الصور النمطية جزء من الحياة الإنسانية المعاصرة، نتعامل مع المحيطين بنا على أساسها، نكوّن المعتقدات، نشكّل الاتجاهات، بل نتخذ الكثير من السلوكيات بناء عليها ومتأثرين بها. هي الصورة النمطية التي تشكلت في أذهاننا عن الأفراد، والجماعات، والأعراق، بل عن الدول والثقافات. وقد تشكلت هذه الصورة (محددة الملامح) في أذهاننا دون أن ندرك متى أو كيف حدث هذا، ومع ذلك نعتقد في صحتها، بل تبقى دائماً حاضرة في مختلف المواقف التي نمر بها.
ماري منيب والتنميط بالكوميديا
من منا لم يتأثر بشخصية الحماة المتسلطة التي قدمتها الفنانة مصرية الهوى لبنانية المولد الراحلة ماري منيب، عبر عدد من الأفلام الكلاسيكية، بدأتها بحماتي قنبلة ذرية (1951)، الحموات الفاتنات (1953)، وحماتي ملاك (1959)؛ فمن خلال مواقف كوميدية راسخة في أذهاننا تكونت لدينا (صورة نمطية) للحماة، فهي: المتسلطة، المزعجة، المثيرة للمشاكل، الشريرة أحياناً، أو كما نقول في لغتنا المصرية الدارجة (خرابة البيوت). وعلى الرغم من مرور ما يزيد عن سبعة عقود على إنتاج هذه الأفلام؛ مازلنا نتذكر هذه الصورة وملامحها السلبية كلما ذكر أمامنا لفظ (الحماة)، حتى أضحت هذه الصورة مرادفاً للحماة لدى الفتيات من مختلف الطبقات الاجتماعية والاقتصادية، سواء من الريف أو الحضر، فهي صورة حاضرة في الأذهان مرشدة للتصرفات، حتى يثبت العكس!
الصورة النمطية
يعد مصطلح الصورة النمطية مصطلحاً قديماً قدم الحياة الإنسانية ذاتها، ولم يظهر كما يتصور الكثيرون مع نشأة وسائل الإعلام. والمراجع للكتب يلحظ وجود عدد كبير من التعريفات للمصطلح، لعل أقدمها ذلك الذي صكه عالم الرأي العالم الشهير والتر ليبمان (1922) بأنها (صورة ذهنية مبسطة للغاية تختزل الواقع وتؤدي إلى فهم مشوه للأفراد أو المجموعات). وعلى مدى عقود قدمت تعريفات أخرى للصورة النمطية ترتكز جميعها على مفهوم (التعميم والتنميط والانطباع الراسخ)، والذي يتم عبر ربط مجموعة صفات بمفهوم محدد، وتكرار هذا الربط يغرس في الأذهان -ودون أن ندرك- هذه الصورة، وبمرور الوقت تصبح هذه التصورات النمطية مقبولة لدى الأفراد، بل ذائعة الانتشار. فمصر ظلت عند الكثير من الأوروبيين هي الصحراء والجمال فقط، لأن هذه الصورة هي التي تروج لها عبر الأفلام الغربية، مثلها مثل المرأة الجميلة والتي بالضرورة تكون شقراء، واليهودي وهو شخص بخيل، والإرهابي ويكون دوماً مسلماً ولديه لحية، أما الأمريكي فهو البطل المبدع الديمقراطي المتفوق على أقرانه.. وكلها تصورات خاطئة تماماً لكنها مصدقة!
أسباب تكريس الصور النمطية
قديماً، أوضح ليبمان أن المغزى من تشكيل الصور النمطية كونها (وسيلة لتبسيط التعقيد الاجتماعي)، الأمر الذي أثبتته إحدى الدراسات العلمية الحديثة التي أشارت إلى أن طبيعة الإنسان تميل إلى أنه (بخيل معرفياً)، لذلك تساعده القوالب الجاهزة والصور النمطية على التعامل مع المحيطين بشكل أيسر ودون الحاجة لبذل مزيد من الجهد في التفكير. أما بلومر (1969) فيرى أنها لتحديد وتوضيح الفروق بين (نحن) و(هم)، أي لتعزيز الفوارق بين الجماعات، وهو رأى له وجاهته أذا ما تابعنا صورة العربي في مقابل البطل الأمريكي في الأفلام الغربية، فميل الإنسان إلى الشعور بالأفضلية يجعله يكرس للصور النمطية التي تجعل: بلدي أفضل، طبقتي الاجتماعية أعلى، لوني أجمل، نوعي الاجتماعي أكثر تميزاً، بل إن رأيي أكثر منطقية من آراء غيري! وأشار تروبي وراند (1996) إلى أن هذه الصور النمطية مفيدة في اتخاذ قرارات سريعة، لكنها قد تؤدي إلى نتائج غير عادلة أو غير دقيقة. فالكثير من السلوكيات العدائية والتي قد تصل إلى حد النزاع ارتبطت بالصورة النمطية السائدة لدى الأفراد. كما أشار عالم النفس الأمريكي ديفيد شايدر أن المعتقدات المتشكلة لدى الأفراد في شكل صورة نمطية نحو جماعة عرقية معينة؛ تؤثر على طبيعة اتجاهات الأفراد، وتدفع سلوكياتهم نحو هذه الجماعة، وتكمن خطورة ذلك في ميلها نحو السلبية.
العربي في السينما الأمريكية
على الرغم من وجود عوامل اجتماعية متنوعة تشكل الصور النمطية، بدءاً بعملية التنشئة الاجتماعية، والمؤسسات التعليمية والدينية التي يتردد عليها الفرد، تبقى وسائل الإعلام لها القوة الأكبر في تشكيل ونشر الصور النمطية، بل إن ظاهرة التنميط ارتبطت بظهور وسائل الإعلام التقليدية، وازدادت سطوتها مع انتشار المنصات الاجتماعية.
وعبر تحليل مضمون حوالي ألف فيلم أمريكي قدموا في أحداثها شخصيات عربية، توصل جاك شاهين في كتابه (العرب الأشرار) في السينما أن اثني عشر فيلماً فقط قدمت صوراً إيجابية للعرب! في حين ظهر العرب في باقي الأفلام بصورة سلبية، وإن اختلفت طبيعة هذه الصور ما بين: الهمجي والسارق والشهواني المعجب بالأوروبيات والسلبي والقاتل.
كشخص عربي في السينما الغربية والأمريكية تحديداً: أنت إنسان غير صالح، همجي، إرهابي، عنيف وقاتل، بربري ومتوحش، ومتأخر حضارياً وأحمق في الكثير من الأحيان، ولا تختلف الصفات باختلاف النوع رجلاً كان أو امرأة أو حتى طفل.
وبنظرة تاريخية، نلحظ أن هذه الصفات تعود إلى المستشرقين الأوروبيين وكتاباتهم عن العرب، والتي رسخت هذا الصفات عن العربي الذي يحيا في الصحراء، حيث رعي الغنم والجمال والجواري يرقصن حول الأمير والعبيد ذوي البشرة السوداء يخدمونه، وتقوم الحياة على الكر والفر، حتى إن منظر السيوف الملطخة بالدماء هو أمر اعتيادي، فالعربي قاتل وهمجي، ويبدو أن المخرجين الأوروبيين قد توارثوا هذه الصورة النمطية ووظفوها في أفلامهم، فمنذ أفلام حقبة عشرينات القرن الماضي وهذه هي ملامح صورة العربي، والغريب أنها استمرت وازدادت الصفات السلبية وتنوعت على مدى قرن كامل. فشخصية الشيخ العربي التي ظهرت في فيلم عام 1921 The Shiekh لم تختلف كثيراً عن صورة الثري العربي الذي سعى لشراء فتاة أمريكية شقراء جميلة لتكون جاريته في فيلم Taken2 والذي تم إنتاجه عام 2014، فكلاهما العربي الثري المهووس بالشقراوات!
في مقابل البطل الأمريكي الذي ينقذ ابنته ويقتل الثري العربي البربري، لينزل تتر النهاية بفوز البطل وتصفق القاعة! وتستمر الصورة النمطية السلبية للعربي مقابل الأمريكي البطل.
الصورة النمطية للمرأة العربية
قد يتساءل البعض: هل كانت المرأة العربية بمنأى عن الصور النمطية السلبية في السينما الأمريكية؟ والإجابة الصادمة: بالطبع لا، لم تكن المرأة العربية بعيدة عن التنميط في السينما الأمريكية، والأدلة عديدة، فالمرأة العربية ذات الملامح الشرقية هي راقصة في الكثير من الأحيان، أو واحدة من حريم الملك تسعى لتلبية رغباته الماجنة، وهي أحياناً ربة المنزل الساذجة قليلة الحيلة والذكاء كما ظهرت في أفلام مثل: (1957) Looking for danger، وفيلم (1985)The Young Sherlock Holmes
ومع السنين تغيرت هذه الصور لتظهر المرأة في صورة الإرهابية القاتلة للأبرياء تماماً مثل الرجل العربي في أفلام عدة مثل: Never Say Never again (1983)، Death before dishonor (1987 وغيرها من الأفلام.
ويبقى الأمريكي هو البطل
هذه الصورة النمطية السلبية لم يختص بها العرب وحدهم، بل امتدت لجنسيات وأعراق أخرى كالأفلام الأمريكية التي تمجد البطل الأبيض، وتثبت تفوقه على الأسود كجزء من موروثات الثقافة الأمريكية التي لا يمكن إنكارها، كذلك شهدت فترة الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي إنتاج كم ضخم من أفلام السينما، والدراما الأمريكية قدّمت العديد من الصور النمطية عن السوفيت، خصوصاً خلال فترة الحرب الباردة، هذه الأفلام كانت تعكس توترات سياسية وتوجهات اجتماعية، وغالباً ما صورت السوفيت كشخصيات شريرة، باردة ومتآمرة. خذ على سبيل المثال فيلم (1984) Red Dawn (الفجر الأحمر)، حيث يقوم مجموعة من الشباب الأمريكيين الأبطال بمقاومة القوات السوفيتية، ويصور الفيلم السوفييت غزاة عدوانيين ومرعبين ومعقدين، والنماذج من السينما كثيرة كلها تؤكد نفس الصفات.
ولم ينجُ الصينيون من تنميط السينما الأمريكية، التي قدمت عبر العقود العديد من الصور النمطية لهم، وغالباً ما كانت هذه الصور سلبية، فقد تم تصوير الصينيين بأشكال مختلفة تعكس الخوف أو الغموض والتخلف، حيث الاعتقاد بالسحر والقوى الخارقة، واعتمدت على الكليشيهات النمطية المتعلقة باللهجة، الشكل، والتصرفات التي تعكس السذاجة المفرطة في الكثير من الأحيان.
الإسلاموفوبيا
وكان للأحداث السياسية دور بارز كذلك في ظهور صور نمطية للأقليات والجماعات، فمع اتساع نطاق ظاهرة الإسلاموفوبيا والخوف من الإسلام والمسلمين، وبروز حوادث الكراهية ضدهم، وذلك في أعقاب حادثة تفجيرات برجي التجارة العالميين في 11 سبتمبر 2001، حيث اتسع نطاق الصورة النمطية لتشمل جميع المسلمين في مختلف دول العالم، وعزز ذلك الكره إنتاج عدد كبير من الأفلام الأمريكية التي ربطت حوادث القتل والإرهاب والتفجيرات للمدنيين بالمسلمين، سواء كانوا عرباً أو من جنسيات أخرى، وانتشرت في هذه الأفلام أوصاف مثل: الجهادي الوهابي الشيعي.. لوصف المسلم الإرهابي. وهنا نذكر أفلاماً شهيرة كانت باكورتها الفيلم الذي تم إنتاجه عام 2007 وحقق انتشاراً كبيراً Lions for Lambs، وتوالت بعده الأفلام، مثل فيلم The American sniper عام 2014، وThank you for your service عام 2017.
حتى في الفيلم العالمي لورانس العرب والذي قام بدور البطولة فيه النجم المصري عمر الشريف تضمن أيضاً مشاهد رسخت للصورة النمطية والصفات السلبية للعرب في مقابل البطل الأمريكي المتفوق عليهم، فهو الذي يقلل من همجيتهم ويعلمهم كيف يكون الحوار الإنساني الراقي البناء، وذلك في واحد من المشاهد الرئيسة التي تضع السم في العسل!
كسر الصورة النمطية
باعتبارها جزءاً من الأمن القومي الأمريكي، عملت وسائل الإعلام الغربية على ترسيخ صورة نمطية سلبية للفلسطينيين (كإرهابيين وقتلة للأبرياء من الإسرائيليين) وذلك عبر تغطية إخبارية متحيزة لأية أحداث تتم على أرض فلسطين، واستمرت هذه الصورة لعقود طويلة يصدقها الغرب ويؤمنون بها. فالإسرائيلي -بالنسبة لهم- إنسان مسالم بريء من حقه أن يعيش ويحيا على أرضه وفي وطنه، والمشهد المتصدر دوماً في الأخبار عن أية تداعيات على الأرض يركز على صورة الحاخام اليهودى مرتديا الكبياه اليهودية على رأسه وخلفه يظهر علم إسرائيل يجاوره العديد من الملصقات باللغة العبرية. وعلى الجانب الآخر يظهر الفلسطينيون أطفالاً ونساء ورجالاً يلقون بالحجارة على المحتل في مشهد متكرر يحذف منه عمداً صورة رجال جيش الاحتلال يحملون السلاح في وجه الأطفال والنساء.
استمر هذا الحال حتى بدأت أحداث طوفان الأقصى في مطلع شهر أكتوبر 2023، وهنا بدأت سلسلة غير مسبوقة من الفيديوهات القصيرة (الريلز) على منصة التيك توك ينشرها المؤثرون والتك توكرز الغرب يتحدثون فيها ولأول مرة وبلسان قوي ومشاعر جياشة عن حقيقة ما يجري في قطاع غزة من إبادة جماعية واستهداف للمدنيين وهدم للبيوت وقطع للمياه وكل سبل الحياة، فانكسرت -ولأول مرة- الصورة النمطية التي ظلت أمريكا وإسرائيل يكرسانها بكل طاقاتهما الإعلامية على صخرة منصة التيك توك الوليدة، الأمر الذي دفع وسائل الإعلام الرسمية في العديد من الدول الغربية أن تتهم المنصة بأنها (تدعم السردية الفلسطينية).
حتمية تحطيم الصورة النمطية السلبية
على الرغم من كونها حالات فردية، إلا إن الكثيرين نجحوا في تحدي الصورة النمطية السلبية، وقدموا صورة أخرى بديلة أكثر إيجابية، لعل من أوائل هذه الأمثلة لاعبة التنس العالمية سيرينا ويليامز التي فارت بعشرات الألقاب الدولية لتثبت للعالم كله أن النساء ذوات البشرة السمراء يجدن التفوق ويحققن البطولات. حالة أخرى شاهدناها جميعاً في أوليمبياد باريس للبطلة العربية إيمان خليف التي حققت الفوز على منافسات لها من جنسيات أوروبية لتثبت للعالم تفوق المرأة العربية.
وأخيراً نقول: إن تحطيم الصور النمطية ليس بالأمر اليسير، فهو يتطلب كسر قوالب جاهزة ترسخت عبر سنوات طويلة حتى صدقها الكثيرون، إلا أن هذا عمل مهم وضروري يحتاج لبذل كل الجهد لتحقيقه. فلا تترك نفسك فريسة لصور نمطية صاغها عنك آخرون، وارفض أية قوالب جاهزة قدموها لك عن الآخر. فالتغيير يبدأ من إيمانك بالإنسانية وأنها حق للجميع. ولا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الجاد.