مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

عبدالعزيز الصقير

محمد عبدالله السيف: الرياض

في مطلع القرن الهجري الماضي، كان عبدالله الصقير، وهو أحد أبناء بلدة “القرعاء”، إحدى قرى منطقة القصيم، الواقعة إلى الشمال الغربي من مدينة بريدة؛ يتردّد متاجراً بين بلدته القرعاء ومدينة بريدة، حاضرة القصيم وقاعدة حكمه، ثم رأى أن يستقر في مدينة بريدة، لمواصلة نشاطه في تجارة الحبوب والقمح وغير ذلك. وبعد فترة من الزمن، قرّر الانتقال والعودة إلى مسقط رأسه ورأس أسرته، وهي أُسرة قصيمية ضاربة بعمق، وسيكون لعدد من أبنائها دور مهم في بناء الدولة الحديثة والمساهمة في نهضتها. 

تزوج عبدالله الصقير عدداً من الزيجات، ورُزق بخمسة من الأبناء الذكور، وهم: عبدالعزيز، وعلي، وصالح، وحمد، ومحمد. 

 

إلى بغداد

ولد عبدالعزيز قريباً من عام 1318هـ، وهو أكبر إخوته، ووالدته من أسرة الفراج، وقد عمل عوناً وساعداً لوالده في أعماله وزراعته، لكنه لم يستمر في ذلك كثيراً، إذ تعرّف إلى الأمير تركي بن عبدالعزيز “الأول”، الذي أُعجب به لنجابته وسرعة عمله، فعمل مع الأمير تركي وسيطاً تجارياً بين تجار القصيم والأمير، فيما يخص تزويد جيش الملك عبدالعزيز، كما كلفه الأمير تركي بمهمات إلى الكويت. وبعد وفاة الأمير تركي بن عبدالعزيز في سنة الصخنة “الإنفلونزا الإسبانية” عام 1337هـ، قرر عبدالعزيز بن صقير مغادرة القصيم واللحاق بتجار العقيلات، الذين كانوا يتاجرون ما بين نجد وبلاد الشام والعراق، واتخذ من بغداد مستقراً له، في الحي المعروف بـ”الكرخ” في السوق الجديد. وهناك بدأ في تشكيل علاقات واسعة وممتدة مع تجار العقيلات ومع زعماء القبائل العراقية وأعيان العراق وتجاره، الأمر الذي جعله يحظى بمكانة كبيرة كوسيط تجاري بين العقيلات وتجار العراق، وكان يُطيل الغياب عن بلدته القرعاء، فلربما أمضى السنوات الأربع أو الخمس دون أن يعودها بزيارة، ولعل مجلسه المفتوح في الكرخ هو أشهر مجلس لرجل نجدي في العراق في ذلك الزمن، إذ كثيراً ما حظي بزيارات شيوخ القبائل والأعيان والتجار، إضافة إلى التجار النجديين والعقيلات. هذا التواصل الاجتماعي مع القبائل والأعيان والتجار جعل عبدالعزيز بن صقير على معرفة ودراية بتفاصيل المجتمع العراقي وتركيباته، الأمر الذي جعل المفوض السعودي في العراق إبراهيم بن معمر -حالما باشر أعماله كأول مفوّض- يعتمد عليه اعتماداً كلياً فيما يخص قبائل العراق ومشاكل الحدود بين السعودية والعراق. وفي إحدى زيارات الشيخ إبراهيم بن معمر إلى الرياض صحب معه الشيخ عبدالعزيز الصقير، وقدّمه إلى الملك عبدالعزيز وعرّف الملك بالجهود الذي يبذلها ابن صقير في العراق فيما يخص مشاكل التهريب والحدود، والمكانة التي يحتلها لدى زعماء القبائل والعشائر العراقية، فأمر الملك عبدالعزيز بتوظيفه في السفارة ملحقاً فيها، وذلك في حدود عام 1356هـ، كما صحب ابن صقير الوفد العراقي برئاسة نوري السعيد في زيارته إلى المملكة ولقائه بالمليك المؤسس في روضة التنهات، لبحث موضوع الحدود وقضايا القبائل. 

بعد انضمامه للعمل في السفارة السعودية في بغداد، أصبح ابن صقير يمارس عمله الذي كان تطوعياً بشكل رسمي، وقد أُعجب الملك عبدالعزيز بأدائه، وكان يثق بآرائه ورسائله التي يبعث بها من العراق، وكان يبعث برسائله إلى الملك مباشرة أو إلى ولي عهده الأمير سعود بن عبدالعزيز. 

أثناء عمله في بغداد، قرّر عبدالعزيز بن صقير الزواج، فتزوّج من السيدة منيرة حمد الرشيد “من آل بو عليان” وكان الزواج في مدينة حلب الشهباء في سوريا، حيث كانت أسرتها مستقرة هناك، ضمن مشروع العقيلات، لتعود معه زوجته إلى منزله ومجلسه، لتكون له سنداً ومعيناً في أداء أدواره التي يقوم بها، سياسياً واجتماعياً. 

وطيلة إقامته في بغداد، لم تغب عينه عن والده ووالدته وإخوته. فكان كلّ ما شب أحد من إخوته عن الطوق طلبه إلى بغداد، فذهب إليه أولاً أخوه علي ثم صالح ثم حمد، الذي ذهب عام 1363هـ / 1943م، ثم محمد، الذي بعد وفاة والدهم في عام 1367هـ، لم يبق له إلا الذهاب لإخوانه في بغداد العز والنماء آنذاك.

إخوته

كان عبدالعزيز بن صقير لإخوانه بمثابة الأب، وكانوا هم معه بمثابة الأبناء، فعاشوا معه في منزله وكانوا يقومون بخدمة ضيوفه وزواره. 

في بغداد، وقبل أن ينتقل عبدالعزيز الصقير إلى السفارة السعودية في دمشق، لابد من تسليط الضوء على الجهد الذي قام به مع إخوته، فما أن يصل الواحد منهم إلى بغداد حتى يُلحقه في كُتّاب ليتعلم شيئاً من القراءة والكتابة والحساب. وكان تعليمهم عند “الملا حماد”، وهو تعليم أهّل كل واحد منهم ليدخل المدرسة الابتدائية في السنة الرابعة، وقد واصلوا جميعهم تعليمهم وتخرجوا في ثانوية بغداد. ويذكر الدكتور حمد الصقير أنّ من السعوديين الذين تخرجوا في ثانوية بغداد: عبدالرزاق الحسن وأولاده، وعلي الزبن، وعبدالعزيز الكحيمي، وأحمد الكحيمي، وفهد بن عبدالله الخيال، وغيرهم. (سنُسلط الضوء في عدد قادم على السعوديين الذين تخرجوا في ثانوية بغداد). 

- علي الصقير، وقد تخرج في ثانوية بغداد، وعمل في السفارة السعودية في بغداد، ثم قنصلاً في القدس بعد عبدالعزيز الكحيمي، ثم أصبح سفيراً في عدد من الدول، منها: العراق والكويت والسودان ونيجيريا. وهو أول مدير لمكتب وزارة الخارجية في مدينة الرياض، قبل انتقال الوزارة إليها. 

- صالح الصقير، تخرج في ثانوية بغداد، ودرس الحقوق في جامعة بغداد، ثم سافر إلى أمريكا وحصل على الماجستير من جامعة بوسطن، وقد عمل بداية في الشعبة السياسية بالديوان الملكي، ثم عمل عضواً في البعثة السعودية في الأمم المتحدة، وعمل “قائمقام” في السفارة السعودية في بغداد، ثم سفيراً في عمان والهند وتركيا. 

- حمد الصقير، تخرج في ثانوية بغداد، ودرس الطب في جامعة الإسكندرية، وكان من أوئل الأطباء السعوديين، إذ التحق بطب الإسكندرية عام 1952م، ولايزال حمد الصقير يتذكر أن من بين زملائه السعوديين في طب الإسكندرية، الذين التحقوا بها بعده: عبدالعزيز مدرس، ومحمد العماري، وسامر إسلام، ومصطفى أمير. وبعد تخرجه باشر عمله طبيباً في مستشفى الشميسي، وكان الطبيب السعودي الثالث في المستشفى إلى جانب حسين شويل وسراج ملائكة. وواصل دراساته العالية في بريطانيا متخصصاً في أمراض الصدر والسلّ، وتعيّن وكيلاً لوزارة الصحة للشؤون الصحية مع حسين جزائري ثم مع غازي القصيبي، قبل أن يصدر الأمر الملكي بتعيينه رئيساً للجمعية السعودية للهلال الأحمر، ثم انضم إلى عضوية مجلس الشورى بدورتيه الأوليين. 

- محمد الصقير، تخرج في ثانوية بغداد، ودرس في الجامعة اللبنانية في بيروت، تخصص إدارة. التحق في وزارة المالية، ثم حصل على الماجستير من أمريكا، وتدرج في العمل الوظيفي حتى أصبح وكيلاً لوزارة المالية والاقتصاد الوطني لشؤون الميزانية، ثم عمل مديراً عاماً لصندوق التنمية الصناعي. 

هؤلاء هم إخوته، الذين احتضنهم في بغداد وحرص على تعليمهم، وقد سُرَّ حينما رآهم، بعد حين من الدهر، وهم يتبوأون مناصب قيادية، ويكونون سفراء لبلده في أكثر من دولة.

إلى دمشق وبيروت

يوصف عبدالعزيز بن صقير بأنه نسابة وذو معرفة بقبائل العراق وعشائرها، وكان يحفظ الأشعار والقصائد الحربية، وهو راوية لوقائع وغزوات الملك عبدالعزيز، وقد ترك أوراقاً أملاها على عقيل العقيل في عام 1388هـ، تتعلق بتفاصيل وتفرعات أسرته الكبرى “آل نجيد”.

يتحدث عباس بغدادي في كتابه “بغداد في العشرينات” عن المقاهي في بغداد، وبخاصة مقاهي الكرخ، التي تضم مقاهي “عكيل” أو عقيل، وهي المقاهي التي كان يلتقي فيها العقيلات وتجار الخيول التي تُصدر إلى الهند للمشاركة في سباقات الخيل هناك. ويذكر المؤرخ عباس بغدادي قائلاً: (وقد اتخذ النجدي الخبير بالأنساب عبدالعزيز الصقير هذه المقاهي مقراً له حين بدأ بإرسال العراقيين إلى نجد يوم كثرت أموال السعودية واحتاجت إلى شباب وموظفين من أصل نجدي. وكان عبدالعزيز يختارهم ويُشجعهم، فذهب كثير منهم إلى السعودية وتسلّموا الوظائف الكثيرة، وكان منهم وزراء وسفراء وموظفون في أعلى الدرجات أمثال الرواف والكحيمي والحجيلان والزبن، وغيرهم). 

هذه المكانة الاجتماعية التي تبوأها عبدالعزيز الصقير في بغداد، إضافة إلى معرفته الواسعة بشؤون القبائل، ومدى تأثيره عليها، أقلقت الحكومة العراقية، التي رأت أن دوره بدأ يتسع ويكبر، فرغبت في نقله من السفارة السعودية، فانتقل منها إلى السفارة السعودية في دمشق، وذلك في عام 1954م / 1374هـ، فعمل مع السفير عبدالعزيز بن زيد مستشاراً ووزيراً مفوضاً، ثم انتقل إلى بيروت في عام 1957م ليعمل في السفارة السعودية في بيروت. وقد سكن في منطقة الحمراء، وشكّل في بيروت علاقة وثيقة مع الشيخ عبدالمحسن المنقور، الذي كان يعمل وقتها ملحقاً ثقافياً وتعليمياً في بيروت، وكانا يتنافسان في خدمة زوار لبنان من السعوديين، ومساعدة المرضى. وتروى قصة طريفة حول كرم ابن صقير، وهو أنه لايدع زائراً إلى بيروت من السعوديين إلا ويدعوه على الغداء أو العشاء، ولا يقبل التنازل أبداً، لكنه واحتراماً للسفير السعودي كان يقول للزائر: (عزيمتك عندي لكن ما أتقدم على السفير). وبعد فترة لم يعد السفير يتحمل هذه الدعوات، فقال له: (اعزم أنت ولا تورطني في عزيمة كل من يأتي).

ومن قصصه أيضاً، أنه أصر على دعوة عدد من الأمراء الذين كانوا يزورون بيروت، لكنهم اعتذروا منه، ولما لم يجد منهم استجابة، أخذ خروفين إلى الفندق الذي كانوا يسكنون فيه، وطلع بهما إلى غرفة أحدهم، وقال: هذا عشاؤكم! وانصرف. 

وفي عام 1388هـ / 1968م أُحيل على التقاعد برتبة وزير مفوّض، وبقي في بيروت، وقد زاره الأمير سلطان بن عبدالعزيز في منزله في بيروت ليطمئن على صحته. وفي عام 1391هـ / 1971م انتقل إلى رحمة الله تعالى في مقر إقامته في بيروت، وعلى الفور أمر الملك فيصل بن عبدالعزيز بنقل جثمانه إلى الرياض، فنُقل الجثمان برفقة أخويه علي، السفير السعودي في العراق، وصالح، السفير في وزارة الخارجية. تقول صحيفة الجزيرة: (وقد صلى عليه حشد كبير من الأصدقاء والمحبين صلاة الفجر بجامع الرياض، ثم حُمل على الأكتاف وغُيب في التراب مشيعاً بالدموع والحسرات، ومأسوفاً على فراقه). وقد أُقيم العزاء في منزل أخيه الدكتور حمد في حي الملز، الذي غصّ بالمعزين من رجالات المجتمع وقادته.

 

 

ذو صلة