مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

عبدالوهاب أبو ملحة.. إدارة المال في عسير

د.عبدالكريم إبراهيم السمك: الرياض

في قراءتي لتاريخ الملك عبدالعزيز مع رجاله، وجدت أنه اختص بنخبة كريمة منهم، وكلهم كرام، حظوا بثقة الملك فيهم، فنالوا منه سمو المكانة والقدر، وكان واحداً منهم الشيخ عبدالوهاب أبو ملحة يرحمه الله.
الشيخ عبدالوهاب أبو ملحة والخلاف السعودي اليمني حول جيزان
في ظل أطماع اليمن في كل من جيزان وعسير، تفاقم الوضع على المنطقتين، إلى أن انتهى الأمر بتسوية هذه القضية الخلافية بالمفاوضات بين الجانبين السعودي واليمني، ولمع اسم عبدالوهاب أبو ملحة عضواً في وفد المفاوضات، بعد أن كلف الملك عبدالعزيز الشيخ تركي الماضي بمهمة السفر إلى اليمن ومعه كل من عبدالوهاب أبو ملحة وسعيد بن مشيط، حيث قصد الجميع اليمن، بموجب التكليف المؤرخ في 18 ذي القعدة 1345هـ / 1926م، والتقوا الإمام يحيى حميد الدين، كما شارك في وفد عبدالله بن معمر، وبرفقتهما خمسة مرافقين، وفي (12 / 5 / 1346هـ / 1927م)، كلف الملك عبدالعزيز تركي الماضي بالسفر إلى اليمن وبرفقته عبدالوهاب أبو ملحة ودليم الدليم، كما شارك في مفاوضات أبها الخاصة بتحديد الحدود في (29 رمضان 1352هـ / 1933م)، برئاسة فؤاد حمزة وعضوية تركي الماضي ودليم الدليم، وفي اتفاقية الحدود بين اليمن والمملكة بتاريخ (6 صفر 1353هـ)، وشارك كذلك في التوقيع على الاتفاق في إقرار الحدود بين البلدين، وذلك بتاريخ ( 25 شعبان 1354هـ)، حيث تم التوقيع على الاتفاق في ظهران الجنوب في (21 شوال 1354هـ). وهذا غيض من فيض المهمات والقضايا التي كلفه الملك عبدالعزيز بها.
الشيخ عبدالوهاب أبو ملحة والشيخ سعيد بن مشيط، وغيرهما ممن غابت عنا أسماؤهم، تحقق للملك ما يصبوا إليه من ولاء هذين الفاضلين، فكانت أولى القضايا في صدق ولائهما للملك وتأييد سياسته، مشاركتهما في حملة عبدالعزيز بن مساعد العسكرية ضد آل عايض عام (1338هـ - 1919م)، فكانت مشاركتهما هذه بمثابة خطوة كريمة خطوها في تأييد وموالاة سياسة توحيد الجنوب في كيان الدولة السعودية.
أبو ملحة مديراً لمالية عسير
قضى الشيخ أبو ملحة قرابة (35) سنة، عاملاً ومديراً لمالية عسير، على حياة حكم الملك عبدالعزيز، فقد جاء تكليفه بإدارة المالية هذه، بعد أن انتهت في الجنوب جميع المسائل الحربية والعسكرية، حيث التفت الملك عبدالعزيز إلى إعداد جهاز إداري كامل ومتكامل، وعليه ستقع قضية نجاح سياسة إدارة المنطقة، فذهب الملك في تكليفه هذا لما وجد فيه من أمانة وذمة ودين، بتاريخ (1342هـ / 1923م)، ففي خطاب التكليف من الملك له، على أنه المسؤول الأول عن الإدارة المالية للمنطقة، فكان الشيخ أبو ملحة في إدارته عند حسن ظن الملك عبدالعزيز، من خلال نجاحه الإداري، الذي استطاع فيه تنظيم أمور الشؤون المالية من إيرادات ونفقات، وقام على إدارتها حتى وفاته يرحمه الله.

من جلالة الملك عبدالعزيز إلى ( أبو ملحة) تطميناً عن الأحوال عام 1373هـ

أبو ملحة في حملة عبدالعزيز بن مساعد
كان واقع أعمال وسياسات آل عايض الظالمة مع قبائل وسكان منطقة أبها وعسير؛ السبب المباشر في دفع هؤلاء إلى موالاة سياسة الملك عبدالعزيز في توحيد بلادهم مع نجد. ويوم أن قدم الأمير عبدالعزيز بن مساعد، على رأس حملة عسكرية ضد آل عايض، حينها كان عبدالوهاب أبو ملحة ومعه أبناء عشيرته في طليعة مستقبلي الأمير ابن مساعد، وذلك في (قاعة ناهس). وفي هذا اللقاء بويع للمشاركة في حملته ضد ابن عايض، سعياً لتوحيد إقليم عسير بنجد وملحقاتها، وقد تحقق للأمير الانتصار على ابن عايض في معركة (حجلة)، وهو ما دفع ابن عايض للهرب إلى أبها ليعتصم فيها، ثم تركها وقصد حصن (حرملة) الذي يخص آل عايض، حيث اعتصم فيه. وعندما أدرك ابن عايض عدم قدرته على الصمود، استسلم للقائد ابن مساعد، وحمله وأسرته إلى الرياض معززاً مكرماً، وقد التقاه الملك عبدالعزيز، فأحسن رفادته وهيأ له طيب الإقامة والراحة في الرياض، وبعد عدة أشهر كان الملك قد رخص له بالعودة إلى عسير، بعد أن خصص له رواتب شهرية، ومساعدات عينية بشكل دائم.

عضو الهيئة اليمنية في الحدود عبدالله المنّاع، محمد بن حسين «عضو سعودي» رئيس الهيئة في لجنة الحدود، والشيخ عبدالوهاب أبو ملحة في لجنة الحدود، و«دليم أبو لعثة»

وكان الأمير ابن مساعد قد عيّن أميراً على عسير (فهد بن عبدالكريم العقيلي)، لكن ابن عايض بعد عودته من الرياض، نقض العهد مع الملك عبدالعزيز، وهاجم الأمير فهد العقيلي، والتجأ هذا الأمير إلى سعيد بن مشيط وعبدالوهاب أبو ملحة الذي استضافه في قصره (العرْق) سنة 1340هـ / 1921م، وقد قصده حيث هو مقيم، فأحرق قصر الشيخ عبدالوهاب، بعد نهب ما فيه، وقبض على الأمير العقيلي بعد مواجهات عسكرية طالت مدة شهر، حيث كان أبو ملحة في بيشة، أما الأمير سعيد بن مشيط فقد استسلم في قصره بقرية (ذهبان) بعد حصوله على الأمان من ابن عايض.
وعلى واقع الحال، وما وصل إليه في عسير، من نقض آل عايض العهد مع الملك عبدالعزيز؛ كلف الملك ابنه فيصل بقيادة حملة عسكرية لتأديب ابن عايض، وذلك في شهر رمضان سنة (1340هـ / مايو 1922م)، حيث سار الفيصل بقواته، وكان عددها في حدود أربعة آلاف، وقد انضم لهم في هذه الحملة، متطوعون من أبناء قبائل عسير، إضافة للشيخ عبدالوهاب أبو ملحة ومن معه من أبناء عشيرته، إذ كان ينتظر الحملة في (رنية)، وقد استنجد الشيخ عبدالوهاب بشيخ قبيلة (بني وهب) الشهرانية (هيف بن ناصر الفويه)، طالباً منه الانضمام للحملة بقيادة الفيصل ضد ابن عايض، والرسالة هذه تحتفظ بها أسرة الفويه.
سارت القوات مطاردة محمد بن عايض، الذي التجأ إلى حصنه في (حرملة)، وتحصن فيه، وكان (الشريف عبدالله بن حمزة) وبمعيته الملازم (حمدي بك)، قد فشلوا في نصرة ابن عايض بما معهم من قوات، وتراجعت قواتهم إلى القنفذة، أما بالنسبة لآل عايض، فقد أرسل الفيصل في طلبهم في (حرملة)، فدمرت قواته حصون آل عايض، وبعد انتهاء مهمة الفيصل، أقام (سعد بن عفيصان) أميراً على عسير، وعندما نزلت الوفاة فيه، اجتمع الشيخ عبدالوهاب ومعه أعيان المنطقة ووجهاؤها، فعينوا بالوكالة (محمد بن نجيفان) أميراً على عسير، وكتب الشيخ عبدالوهاب كتاباً بذلك للملك عبدالعزيز، حيث كان قد وصله خبر وفاة ابن عفيصان، فكلف الملك الشيخ عبدالعزيز الإبراهيم بالإمارة على عسير، وكتب بذلك كتاباً إلى الشيخ عبدالوهاب، وذلك عام (1341هـ / 1922م).
الشيخ عبدالوهاب يزور الملك عبدالعزيز في الرياض
قصد الشيخ عبدالوهاب الرياض لزيارة الملك عبدالعزيز، بصحبة مرافقيه، وذلك في نهاية شهر رجب لسنة 1372هـ / 1952م، حيث أقام فيها قرابة ثلاثة شهور، في جوار الملك عبدالعزيز، وقد سر الملك بمقدمه وأنزله المنزلة اللائقة فيه، وكان مجلسه عامراً بالضيوف، وبخاصة من شيوخ الخليج، ووجد الشيخ أبو ملحة أن وقت الزيارة قد انتهى، فطلب من الملك العودة للبلاد، وكان الملك راغباً في بقائه لمدة أطول، فرخص له، بعدما شمله بأسمى آيات التكريم والترحيب، وأثناء عودته من الرياض، سافر الشيخ عبدالوهاب بالطائرة إلى جدة، حيث قصد العمرة هو ومن معه، وبعدها توجه إلى الطائف ومنها إلى خميس مشيط.
وهنا لا يغيب عنا مكانة زوجته الشيخة (سراء بنت عبدالعزيز بن حسين مشيط)، فهي من بيت كرم وضيافة، وقد سبق لها أن استضافت الحملة العسكرية القادمة من الرياض لتأديب اليمنيين الذين تجاوزوا الحدود، ودخلوا الأراضي السعودية، فعند وصول الجيش، وجهت الدعوة للجيش وكبار قادته، على عشاء في قصر الشيخ، وقد وصل الخبر للملك عبدالعزيز فسره ذلك.

الأمير/تركي السديري وبعض الأعيان في أحد منتزهات المنطقة

جوانب من شخصيته
كان يكره الكذب والخداع والمناورة، ويجيد فن الحوار والسياسة. تتصف شخصيته بالجانب الإنساني، في العطف على الفقراء والمحتاجين، وكانت مواقد الطبخ لا تطفأ عنده، في سبيل استضافة أي ضيف يحل عنده، أو فيما يخص حاجة المحتاجين للطعام، فيأتون لبيته ويأخذون منه، وقد استن سنة حميدة في رعاية مواليه سواء في كسوتهم أو زواجهم، إضافة لتوزيع احتياجات كل أسرة بما تحتاجه من أطعمة، وقد استضاف الملك سعود في قصره سنة (1373هـ / 1953م). وهذا غيض من فيض سيرته الكريمة رحمه الله تعالى وأكرم منزلته، فقد كان من كبار رجال الدولة في مسيرة بنائها، ممن حفظتهم وخلدتهم ذاكرة التاريخ السعودي، إنها أسماء بحروف من نور، في مسيرة بناء الوطن في معية الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى، وأسكنه فسيح جناته، ورحم الله صاحب الترجمة الشيخ عبدالوهاب أبو ملحة على خيريته وعظيم سمعته الكريمة.
أبو ملحة في مولده ونسبه
- الأسرة والنسب
ينتسب (آل أبو ملحة) إلى مفلح بن علي أبو ملحة، وهم من الأسر المشهورة بشهران العريضة من قبيلة آل رشيد (آل مطير)، ويقطنون قرية الصمدة بخميس مشيط، ومنها انتقلوا فيما بعد لعرق أبو ملحة بخميس مشيط، ومازالت آثار مزارعهم ومنازلهم قائمة هناك إلى يومنا هذا.
- مولده ووفاته
في قرية الصمدة كان مولد عبدالوهاب أبو ملحة، وذلك سنة (1303هـ / 1885م)، أما عن وفاته يرحمه الله، ففي صباح يوم الأربعاء، وبعد صلاة الفجر، بتاريخ 2 / 11 / 1374هـ / 1954م، أدركته الوفاة، على واقع أزمة قلبية ألمّت به، وقد كان لواقع وفاته الأثر الكبير في قلوب عارفيه ومحبيه، وبخاصة الملك سعود، وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبدالعزيز، وسائر أفراد العائلة المالكة وكبار الوزراء والأعيان والعلماء، وقد تتالت برقيات العزاء فيه لأسرته الكريمة، كما نعته الصحف.
وختاماً، رحم الله الشيخ عبدالوهاب أبو ملحة، الذي يستحق كل خير، وتأتي هذه الصورة عنه في هذه الترجمة رسالة للخلف الكريم من أبناء هذه البلاد، في التعرف على سلفهم العظيم، من الذين كانوا خير عون للملك المؤسس عبدالعزيز في بناء الدولة، ورحم الله الجميع.

ذو صلة