرسن في مدينة بورتلاند بولاية أوريغون، رغبة منه في أن يكنّ جميعاً في مدينة واحدة، وكان المنقور يسميها مدينة الورود، لوجود الفتيات السعوديات فيها. ويدين الكثير من الرائدات بالابتعاث لأمريكا بكثير من الفضل والتقدير للمنقور على مواقفه الأبوية معهن، من أمثال ثريا عبيد وثريا التركي وعائشة المانع وابتسام البسام وفاتنة شاكر، وفوزية أبو خالد.. وغيرهن. وكان عدد من أولياء الأمور يسمحون لبناتهم بالابتعاث بسبب وجود المنقور ملحقاً تعليمياً.
لم يكن مكتب الملحقية في نيويورك خاصاً بالطلبة المبتعثين، فقد كان يفد إليه ويزوره عدد من السعوديين، ممن يزورون أمريكا، للسياحة أو العلاج أو العمل. يتذكر المنقور الأمير خالد السديري، حينما دخل عليه صحبة ابنه الأستاذ تركي الخالد السديري. أما سليمان العليان، فكثيراً ما كان يزور المكتب، ويضطر أحياناً لاستخدام (التلكس) الخاص بالمكتب. يقول المنقور: أستغرب من كتابة العليان للغة الإنجليزية، فهو يكتبها كأنما هو أمريكي أو بريطاني، ولغته الإنجليزية متقنة رغم أنه لم يكمل تعليمه، وكان يقدم محاضرات في جامعة إنديانا باللغة الإنجليزية. كما كان يزور المكتب صالح أمبا، ومعه كينق هول، ويمضيان وقتاً طويلاً في التحضير والتجهيز لإنشاء كلية البترول والمعادن.
روى لي الأستاذ المنقور أنهم ذات مرة كانوا في مطار نيويورك لوداع الملك فيصل بن عبدالعزيز، وكانوا معه في صالة انتظاره في المطار، وحينما دخل إلى الطائرة صحبه المودعون للسلام عليه في الطائرة، وفجأة توقف الملك ثم عاد إلى مكانه في الصالة، فتوقعوا أنه قد نسي شيئاً ما، لكنهم فوجئوا بالملك يوجه شكره وتقديره للعاملة، التي كانت تباشر بتقديم العصائر والماء، وقال للحاضرين: كدتُ أنسى أن أشكرها!
الفترة التي أمضاها المنقور ملحقاً تعليمياً في أمريكا، كانت فترة ذهبية لما يعرف بمنظمة الطلبة العرب، التي نشطت بشكل كبير في الستينات والسبعينات، عطفاً على أحداث العالم العربي، وقد هيمن على المنظمة في أغلب فروعها في الجامعات الأمريكية عدد من الطلبة العرب، من ذوي الانتماءات البعثية، ثم هيمن عليها الناصريون، وكانت الحرب بينهم سجالاً، قبل أن يخرج الناصريون من الحلبة، ليبقى الصراع بين البعثيين وأولئك المنتمين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكذلك الجبهة الديمقراطية، وكان لعدد من الطلبة السعوديين أن انضموا لهذه المنظمة، تبعاً لانتماءاتهم وميولهم السياسية، مما ليس هنا مجال للاستطراد فيه، غير أن المنقور كان يتابع نشاط السعوديين بحنو الأب وعاطفته، متفهماً اندفاعة الشباب، حريصاً على ألا يأخذهم الحماس لهذه التيارات، فيؤثر على دراستهم وتحصيلهم العلمي.
نجح المنقور في إدارة شؤون الطلبة المبتعثين، وكان لذلك أسباب عدة، منها التفويض الذي منحه إياه عمر أبوخضرا، كما ذكرت سابقاً، كما أنه كان على معرفة وصلة بموظفي أرامكو الأمريكيين، وبخاصة موظفو مكتب أرامكو في نيويورك، مما سهّل في طبيعة عمله وتواصله مع الطلبة، إضافة إلى أن وزارة المعارف لا تتدخل في أي تفاصيل تخص الطلبة هناك، فكان يعمل باستقلالية تامة، كما أن وجود المكتب في نيويورك، بعيداً عن مقر السفارة، في واشنطن، أعطى المكتب صلاحيات أكبر في التحرك والمتابعة، بعيداً عن البيروقراطية.
أشرف المنقور على نقل مقر الملحقية التعليمية من نيويورك إلى مقرها الجديد في هيوستن، وذلك أن كثيراً من مقار الجهات الحكومية والخاصة انتقلت منها، بسبب التكاليف الباهضة والازدحام الشديد الذي تعاني منه المدينة، وقد اختار المنقور مدينة هيوستن للتوفيق بين توقيت شرق أمريكا وغربها، كما أن تكاليفها أسهل وأقل على الطلبة، الذين يراجعون المكتب من حين إلى آخر.
مع عبدالكريم الجهيمان في كوبنهاجن
إلى شؤون المزارعين
كان عبدالعزيز المنقور في زيارة إلى مدينة الرياض، لمتابعة أعمال الملحقية، والتقى بالأستاذ محمد أباالخيل، وزير المالية آنذاك، فقال له أباالخيل: ألم تطفش من أمريكا؟! فرد عليه بأنه مرتاح في عمله مع الطلبة هناك، ثم ليس هناك من بديل مناسب للعمل. فقال له أباالخيل: هناك الصندوق الزراعي ليس له مدير حالياً، وتستطيع إدارة شؤون المزارعين مثلما أدرت شؤون المبتعثين! وما هي إلا أيام، ويسمع قرار تعيينه عبر التلفاز رئيساً للبنك الزراعي، فانتقل من رعاية المبتعثين إلى متابعة المزارعين. انتقل المنقور من إدارة بصلاحية مطلقة إلى دهاليز البيروقراطية وتعقيداتها. ودّع أمريكا رغم عشقه لعمله، فهو يشعر بسعادة بالغة حينما يستقبل الطلبة فور وصولهم، وهم قلقين وجلين، يخشون المجهول، ثم يشاهدهم بعد سنوات، وهم يغادرون محملين بالشهادات العلمية، معتزين بأنفسهم، عائدين لخدمة وطنهم. يقول المنقور: (تشعر بأنك قد ساهمت في تحقيق تأثير إيجابي في حياة هؤلاء الطلبة. إنه شعور عظيم).
عمل المنقور مديراً عاماً للبنك الزراعي لمدة عشر سنوات، كان شاهداً فيها على الطفرة الزراعية التي شهدتها مساحات شاسعة في المملكة، نتيجة الدعم الحكومي الذي أولته الدولة لهذا القطاع، كما كان شاهداً على سنوات الانكماش والانحسار، الذي بدأ مع نزول أسعار النفط، وكان له تأثيره الكبير، كما عمل لاحقاً رئيساً لمجلس إدارة البنك الهولندي. وقصة المنقور مع الزراعة تحتاج إلى مزيد من التفاصيل، لا يتسع لها المقام هنا، فقد كان القصد إبراز دوره التربوي في رعاية الطلبة المبتعثين.
مع عدد من المبتعثين في إحدى جامعات أمريكا
إلى التكريم
في عام 2012م، فكّر عدد من المبتعثين السابقين إلى جامعات أمريكا بتكريم أستاذهم عبدالعزيز المنقور، وشُكّلت لجنة لهذا الغرض من: سعد المعجل وسليمان المنديل وعبدالرحمن المازي، وأُقيم حفل التكريم في فندق الإنتركونتننتال، حضره العديد من الأمراء، ومن الوزراء، السابقين واللاحقين، ورجال أعمال، وأكاديميين، وجمع غفير ممن تلقوا تعليمهم في أمريكا في الفترة التي قضاها المنقور ملحقاً تعليمياً. لقد كان حفلاً تكريمياً فريداً من نوعه، سعدت به مدينة الرياض في أجوء نسمات باردة من ذلك المساء الجميل.