محمـد بن دخيِّل.. القلمُ لا القضاء
محمد بن عبدالله السيف: الرياض
قريباً من منتصف الخمسينات الميلادية، شهدت السعودية انبعاثاً صحافياً من خلال إصدار عدد من الصحف الأسبوعية والمجلات الشهرية، وقد نهض بها عدد من الأدباء الرواد في عدد من المدن السعودية: جدة، ومكة المكرمة، والرياض، والمنطقة الشرقية.. وغيرها. ومثّل العِقد الممتد من عام 1954م إلى 1964م العصر الذهبي لما عُرف بـ(صحافة الأفراد)، قبل أن تتحول تلك الصحف والمجلات إلى مؤسسات صحافية. والباحث في تاريخ صحافة تلك الفترة وكُتابها يلفتُ انتباهه ويشده كاتبٌ من أبرز كتاب تلك الفترة، وإن كان اسمه غير معروف عند الأجيال المتأخرة، وهو الكاتب: محمد بن دخيّل، أو الأصمعي أو أبو تماضر، وقد اكتسب أهميته من خلال أمرين تبناهما في مسيرته الكتابية، وهما: أنه لم يحصر نفسه كاتباً في مجلة واحدة، بل غطّت مقالاته أغلب صحف ومجلات تلك الفترة، ثم إنه لم يتخصَّص كاتباً أو ناقداً في الأدب فقط، بل تنوعت اهتماماته وأطروحاته، ما بين الأدب إلى البلدانيات إلى هموم الوطن ومواطنيه، وغير ذلك.
مع الشيخ محمد بن جبير والدكتور سيد طنطاوي
المولد والنشأة
ولد محمد بن عبدالرحمن بن دخيّل في بلدة (ثرمداء) من إقليم الوشم في وسط نجد، وهو سليل أُسرة عريقة ممتدة بامتداد عراقة بلدة ثرمداء وأهميتها التاريخية في فترات زمنية سابقة، وأسرته متفرعة من أسرة اليوسف، من بني تميم. وكان مولده في حدود عام 1930م/ 1349هـ، فهو ينتمي إلى الجيل السعودي الذي ولد بُعيد معركة السبلة الشهيرة، آخر معارك التوحيد والتأسيس، الجيل الذي وعى وشاهد بدايات العمل التنموي الذي نهض به المليك المؤسس بعد عقود ثلاثة من العمل البطولي لتوحيد الدولة وتأسيسها.
ما إن بلغ الخامسة من عمره حتى دفع به والده إلى كُتَّاب القرية لدى المعلم حامد بن ناصر الحامد، الذي قرأ عليه القرآن الكريم وعلّمه القراءة والكتابة ومبادئ العلوم الدينية، كما قرأ واستمع لعدد من الكتب الدينية التأسيسية التي كان يقرؤها إمام جامع ثرمداء، سليمان بن عبدالله الماجد، والتي أفاد منها كثيراً في رحلته العلمية، التي ستطول كثيراً.
حينما بلغ العاشرة من عمره، فجعت والدته حصة العنقري بوفاة والده، مما ألقى بمسؤولية تربيته والاهتمام به على عاتقها، وما من حيلة آنذاك إلا التوجه إلى الرياض، مقر الحكم ومقصد الطامحين، إما بمواصلة العلم والتعلّم أو لكسب الرزق، لذلك يمّم وجهه شطر الرياض ضمن حملة سيارة يقودها عبدالله بن سعد الحجي، ليحط رحاله في رباط الإخوان بـ(دخنة) بالرياض، ضمن عدد من أبناء القرى النجدية، ممن بدؤوا بالوفود على هذا الرباط، ليحظوا بالتعلم على يد مفتي الديار وكبير علمائها الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وعلى يد أخيه عبداللطيف بن إبراهيم. وبعد أن نال من العلم الشرعي ما يؤهله لمواصلة دراسته في دار التوحيد بالطائف؛ شفع له الشيخ محمد بن إبراهيم بالالتحاق بهذه الدار/المدرسة، التي أسسها الملك عبدالعزيز لتضم أميز الطلبة وأنبههم من عدد من مدن المملكة ليتخرجوا فيها ويواصلوا مسيرتهم، إما بمزيد من العلم عبر كلية الشريعة أو بالعمل معلمين. وقد أثبت محمد بن دخيّل جدارته بهذه المدرسة، وبرهن على كفاءته، وكان لعدد من المعلمين فيها بتنوع جنسياتهم واهتماماتهم دور كبير في تعليمه وصقل موهبته الأدبية والكتابية، وتحبيب القراءة الحرة له، وبعد أن حصل منها على شهادة الكفاءة عاد إلى الرياض، والتحق بالمعهد العلمي، حديث النشأة في المدينة، وأتمَّ فيه سنته الأخيرة، وما إن تخرج فيه حتى فُتحت كلية الشريعة بالرياض، فالتحق فيها عام 1373هـ، الموافق 1953م، مواصلاً الدراسة في العلوم الشرعية والعربية على يد عدد من العلماء المميزين في تلك الفترة، منهم: الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ محمد عبدالرزاق حمزة، والشيخ عبدالرزاق عفيفي، والشيخ عبدالرحمن الإفريقي، والشيخ عبدالعزيز الناصر الرشيد.. وغيرهم.
في عام 1376هـ، الموافق 1956م، حصل الشيخ محمد بن دخيل على شهادة البكالوريوس في كلية الشريعة، ضمن أول دفعة تتخرج فيها، وكان ترتيبه الثامن على الدفعة. وكان من دفعته عدد من زملائه ممن شغلوا مناصبَ عليا في الحكومة أو في مجال القضاء، منهم: الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، الذي تولى وزارة العدل، والشيخ راشد بن خنين، المستشار بالديوان الملكي، والشيخ عبدالملك بن عمر آل الشيخ، عضو دار الإفتاء، والدكتور عبدالعزيز العبدالمنعم الأمين العام لهيئة كبار العلماء سابقاً، والشيخ عبدالله بن غديان، عضو هيئة كبار العلماء سابقاً.. وغيرهم.
فور تخرجه من كلية الشريعة، عيّن قاضياً إلا أنه رفض مباشرة العمل في القضاء، تعففاً وورعاً، مفضلاً العمل الإداري، وراغباً في التفرغ للأدب وللكتابة، رافعاً شعار (القلمُ لا القضاء)، لذلك عُيّن مفتشاً قضائياً في رئاسة القضاء في نجد والمنطقة الشرقية والحدود الشمالية، التي كانت برئاسة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، بأمرٍ من سماحته. ثم تدرَّجَ في الوظائف فعملَ مساعداً لرئيس التفتيش القضائي العام برئاسة القضاة، ثم قاضيَ تمييز. والملاحظ أنه طيلة عمله الإداري في القضاء أبقاه الشيخ محمد بن إبراهيم على سلك القضاة ومرتبهم، حتى تقاعد على مرتبة (قاضي تمييز)، رغم عدم ممارسته القضاء، تقديراً من الشيخ المفتي الأكبر أولاً، ثم من وزراء العدل ثانياً، لمكانة محمد بن دخيّل، وإجلالاً لقدره.
وأثناء عمله انتدبَ للتحقيق في القضايا والتفتيش على المحاكم، وإلى جانب ذلك شغل منصبَ وكيل وزارة العدل بالنيابة، وكان عضواً في المجلس الأعلى للأوقاف مندوباً عن وزارة العدل. ولم يكتفِ بشهادة الشريعة، وهو المنهمك بالعمل الإداري القضائي؛ فذهب إلى القاهرة عام 1962م، الموافق 1382هـ، والتحق في معهد الإدارة العامة، ليحوز على شهادة الشؤون الإدارية ضمن برنامج رؤساء الأقسام.
وقد أتاح له عمله في التفتيش على المحاكم والتحقيق في القضايا أن يزور عدداً وافراً من مدن المملكة، في شرقها وغربها، وشمالها وجنوبها، مما انعكس على مشاركاته الصحافية وتحقيقاته عن بعض المدن السعودية، مثل عالية نجد والمنطقة الشرقية.. وغيرهما.
كما أنه مثَّل المملكة في عددٍ من المؤتمرات العالمية والندوات العربية والإسلامية، مشاركاً فيها ضمن وفد وزارة العدل، واشترك مع خبراء الأنظمة واللوائح في دراسة الأنظمة واللوائح التي تُعرض على وزارة العدل في الدول الإسلامية أو العربية، كما مثّل الوزارة في أكثر من مؤتمر في كلٍّ من: الولايات المتحدة الأمريكية، وباكستان، والمغرب. وقد أكسبته هذه المؤتمرات والندوات خبرةً واسعة بأنظمة القضاء ولوائحه، سواء في السعودية أم في العالمين الإسلامي والعربي.
مع محمد متولي الشعراوي ووكيل وزارة العدل
القلمُ لا القضاء
منذ التحاقه بالوظيفة الحكومية، بدأ الكاتب محمد بن دخيّل بالكتابة الصحافية، وهي كتابة متنوعة في مضامينها، في الأدب مرةً، وفي التحقيقات الجغرافية عن بعض المدن والمواقع مرات، مثل تحقيقاته الجغرافية المميزة عن الوشم وبلدته (ثرمداء)، وعن إقليم السر وعالية نجد: الدوادمي ونفي والجمش، وتحقيقاته المطوّلة عن المنطقة الشرقية.
تجده أحياناً عارضاً ومناقشاً ومعرفاً بكتب تراثية أو كتب صدرت حديثاً، وبين هذا وذاك كان مهموماً في شؤون الوطن ومواطنيه، كاتباً اجتماعياً وناقداً لكثير من الظواهر، مقترحاً عدداً من الحلول، طارحاً كثيراً من الآراء النيرة والأفكار التي سبقت عصرها. ومما يُحمَد للكاتب محمد بن دخيّل أنه لم يحصر مقالاته وأفكاره وآراءه في صحيفة أو مجلة واحدة، بل عمل على نشرها في أوسع نطاق، فقد كتب في صحيفة (البلاد)، وهي أول صحيفة تنشر له بطلب وتشجيع من الأديب فؤاد شاكر، و(حراء)، و(اليمامة) و(الرائد) و(القصيم)، و(الندوة).. وغيرها.
وليس بوسعي أن أستعرض كلّ ما طرحه من أفكار وآراء؛ ولكني سأتوقف عند بعض مقترحاته وأفكاره فيما يخص الجانب التنموي والإداري الذي كانت تعيشه المملكة في تلك الفترة، مما يدل على متابعته لما يطرح في الشأن التنموي والإداري في بلدان أخرى للاستفادة منها ونقله إلى بلاده. وهي مقترحات ضمّنها زاوية أسماها (مشكلات في الطريق)، تناول فيها مشكلة التسوّل والمتسولين، وحركة المرور، ومشكلة مجاري مدينة الرياض، وقدَّم مقترحات في قطاعي الزراعة والنقل، والسجون والسجناء، ومقترحات أُخرى تخص قطاع النشر الصحافي والأدبي، ولم يُغفل جانب الكتاب والمكتبة، وهو المهموم بذلك، فقد طرح فكرةً لم يسبقه أحد إليها بشأن المكتبات الخاصة، وهو إنشاء مبنى يضمُّ شققاً تكون كل شقة فيها مكتبة لهذا الأديب أو ذاك، ممن رحلوا، ولتكون هذه المكتبات متاحة للجميع بما تضمه من نوادر ومخطوطات ووثائق.
لم يكتف بذلك، بل شملت آراؤه ومقترحاته القطاع الخاص، عن الشركات العاملة في التنمية والعمالة الوافدة، وطرح تساؤلات جريئة ومثيرة عن مصلحة العمل والعمال، التي هي نواة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية.
ومن أفكاره النيّرة مطالبته بإيجاد سجل للأوقاف العامة، وذلك قبل تأسيس وزارة الحج والأوقاف، وبعد تأسيس هذه الوزارة كتب مقترحاً بتوحيد مرجعية المساجد في المملكة لتكون من مهامها. أما فكرته بإنشاء (وزارة العدل)، التي طرحها عام 1962م، الموافق 1381هـ، فهي فكرة جريئة ومتقدمة، كيف لا تكون كذلك، والذي طرحها هو أحد المحسوبين على قطاع القضاء؟ وهو يعرف بكل تأكيد تلك الممانعة من قبل كثير من المشايخ ضد إنشاء وزارة خاصة بالعدل. وهي الوزارة التي تأسست عام 1970م، 1390هـ، أي بعد طرحه للفكرة بسنوات، وكان السلك المشايخي لا يستريح إلى مسمى وزارة العدل، لتقليديتهم، فهو اسم جديد عليهم، وكما هو معلوم فإن مسمى وزارة العدل هو مسمى جديد ومتبع في الدول التي تطبق القوانين الوضعية، فهم لا يتصورون إنفاذه في دولة تعمل بالشريعة الإسلامية.
مع عدد من أبنائه
ومثل ذلك فكرته المبكّرة جداً في تأسيس وزارة للشؤون الدينية، وهي الوزارة التي تأسست بعد أكثر من ثلاثين عاماً من اقتراحه!
وطيلة نشره لهذه الأفكار والمقالات الصحافية لم يكن كاتباً فحسب، بل كان يُمارس العمل الإداري الصحافي، ويُسهم بآرائه وأفكاره لتطوير الصحف والمجلات من خلال عمله ذاك، فقد كان عضواً في أسرة تحرير صحيفة (القصيم) الأسبوعية، التي ضمّت عدداً من مقالاته، وكان عضواً في أسرة تحرير مجلة (الجزيرة) الشهرية.
وكان من أهم هواياته القراءة والمطالعة في أمهات كتب التراث، وكان يعتني بكتب الأدب والشعر على نحو خاص، إذ كان ذواقةً للشعر العربي، يحفظُ أرقَّهُ وأعذبَه، وكان يحسنُ انتقاءَ القصائد من عيون الشعر العربي. وله طريقته المميزة في الإلقاء والإنشاد، وكان مجالسوه يعجبون من حضور بديهته فيما يستشهد به من فرائد. وكان يميل إلى شِعر البحتري، وحافظ إبراهيم، وخير الدِّين الزركلي، ويحفظُ أغلبَ ديوان البحتري.
كان سمحاً مطّلعاً واسع الأفق، وقد ساعدته ثقافته ومعرفته بالآداب ومطالعته لما يُطرح من أفكار وآراء على هذه السعة في التفكير، لذلك اختلف عن السلك الديني الذي يعمل به باطلاعه على التراث الأدبي العربي وعنايته به وتحليه بالإسلام العصري والإسلام المنفتح، وبالروح العربية.
مع أبي الحسن بني صدر رئيس جمهورية إيران سابقاً
ومن شواهد ذلك أنه كان يكتب أحياناً وفي وقت مبكر باسم (أبو تماضر) وتماضر هي ابنته الكبرى، التي درست في كلية الطب بجامعة الملك سعود في أولى سنوات افتتاحها، كما أنه سمّى ابنه البِكر (عزام) على الأديب عبدالوهاب عزام، وسمّى (جواد) تيمناً باسم جواد علي، صاحب كتاب «المفضّل في تاريخ العرب قبل الإسلام». ومن كان هذا شأنه فلا شك أنه لا يصلح للقضاء، وهذا ما أدركه هو بنفسه فور تخرجه من كلية الشريعة.
وكان قد تزوّج، بعد تخرجه في كلية الشريعة، بحصة بنت عبدالرحمن البراهيم، وقد رُزق منها بعدد من الأبناء والبنات، هم:
- تماضر، وهي طبيبة متخرجة ضمن الدفعة الثانية في كلية الطب بجامعة الملك سعود، وعملت أستاذة بالكلية نفسها.
- عزام، دكتوراه في الهندسة، وعمل في القطاع الخاص والعام، وتعيّن وزيراً للتعليم، ثم مستشاراً في الديوان الملكي.
- ليلى، دكتوراه في الآداب من جامعة نورة، وتعمل في الجامعة ذاتها.
- جواد، دكتوراه في النحو، عمل أستاذاً في كلية الآداب، وهو العالم اللغوي المعروف.
- نوار، مهتمة في العمل غير الربحي.
- عبدالرحمن، يعمل في قطاع التأمين.
- عبدالله.
وفاته:
توفي إلى رحمة الله في عام 1992م، الموافق 1412هـ، تاركاً سمعة عطرة وذكرى حسنة في قلوب محبيه وعارفيه، وله مؤلفان مخطوطان:
- الأول: نظرات نقدية في أمهات كتب التراث، في نحو 500 صفحة.
- والثاني: رحلة واسعة قام بها في 1/ 3/ 1383 هـ إلى معظم بلاد نجد، ومنها الوشم، وألَّف عن هذه الرحلة كتاباً في نحو 200 صفحة.