مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

أثر الترجمة في تشكيل الصورة النمطية

تشير الصورة النمطية في أبسط دلالاتها إلى التعميم المسبق على جماعة، أو مجتمع، أو ثقافة، ويتحول مثل هذا التعميم إلى أفكار ثابتة، وأحكام مطلقة يصعب تغييرها بمرور الزمن، وهنا تكمن المشكلة، وحينها تكون هذه الصورة عدسة نرى بها الآخرين، وقد تتخذ اتجاهاً إيجابياً، لكنها لا تخلو من السلبية.
وحضور هذه الصورة ليس بعيداً عن حياتنا اليومية، فهناك صورة نمطية للمرأة، وأخرى للرجل، وثالثة للعربي، والخليجي، والسعودي، والغربي، وتعزز هذه الصورة في الواقع، وضمن الكتب الأدبية، وفي الدراما، والإعلانات التجارية، والسينما، وغيرها من المنافذ الأخرى.
ولعل منطقة الخليج خاصة ترتبط بعدد من الصور النمطية العائدة إلى طبيعة المعيشة، وربطها بالرفاهية، وكثرة الأموال، وعادات وتقاليد معينة، ولا يمكن أن نغفل أثر بعض النصوص الأدبية الخليجية التي أسهمت في تكوين هذه الصورة النمطية عندما بدأت تدور في فلك القضايا والموضوعات نفسها، وسعت نحو الكتابة عن الموضوعات الجدلية، دون الالتفات إلى التفاصيل الصغيرة داخل هذا الركام الذي يعد بالتنوع والدهشة، ويكسر هذه الصور النمطية، ويخفف من تأثيرها على الآخر.
وكلما ابتعد الآخر عن التأثر بالصورة الثقافية الجماعية، تمكن من استخلاص صور مختلفة عن الآخر الذي يقابله، ونقد ما يشوه بعض الصور لأسباب مختلفة تحول دون الحكم على الآخر بموضوعية أكثر، لاسيما أنه لا يمكن الحكم بثبات الصورة، إذ تتغير بتغير الظروف السياسية، والاجتماعية، والثقافية، عوضاً عن تغير الإنسان نفسه.
وتندرج دراسة هذه الظاهرة أدبياً ونقدياً تحت ما يعرف بالصورة الأدبية أو (الصورولوجيا) التي تنفتح على الآخر، وهي من مباحث الأدب المقارن التي تهتم بالصورة الثقافية التي تكونها الشعوب عن بعضها البعض (عبدالنبي ذاكر، الصورة، الأنا، الآخر، ص26)، وامتدت إلى دراسات ما بعد الاستعمار كما تجلت عند إدوارد سعيد الذي رصد اهتمام المستشرقين باستكشاف الشرق الذي مازال في نظرهم غريباً، ويحتاج إلى مزيد من الكشف (الاستشراق، ص432) مع ما يحمله هذا الاهتمام من صور مسبقة انطلق بعضهم منها.
ويميز الدارسون بين الصورة النمطية الأدبية والصورة النمطية العامة، فالصورة الأدبية غير ثابتة، ويمكن أن تتبدل وتتجدد وتتغير، أما النمطية فهي ثابتة لا تتغير كثيراً، وترتبط غالباً بعلاقات السيطرة والتبعية، والصراعات الاجتماعية، وعوامل القوة والضعف، فمن يضع الصورة، ويحدد سماتها هم من يمتلكون السلطة والقوة الاجتماعية (زهرة مزوني، دراسة الصورة في الأدب المقارن، ص80)، وقد تكون الصورة الأدبية انعكاساً للصورة النمطية العامة.
وتحضر الصورة النمطية بوضوح في العلاقة بين الثقافات، إذ إن ما تقترحه ثقافة ما في علاقتها بالثقافة الأخرى، قد يسهم في تعزيز هذه الصورة، والتمسك بها مستقبلاً، إذا ما رمنا النظر إلى هذا الحضور في فعل (الترجمة) خاصة، فلها أثرها في تشكيل هذه الصورة النمطية عن الآخر المترجم له، إضافة إلى أهميتها في إحداث التبادل الثقافي، وتقريب المفاهيم، وهنا يكون التعامل مع النص المترجم تحدياً لافتاً، فهل يذهب الآخر إلى التخلي عن الصورة النمطية التي يحملها عن ثقافة ما، ويعتمد على قناعاته الذاتية، ومشاعره الفردية تجاه منتجي النصوص الأدبية ضمن هذه الثقافة؟ أم أنه سيأتي محملاً بهذه الصورة، وينطلق منها؟
ويمكن النظر إلى الترجمة من العربية في إطار الهيمنة على الآخر لاسيما مع ترسخ فكرة التفوق الأوروبي على التخلف الشرقي كما تناولها إدوارد سعيد (الاستشراق، ص51). ولعل ظهور هذه الصورة النمطية يبين الاختلاف بين (الاستشراق) أو (الاستعراب) أو الترجمة للآخر التي تخدم جوانب أخرى لا أدبية، وتلك التي تقوم على جانب إبداعي بحت، فالأول سيسعى سعياً حثيثاً نحو تكريس هذه الصورة، بينما يتخفف منها الثاني، لكن هل سينجو منها تماماً؟ لاسيما أن الآخر يركز عادة على الصور النمطية التي تؤثر في المنتسبين إليه.
والترجمة الثقافية ترى في الترجمة فعلاً إبداعياً، لا يتعلق بنقل نص من لغة إلى أخرى، وإنما في تشكيل نص يتماثل مع النص المترجم، ويختلف عنه في الوقت نفسه، مع نقله لحمولات النص الثقافية (حصة المفرح، تشكيل العتبات بين ثقافتين، ص43) وإعادة قراءة النص المترجم، ورصد دلالاته الثقافية الجديدة وفقاً للتغيرات الحاصلة عند الترجمة، إذ تصنع للنصوص فضاءات جديدة لها أبعادها: الفنية، والدلالية، والتداولية، والثقافية عموماً، وقد تنقل ما تكون عنها من صور نمطية، وما تريد التعرف عليه خارج إطار هذه الصورة، مما يحتم اختلاف مظلة التلقي.
كما أن الترجمة تؤسس لثلاثية ثقافية جديدة لاسيما حين ينتمي المترجم إلى الثقافة الأخرى المترجمة لا المترجم عنها، فالمنتمي للثقافة حين يترجم عنها ينتقي ما يحقق أهدافه، وكذلك الثقافة الأخرى حين تترجم لغيرها تذهب إلى أهداف أخرى، وهذه الثلاثية تشمل: المترجم، دار النشر، القارئ، وهؤلاء الثلاثة يصدرون عن سياق ثقافي واحد يختلف عن السياق الثقافي العربي الذي أنتج الكتاب بمؤلفه، وناشره، ثم قارئه.
وإذا كانت ترجمة النصوص العلمية يمكن أن تكون محايدة لاعتمادها على نظريات وحقائق علمية، فإن الترجمة الإبداعية (الأدبية) من الصعب أن نضمن فيها هذا الحياد، ولا مطابقة النص الأصل، وهي الأكثر صعوبة، لما تستلزمه من استحضار التجربة الكتابية الأصلية بانفعالاتها، ورؤاها المختلفة، ودلالاتها الظاهرة والخفية، لذا تأتي دراسة الترجمة الأدبية بوصفها علاقة تبادل بين ثقافتين أو أكثر، وهو ما تركز عليه الدراسات الترجمية بوصفها من أهم الدراسات الأدبية المقارنة، مع ما تحتمله هذه الترجمة من حضور مؤشرات غير أدبية تحكمها سياسات معينة، تتعلق بمناسبة الذوق للثقافة الأخرى، أو تحقيق غايات معينة لها، أو تقديم النص بطريقة فهم مختلفة. كما أن المترجمين، ودور النشر، والمؤسسات الثقافية التي تحدد السياسة الثقافية لدولة ما تنتمي للآخر، تبحث عادة عن النصوص الأدبية العربية التي تلبي حاجة الثقافة المتلقية (المفرح، تشكيل العتبات، ص43).
وبعد، تظل الترجمة من أهم المؤثرات في تشكيل الصور النمطية عن الآخر، والثقافة الأخرى، وإن تبعتها مؤثرات أخرى، ترتبط بالواقع حيناً، وبالنصوص التخيلية حيناً آخر.

ذو صلة