قديماً قال سقراط -الحكيم اليوناني- لمحدثه الذي ارتدى أحلى حلة واصطنع الهيبة بمرافقيه وحرسه: (تكلم لأراك). عبارة خلدها الزمن، قصيرة المبنى غزيرة المعنى، من دلالاتها الكثيرة أنه من الصعب تشكيل صورة مكتملة أو مقاربة للحقيقة عن شيء ما إذا لم تقترب منه وتعاينه وتحاول سبر أغواره، واستقصاء ما يخفيه، فالأشياء لا تكشف عن حقيقتها بسهولة، لا تكفي الصورة الظاهرة منها لمعرفتها، هناك دوماً شيء من الحقيقة يخفى على المشاهدة البسيطة، ومن ثم تعريف الفلسفة عند أفلاطون بأنها (البحث عن الحقائق الكامنة خلف الأشياء)، الأمر نفسه -غالباً بتعقيدات أكبر- حينما يتعلق الأمر بالأشخاص والمجتمعات، إذا حورنا إحدى مقولات أرسطو، فـ(أن تقول شيئاً ما عن شخص/مجتمع ما فأنت تقول شيئاً آخر غير حقيقة ذلك الشخص أو المجتمع)، ولكن للأسف الشديد، تستأنس الجماهير بتلك الصور النمطية والقوالب الجاهزة والتعميمات المتسرعة التي تريح عقولها بسهولة استيعابها، لأنها تصب في الغالب في بوتقة خدمة المصالح وإثبات التفوق على الآخر أو التنمر عليه وما شابه ذلك، كما أن النفس ميالة لما هو بسيط، مع أن الإبستيمولوجيا المعاصرة تعلمنا من خلال أحد روادها وهو غاستون باشلار أنه (لا يوجد شيء بسيط، البسيط هو ما نبسطه نحن).
أحد الجنود الفرنسيين في خمسينات القرن الماضي أرسل للخدمة العسكرية في دولة السنغال وكانت -كما كنا- مستعمرة فرنسية في ذلك الوقت، بعد تأدية واجبه الوطني عاد لبلده، وفي لقاء مع أصدقائه سألوه: (كيف وجدت سكان السنغال؟) فأجابهم بكل حماسة وبنبرة المستاء المتذمر، (إنهم حيوانات متوحشة، مستعدون لأكل لحوم البشر)، أثار الجواب غير المتوقع انتباه المستمعين واهتمامهم بالاستزادة، فطلبوا من محدثهم التوضيح أكثر، فقال شارحاً وموضحاً: (حينما كنت أهم بذبح أحدهم كان يحاول بكل قوته أن يلتهم يدي)، والمثل الشعبي الفرنسي يقول: (أحسن كاذب هو الذي يأتي من مكان بعيد)، إذ يصعب إثبات كذبه. قد لا تكون القصة حقيقية، لكن هناك الكثير من الصور والتعميمات والتضليلات التي تصنع بهذه الطريقة، ويسير الناس للأسف الشديد على هديها دون أي محاولة لاختبار صحتها أو أدنى تساؤل حول صدقها، خصوصاً ونحن نعيش عصر قوة المعلومة والصورة وقدرتهما الرهيبة على اختراق الآفاق وبلوغ أقصى الأرض وأدناها في أقل وقت ممكن، فالتكنولوجيا ومن خلال وسائط التواصل الاجتماعي توفر أيسر الطرق لنشر المعلومة صحيحة كانت أو غير صحيحة.
اعتبر غاستون باشلار التعميم المتسرع أحد العوائق الإبستيمولوجية التي تسد طريق الباحث عن الحقيقة، وكان ابن خلدون قد سبقه حين نبه أثناء رصده لأسباب الغلط عند المؤرخين إلى (سهولة التجاوز على اللسان حين يتعلق الأمر بالأعداد في الأموال والعساكر..).
قد يكون الأمر عادياً -وهو سائر في كل الأمم- حين يتعلق بتعميمات وقوالب عفوية تعتاش عليها الجماهير في خطاباتها ويومياتها دون أن تمس خصوصيات الأشخاص والمجتمعات، ولكن الأمر يصبح خطيراً حين يتم فبركة هذه الصور النمطية بصورة دقيقة في مختبرات سرية، ويتم دعم انتشارها والترويج لها بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، لتحقيق المراد منها، وهو في الغالب زيادة هيمنة القوي على الضعيف، بتحقيره أو الانتقاص منه، أو السعي لتقسيمه وتفتيته حتى يسهل القضاء عليه. والأدهى والأمر كما يقال حين ينجح القوي في جعل الكثير من المستضعفين يعتقدون صحة هذه القوالب والكليشيهات فيدعمونه في أهدافه ويسهلون مهمته، (كشاة تتلذذ حين يأكلها الذئب).
معطيات الراهن بحمولتها الإعلامية والتكنولوجية تؤكد سهولة انتشار الصور النمطية وزيادة استغلالها في أساليب الهيمنة على الأفراد والشعوب، ولا سبيل لمقاومتها والتصدي لها إلا بمثلها، فـ(الحديد بالحديد يصهر)، الفكرة لا تواجه إلا بفكرة أقوى وأدق منها، والصورة لا تقاوم إلا بصورة مضادة فاضحة وكاشفة لبطلان الأولى وخطئها، وهنا تبرز مكانة الفلسفة لا كأنساق معرفية فقط، ولكن كطريقة ومنهج، كآليات للبحث عن الحقيقة والدفاع عنها وحراسة المعنى، الشك ونزع البداهة والنقد والبرهنة والحجاج وغيرها أدوات ضرورية لفضح التعميمات الباطلة وكشف الحجج الواهية الفاسدة، وفضح إرادات الهيمنة القابعة خلف الوافد من الأفكار والصور، فمن لم يشك لم ينظر كما قال الغزالي، و(من لم ينظر لم يبصر وسيبقى في العمى والتيه)، والشك يفتح المجال لانبثاق السؤال والسؤال هو البداية الصحيحة للبحث الناجح في مقاربة الحقيقة، وأصعب الأمور بدايتها، والنقد في معانيه القديمة فرز للنقود وتمييز العملة الصحيحة من المزيفة، وليس بعيداً عن ذلك البحث عن الصورة الحقيقية وسط ركام الصور المشوهة المزيفة، أما البرهنة والحجاج فهما سبيل الكشف عن فساد حجج الآخر، وتكريس اليقين الداحض لكل زيف، وهو المراد من قبل كل نفس سوية.