مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

هيمنة الصور النمطية في العلاقات الاجتماعية

التنميط بأبسط معانيه هو تعميم غير دقيق، يتسم بالتبسيط المفرط حول جماعة من الجماعات. وقد تكون هذه التعميمات المفرطة مبنية على أساس سلوك شخص معين، أو مجموعة من الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه الجماعة. ومع ذلك فإن الفرد يدرك أعضاء هذه الجماعة جميعهم، كأنهم كل واحد، متغاضياً أو مهملاً الفروق بينهم. وهكذا تقوم عملية التنميط، كعملية معرفية، بزج الآخرين، وحشرهم في قالب أو إطار معين، بناء على بعض الحقائق التي نعرفها عنهم، أو بسبب مرورنا بتجربة سطحية، أو عابرة مع بعضهم. وفي أحيان كثيرة، تتم هذه العملية بدون هذا كله، فنأخذ الصور النمطية عن الآخرين (جاهزة) من أسرنا، أو من الأصدقاء، أو من الجماعة التي ننتمي إليها، أو من وسائل الإعلام، أو من ثقافة المجتمع الذي نعيش فيه.
التنميط والتعصب
ليس كل تعميم مفرط، يعدّ تعصباً، فبعض التعميمات عن الآخرين، هي ببساطة إدراكات أو أحكام أو معلومات خاطئة عنهم، فإذا قام الفرد بتصحيحها في ضوء دلائل ومعلومات منطقية جديدة يحصل عليها عنهم، فإنه لا يعدّ في هذه الحالة شخصاً متعصباً. لكنه يكون كذلك، إذا لم تتغير أحكامه في ظل ظهور هذه المعلومات الجديدة، وبقي ينظر إليهم، ويتعامل معهم، بالطريقة السابقة. ففي هذه الحالة، تعدّ الصور النمطية أحد أهم مظاهر التعصب التي يفصح الفرد فيها عن مدى كراهيته للآخرين المنمطين. وفي الحقيقة، يتفاوت تعصب الفرد والجماعة المتعصبة، المرتكز على الصور النمطية في شدة تأثيره على (الآخرين المنمطين)، ويأخذ بذلك أشكالاًعديدة. فهو في أبسط مظاهره، يكون على المستوى الإدراكي للفرد، ولا يترجم إلى سلوك فعلي ضد الآخرين المنمّطين، ثم تشتد خطورته، لتأخذ مظهراً أعلى في شدته على الآخرين المنمطين، حيث يتمظهر بشكل النكات والتندّر على بعض الأفراد والجماعات المنمّطة، كتلك التي تروى على أهالي بعض القرى في مجتمعنا العربي، أو أحد القطاعات الاجتماعية فيه (كنكات البدو على أهل المدن، ونكات أهل المدن على البدو وأهل الأرياف). ثم يشتد التعصب حدة ليتمظهر بشكل أكثر حدّة، وهو العنف اللغوي الذي ينصب على الجماعة المنمّطة، كسبّها وشتمها وتقريعها وتحقيرها. ثم يصل التعصب المرتكز على التنميط ذروته في الشدة، فيتمظهر في شكل العدوان البدني، حيث يتم الاعتداء الجسدي في هذه الحالة على الأفراد والجماعات المنمّطة بطرق مختلفة كالقتل والتطهير العرقي والإثني والطائفي، والحروب الدموية. والتاريخ القديم والمعاصر يعج بالأمثلة على كيف قادت الصور النمطية التي تحملها جماعة متعصبة، عن جماعة أخرى إلى حروب طاحنة، وصراعات مدمرة، كتلك التي حصلت بين الشرق العربي المسلم، والغرب غير المسلم في القرون الوسطى، وعرفت بحروب (الفرنجة)، أو ما تم التعارف عليه خطأ (الحروب الصليبية)، وما حصل كذلك في (رواندا) الأفريقية في تسعينات القرن الماضي.
وقد تتبع الباحث حلمي ساري في عمل له في هذا المجال، طبيعة الصور النمطية التي كان يحملها الغرب عن العرب وعن الإسلام أثناء ما كان يسمى (الحروب الصليبية)، وحاول تحديد المنابع التي استقت منها تلك الصور مادتها، فوجد أنها كانت مشوهة، وانتقاصية بحق العرب والإسلام، وتعكس مدى التعصب بحق عرقهم وعقيدتهم وثقافتهم. ووجد أيضاً أن وسائل الإعلام الغربية، وبخاصة البريطانية، كانت قد استمدت صورها النمطية المعاصرة من مصادر عدة، أهمها الرحالة والمستشرقون، وهذا ما أكده المفكر الكبير إدوارد سعيد في عملة الفذ (الاستشراق).
لماذا ننمط؟
تعدّ عملية تصنيع الصور النمطية عملية معقدة للغاية، يتداخل فيها البيولوجي والنفسي والاجتماعي. فعلى المستوى البيولوجي، يعدّ التنميط آلية من آليات عمل الدماغ بهدف الاقتصاد المعرفي، وذلك بتصنيف المعلومات والجماعات والأشياء، وتبسيطها وتعميمها من أجل تسهيل تعامل الفرد معها، بناء على أوجه التشابه الواضحة التي تميزها عن غيرها. وبعد ذلك، يقوم الدماغ بعملية عنونتها ووسمها، ثم تعميمها على الجماعات أو الأشياء أو الموضوعات، متغاضياً عن الفروق والاختلافات بينها. وأما على المستوى النفسي، فالتنميط يعكس رغبة الفرد في فهم المجهول، واستجلاء الغامض في بيئته، بهدف تسهيل التعامل معه بأمان. وأما على المستوى الاجتماعي، فيمكن فهم عملية التنميط في ضوء فهم ديناميات عمل الجماعات، وفهم طبيعة العلاقات بينها، وفي هذا الصدد، يعزو هنري تاجفل، أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة بريستول في بريطانيا في الثمانينات؛ أسباب لجوء الفرد والجماعات إلى التنميط إلى عوامل نفسية واجتماعية عديدة، في مقدمتها تبرير ما تقوم به الجماعات المتعصبة من ممارسات عنيفة وعدائية واستغلالية، ضد الجماعات المنمّطة.
مخاطر الصور النمطية وسبل مقاومتها
توجه الصور النمطية سلوك الأفراد والجماعات، وطرق تفاعلها، كما أنها تبرر في كثير من الحالات ممارسة التعصب نحو بعض الجماعات في المجتمع. وتعمل هذه الصور كذلك، على ترسيخ اللامساواة الاجتماعية بأشكالها المختلفة إزاء الجماعات المنمّطة، وتبرر العنف والعدون نحوها، كما تعمل الصور النمطية على تهديد السلم والاستقرار المجتمعي، وتفتيت التماسك الاجتماعي. وهناك خطورة أخرى فادحة لهذه الصور، حيث تعمل على إعاقة التنمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المجتمع، إذ تعمل على إقصاء شريحة أو شرائح اجتماعية معينة من شرائح المجتمع بذريعة عجزها، وعدم قدرتها على الإنتاج والعمل وممارسة السياسة لخلل في بنيتها العقلية، قصور في تفكيرها وذكائها وقدراتها. ومع ذلك كله، يمكن التقليل من هذه الخطورة على العلاقات الاجتماعية، وهنا يمكن القول بدرجة عالية من الثقة، إن التفاعل والتواصل الاجتماعي بأشكاله المختلفة بين الناس (كالتزاوج بين الجماعات المختلفة، والتجاور في السكن بينها، واختلاط التعليم، والسفر، والرحلات الجماعية..إلخ)؛ من أهم الطرق الناجعة التي تحد من هذه الخطورة، بسبب إتاحة الفرصة أمام الأفراد، لإعادة نظرهم في الصور الجائرة والمجحفة بحق الآخرين، ودفعهم إلى تمحيصها واكتشاف زيفها.
وفي الختام، يجب التشديد على ضرورة الاستخدام السليم والمفيد لشبكات التواصل الاجتماعي المختلفة للحد من سطوة الصور النمطية، وفداحة تأثيرها على العلاقات الاجتماعية. وهنا أحث القراء الكرام جميعهم ممن يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي الحديثة، على ضرورة استخدام الفضاء العام المفتوح، الذي تتيحه لهم هذه الشبكات في تعزيز التضامن الاجتماعي، وتعميق الانسجام والتوافق بين مكونات المجتمع الواحد، وترسيخ السلم والاستقرار المجتمعي، وليس في الترويج لصورهم النمطية الجائرة التي تقلل من قدر الآخرين، وتسيء إلى كرامتهم الشخصية وهويتهم الوطنية.

ذو صلة