تتجه الذات نحو صياغة الحقائق وفقاً لأيديولوجيتها، ومعها نحو تشكيل صور نمطية حول الآخر المختلف دينياً وعرقياً وحتى سياسياً واجتماعياً، في البداية كانت أسباب الصور النمطية التوجس والريبة والخوف من الآخر، فهو يمثل مساحة وجودية غامضة أو منطقة إدراكية معتمة ومضللة، لذلك ترسم له الذات صفات تبخيسية أو تعظيمية بحسب السياق ونوعية الآخر، ناهيك عن محاولة تنميط المضاد وتأطيره عجائبياً، حتى ليبدو عبارة عن صنعة خطابية أو لغوية تثير الإدهاش، وتعزز عملية التخييل، كما تجلى فيما أنتجه الغرب حول سحر الشرق هروباً من ماديته وبحثاً عن نوع من اليوتوبيا أو التعويض النفسي في عدد من المدونات الأدبية والفلسفية، لكن فيما بعد ونظراً لحالة الصراع التي عاشها العالم منذ فجر التاريخ، صارت الصورة النمطية وسيلة لاختراق الآخر وتسويغ انتهاكه والسيطرة عليه، إذ كثيراً ما تحاول كل مركزية تعزيز مكانتها عن طريق الاستحواذ الثقافي والمعرفي، وذلك بالترويج لهمجية الآخر وضلاله ووحشيته في مختلف المدونات الجغرافية والتاريخية والفلسفية والأدبية. وقد بين الناقد العراقي عبدالله إبراهيم ذلك، حينما درس تمثيلات الآخر وإسهامها في تعزيز المركزيات، سواء الإسلامية منها أو الغربية.
صياغة الحقيقة إذن ولأنها تخضع للأيديولوجيا تصبح عرضة للانتقاء والتحيز، ومادام العالم قائماً على التعارض فإن مقولات من قبيل التعارف والحوارية وقيم التسامح تتحول إلى شعارات وطوباويات، إذ مع التطور الحاصل ومع الثورة المعلوماتية صارت المعلومات على حسب ما ذكره الفيلسوف العراقي رسول محمد رسول رحمه الله (قوة في نفوذ الدول من ناحيتي المناورة السياسية واللعبة الاقتصادية، وقوة فائقة للتميز في حراك المجتمع المعلوماتي، وهو ما وفر مناخاً خصباً للتعارف المجتمعي، وفضاء للتعارف الثقافي والحضاري، وأرضية لرقمنة المخيال المؤدلج والسلوك المتطرف الذي وجد في الفضاء المعلوماتي ووسائله حقلاً يتوافر من خلاله أصحاب هذا السلوك على تحقيق ما يطمحون إليه في حدود العلاقة مع الآخر الذي يتواصل معه بعلاقة توتر). وهذه الأدلجة طالت كل أوجه الثقافة وزادت حدتها رغم كل دعاوي الحوار وإسقاط الحدود. فالرواية والإنتاج السينمائي والشعر وغيرها من الفنون، لم تبرأ من التمثيلات غير البريئة للآخر، وللغيرية مهما كان نوعها، وذلك باستخدام آليات مختلفة منها: الطمس، إعادة صياغة الحقيقة أو ما يمكن تسميته بالتعتيم، إساءة التمثيل أو ما يسمى بالاستقطاع، فعن الآلية الأولى أي الطمس يتم استخدامها في النتاجات الثقافية من خلال تغييب الحقائق تغييباً تاماً، والتعامل مع المعلومة وكأنها عدم، ما ينتج مساحات ذاكراتية مشوشة بل ومغمورة، وردم الحقائق وتغييبها، أما آلية إعادة صياغة الحقيقة فيتم استخدامها من خلال تعويض الواقع الموضوعي بمعادل حكائي مغاير تماماً من أجل تشويه صورة المختلف/ الآخر، هنا إذن تلغى كل الصور الإيجابية، وتقصى الحقائق كلياً، ويحل محلها نوع من اللامعرفة أو المعرفة المضللة، فالذات هنا تدرك ما للآخر من ميزات لكنها تتجاهلها، حتى لا تفسح المجال للغيريات المتجاورة أن تتعرف عليه وعلى عالمه، فتخلق بالتالي الشك والحيرة والتوجس والكراهية، لتتأدلج المعرفة ويتأدلج التاريخ. بينما آلية إساءة التمثيل فيتم الاحتفاظ ببعض أوجه الواقع الموضوعي لكن يحدث تشويش لصورة الآخر داخل الرواية أو المسرحية أو القصيدة أو الفيلم السينمائي. فالذات هنا تقوم بفصل الصور عن بعضها البعض أو عن سياقاتها، حيث يتم الاحتفاظ بالأجزاء المتخيلة/الكاذبة والمضللة التي تناسب الرغبة، وهنا يتم اتحاد الرغبة مع التخييل، فتنتج معرفة ناقصة بالآخر، لأنها تلغي أجزاء محددة من الصورة.
الكثير من النتاجات السينمائية والروايات صاغت صورة للعربي والخليجي على وجه الخصوص بصورة مؤدلجة، حيث تمت شيطنته وذلك بالتعويل على مرجعيات صياغة الحقائق: التخييل الذي أسهم في إنتاج صور نمطية تنتقص الآخر وتهمشه، لذا اعتمدت على الميول والأهواء، الرغبة أو المصلحة التي قدمت صوراً مضللة تعبيراً عن الرفض والعداء المطلق، فالعربي أو الخليجي هو المتوحش والمتخلف وزير النساء والشهواني والعدواني والإرهابي العميل الخائن الهمجي وصاحب الرذائل كلها، إذ يجب تطهير العالم منه وتصفيته، وفي أحسن الأحوال تعديل سلوكه وتغيير نمط تفكيره بما يوائم متطلبات العالم الغربي من أجل عالم أفضل تسوده قيم التسامح والحوار واحترام المغاير ظاهراً، والحفاظ على مراكز النفوذ والمصالح السياسية والاقتصادية باطناً.
يمكن القول إن المعاينة المباشرة تسهم في التخفيف من إنتاج الصور النمطية، إذ كلما تقلصت مساحة الغموض إزاء الآخر، زال الخوف منه، لذلك اتجهت الدول نحو تشجيع السياحة وتقديم التسهيلات القانونية من أجل استقطاب أكبر عدد ممكن من الزائرين، وهو ما ساعد على الاقتراب من الآخر والتعرف عليه وإزاحة كل الصور النمطية التي تم إنتاجها جهلاً أو خدمة لأيديولوجيا استعلائية تدنس المختلف وتؤكد على طهرانية الذات، هذا مع التأكيد على تبني قيم الحوار وتقبل الآخر في الخطاب الإعلامي والسياسي، والتخفف من النبرة الاستعلائية والتمجيدية التي تسفه الآخر وتحقره.