في إعلان لمنتج شهير تظهر الأم وهي تقلي (السمبوسة)، وفجأة تحترق سمبوسة واحدة، فتقرر الأم أنها ستكون من نصيبها وبقية السمبوسات الناجيات من الاحتراق ستكون من نصيب أولادها.
كنت أتساءل وقتها: لماذا لم تتخلص الأم من السمبوسة المحترقة؟ لماذا لم تتقاسمها مع أبنائها فينال كل منهم نصيبه منها؟ لماذا لم تضعها مع بقية السمبوسات الناجيات في طبق واحد لتأخذ طريقها في فم من سيلتقطها أولاً؟ والأهم لماذا اختار أصحاب المنتج هذا السيناريو بالذات؟
أتذكر وقتها رفعت الإعلان في حسابي عبر السناب شات، وطرحت التساؤلات ذاتها، وأدهشني كم الانتقادات التي وجهت لي إزاء هذا التصرف الطبيعي جداً -من وجهة نظر المتابعين- الذي لا بد أن يصدر من أي أم.
(السمبوسة المحترقة ليست من نصيبي ولن تكون)؛ كان التصريح بعبارة كهذه كفيلاً بتخيل ردود فعل المتابعين وقتها، كان علي استيعاب الهجوم الموجه لي إزاء حمولات ثقافية متراكمة عن صورة الأم، وتحمل التصريح بأي موقف مضاد يخلخل تلك الصورة القارة.
التنميط بوصفه وعياً زائفاً
إن الصورة النمطية لا تتخلق في لحظة مباغتة بل تتكرس عبر الزمن، بتكرار صورة معينة تجاه فئات اجتماعية أو دينية أو عرقية ما، في الخطابات مكتوبة كانت أم مرئية، فتتراكم تلك الحصيلة الصورية عبر الزمن، وتتضخم تضخماً مبالغاً فيه، لتتحول إلى صورة قارة في المتخيل تُسيّر مواقف الشخص على إثرها تجاه تلك الفئة من جهة، ومن جهة أخرى قد يتمثلها أفراد تلك الفئة ويحتكمون إليها دون وعي منهم.
التنميط قد يكون بتكريس صفات سلبية، وهو ما يتبادر إلى الذهن أولاً عند الحديث عن التنميط، وفي مقابل ذلك قد تتكون الصورة النمطية بتكريس صفاتٍ إيجابية تجاه فئة ما، وفي كلتا الحالتين يمكننا الحكم بأن التنميط فعل زائف بالضرورة، فالتعميم بزج كتلة بشرية ما في نسق ثقافي معين ممارسة مغلوطة تنحرف عن الواقع.
الأم المتوارية
تساهم الأفلام والمسلسلات في صنع قوالب نمطية عبر فعلي التكرار والتكريس، حيث يتكرر فعل ما من فئة اجتماعية ما في أكثر من عمل، ومن فعل التكرار إلى فعل التكريس تغدو الصورة ثابتة قارة في ذهن المتلقي.
من بين تلك الصور تبرز صورة الأم التي لم تتغير كثيراً مذ كنا صغاراً في المسلسلات والأفلام، تظهر الأم عادة في بيتها مكرسة جهدها لأبنائها وزوجها فحسب، المشاهد الخاصة بها تُصوَّر عادة في المطبخ، أو حول سفرة الطعام، أو في غرف النوم لتوقظهم صباحاً، ومشاهد خروج الأم من البيت في كثير من الأفلام والمسلسلات العربية تكاد لا تتجاوز الحديث مع الجارات والقريبات بشأن أبنائها ومشاكلهم. إنها دوماً تقلق بشأنهم وتدعو لهم، وتفعل أي شيء لأجلهم.
ربما تبادر إلى ذهنك عزيزي القارئ أسماء اللاتي شاركن في خلق تلك الصورة النمطية من مثل أمينة رزق، وفردوس محمد، وكريمة مختار، وحياة الفهد. فقد تكرر أداؤهن لمشاهد تبرز صورة الأم المضحية والصبور والمعطاء والأم الحزينة أيضاً. وربما تمثلت في رأسك صورة ذهنية معينة على المستوى الشكلي للباس ولغة الجسد وتعابير الوجه أيضاً، وظل المحتوى العربي يجتر هذه الصورة اجتراراً رغم مرور السنوات، وتغير الظروف الاجتماعية والثقافية للمرأة.
تجدر الإشارة إلى أن الصورة النمطية في هذا السياق تكرس الصفات الإيجابية المطلقة للأم في ظاهر الأمر، فهي الطيبة الحنون المضحية الخدوم، لكن لو تأملنا محصلة هذا التنميط فإنه ينتهك (أنا الأم) بوصفها وعياً مستقلاً بذاته ومعترفاً به، ويحولها إلى أنا مسخّرة للآخر الذي قد يكون زوجاً أو ابناً، والأفعال التي تصدر عنها إنما هي لخدمة هذا الآخر فحسب.
إنه لمن النادر أن نعثر على حكاية الأم الخاصة بها، كالحديث عن الضغط النفسي أو الجسدي الذي تشعر به في ظل هذه المسؤوليات والمهام على سبيل المثال، أو حكاياتها الخاصة مع الصديقات والقريبات بمعزل عن الحديث عن مشاكل الأبناء، والثرثرة عن العمل (بالنسبة إلى الأمهات العاملات) أو أي حكايات أخرى خاصة بها.
تقويض الصورة النمطية
في مقابل الصورة النمطية للأم -التي أشرنا إليها- تتسلل صور أخرى مضادة لها، نستحضر في هذا السياق أسماء مثل (يسرا) و(نيللي كريم) و(هند صبري) اللاتي أدين دور الأمهات بسيناريوهات تختلف عما ألفناه من تنميط لصورة الأم، حيث نجد في أفلامهن ومسلسلاتهن تمثيلاً للأم التي لها حكاياتها ومخاوفها وطموحاتها الخاصة بها، وفي الآن نفسه تعتني بأبنائها، فنجد حكاية الأم التي تقع في الحب، والأم التي تواجه تحديات في العمل، والأم التي ترغب في إكمال دراستها، والأم التي تخوض رحلتها مع المرض.
أصبح لـ(أنا الأم) كينونتها الخاصة، ولها وعيها المستقل المعترف به، ولم تتوارَ خلف (أنوات) أخرى -إن جاز التعبير- رغم أنها تقوم بالواجبات المنوطة بها إلا أن ذلك لا يتعارض مع وجودها المستقل ووعيها بذاتها واحتياجاتها ومخاوفها الخاصة أيضاً، غير أن هذه الصور تظل محدودة ومعدودة في المسلسلات والأفلام العربية، كما أنها تقدم بصورة صراع دائم تعيشه الأم، والكفة غالباً لواجباتها وحكاياتهم لا حكاياتها، ولم تتمكن هذه المحاولات بعد من تقويض المحصلة الصورية المتجذرة حول فعل الأمومة بوصفه فعل عطاء لا ينضب.
غير أننا إذا أمعنا النظر في المحتوى المرئي في وسائل التواصل الاجتماعي مثل السناب شات والتيك توك لألفينا تقويضاً ملحوظاً لهذه الصورة النمطية، حيث أصبحنا نشاهد الأمهات -في سياق اليومي الواقعي أو المحاكي للواقع- يستعرضن يومياتهن مع أطفالهن من جانب، ومن جانب آخر يستعرضن حكاياتهن الخاصة أيضاً. ولا يفهم من ذلك الحكم بإيجابية الخطاب في مجمله، وإنما ما يعنينا في هذا السياق استحضار الصورة الجديدة لـ(أنا الأم) في المشهد بوصفها أنا مستقلة لها حكاياتها الخاصة بها.
تهديد الصورة النمطية
تحد الصورة النمطية من فهم الآخر وتقصر دوره على سلوكيات معينة، وعندما تتصل بفعل الأمومة فإنها تهدد النساء بأكملهن أمهات كن أم غير أمهات، وتهديدها ينال الأبناء أيضاً.
تؤثر تلك الصورة في ثقة الأمهات بأنفسهن وتقديرهن لذواتهن، فهاجس الكمال والمثالية يترصدان بكل أم، ولا يخفى الضغط النفسي المتأتي من هذه الحمولات والتراكمات، وربما امتد ذلك إلى شعورها بالذنب وتأنيب الضمير الملازم عند صنع حكايات خاصة بها.
وفي ظل التغيرات الاجتماعية التي يمر بها المجتمع فإن كثيراً من الأمهات العاملات يواجهن ضغطاً نفسياً جراء الاحتكام إلى تلك الصورة النمطية من جانب، فضلاً عن الانتقادات التي قد توجه إليهن من الآخرين، مما قد يدفعهن إلى المبالغة أحياناً في الرعاية، وتحمل مسؤوليات إضافية، والضغط على أبنائهن دفاعاً عن الاتهام بالتقصير الذي قد يوجه إليهن صراحةً أو ضمناً.
وتخشى بعض النساء غير المتزوجات من خوض تجربة الأمومة، حيث تُعد الأمومة في نظر كثيرات منهن مرادفة لتغييب الذات والبقاء في الظل دوماً، ولعل ذلك يفسر حدة بعض الخطابات النسائية تجاه منظومة الأسرة والأبناء.
ويمتد تأثير هذه الصورة النمطية على الأبناء من الجنسين، حيث تتسلل صورة الأم المعطاء والمضحية والمسخرة طاقاتها كاملة للآخرين، وتتمثلها البنت/الأم المستقبلية والولد/زوج الأم المستقبلية وتستمر الدائرة في التناسل مرة أخرى مولدة النمط نفسه من الأمهات، وتجدر الإشارة إلى أن خرق الأم لهذه الصورة النمطية قد يوغر شيئاً في نفوس أبنائها الذين قولبوا صورة الأمومة في قالب معين، فضلاً عن الانتقادات المجتمعية التي قد توجه لها، والتبريرات التي عليها أن تصوغها في كل مرة.