في خضم هذا الزخم الهائل من الكتابة بكل أنواعها أين يقع الأدب؟ هذا السؤال يعيدنا إلى ذلك التساؤل التاريخي الضارب في أعماق الثقافة البشرية كلها: ما الأدب؟ والإجابة هنا محفوفة بالمخاطر، كثيرة المزالق، لا تستقيم لأحد بسهولة واضحة، لأن المقاييس متباينة، والقواعد مختلفة، والأسس متعددة، ولا يمكن تحديدها مع هذا الكم الهائل من الكتابات الأدبية والعطاءات الإبداعية أن يميّز القارئ بكل يسر وسهولة (الأدب) الذي يصنف على أنه الأرقى والأجمل والأعلى جودة. ولهذا فالأدب يصارع مع التقنية وبالذات الذكاء الصناعي ليبقى أو ليحتفظ بأيقونة تدل عليه، هنا أتذكر مقولة ربما تسعفنا قليلاً لإدراك الأدب الحقيقي، يقول أحد الكتاب الفرنسيين: حين أكتب القصيدة أتركها أياماً ثم أعود إليها فإن بردت مزقتها وإن بقيت على حرارتها الأولى أذعتها للناس. هنا تكمن العاطفة داخل النص المؤثرة بالآخرين، ولكن هل تكفي العاطفة؟ طبعاً ستكون الإجابة: لا، لأن الأدب له متطلبات ومقومات ومؤثرات.
إنّ هذا التأثير ينطلق من الكلمة وليس سواها، فهو لا ينطلق من صورة فوتوغرافية، ولا يصدر من إيقاع موسيقيّ، ولا ينبعث من مقطع مرئي يرافق النص، ولذا فإنّ كلّ تفاعل نابع من النص نفسه سأعده من المقاييس المهمة في تلقي النص، وكل إضافة خارجة لا تعني لي شيئاً بل ربما يكون النص لا قيمة له، فالتأثير الخارجي الممتزج بالنص يقتل النص الإبداعي المرتبط بالكلمة.
إذن نعيد السؤال مرة أخرى: ما الأدب؟
يقع الأدب بين ثلاثة أضلاع تحيطه ولكنها تجني ثمرته بعد ذلك، فالأدب ينطلق من متطلبات ومقومات ومؤثرات، وهذه الأضلاع الثلاثة هي التي تمكننا من تصنيف الأدب.
متطلبات الأدب
ينبثق الأدب من متطلبات ثلاثة هي: الموهبة والثقافة والتجربة.
- الموهبة
فالأديب الموهوب الذي منحه الله هذا السرّ الخفي هو الذي يستطيع أن يطور هذه الموهبة، وبما أنّ المواهب الأدبية بالذات تتفاوت بين أصحابها وتتباين في قوتها، فهي بحاجة إلى متطلبات أخرى تساعدها لتقوم على قدميها ويشتد عودها وتمتد ساقها، والموهبة لا تستنبت في القلوب ولا تستزرع في الصدور، فكم شاعر وأديب وروائي أبت له موهبته إلا أن تقف به عند حدود لا يمكن أن يتجاوزها، وكم من فئة أخرى منهم استطاعت بموهبتها أن تتجاوز مسافات من الإبداع لا يمكن أن تحد، وفي تاريخنا الأدبي من كانت موهبته في غرض واحد فقط دون آخر، وفي كتابة دون سواها، فامرؤ القيس وزهير وطرفة بن العبد اشتهر وأبدع كل واحد منهم في غرض أو غرضين من أغراض الأدب والشعر ولكنه لم يستطع أن يتجاوزها إلى كل أغراض الشعر، وهكذا يمكن القول في غيرهم من الشعراء في العصر الأموي والعصر العباسي وحتى في العصر الحديث. ومن هنا يمكن أن نطرح سؤالاً: هل يمكن أن تعزز هذه الموهبة وأن تنمّى؟
- الثقافة والمثاقفة
إن الإجابة عن هذا السؤال ليست صعبة ولكنها تحتاج إلى جهد وبذل، فالموهبة تنمو بالقراءة والثقافة والممارسة والتمرين، وتزدهر بالمثاقفة والتفاعل والمشاركة، إنّ الثقافة الناضجة والمستمرة تساعد على تطوير الموهبة وتنميتها، إنّها ثقافة القراءة الواعية المتجددة، يحفر الموهوب فيها أعماقَ العقول لتكون قاعدة في تكوين موهبته، وترتبط هذه الثقافة بالتنوع الدائم والأفق الواسع، فالقراءة الممتدة في التاريخ والمتجددة مع معطيات العصر، والقائمة على وعي واستكشاف مكامن الإبداع فيما يقرأ لتكون حجر الزاوية في انطلاقته الإبداعية، وتكون القراءة والثقافة تراكمية تبني ملامح راسخة من المعرفة ليزدهر الإبداع. وهذه الثقافة تحتاج إلى سبيل آخر يعاضدها، فالقراءة في الكتب والمطالعة في المعرفة، والنهل من مصادر الأدب شعراً ورواية لا يكفي، فالإبداع يركن إلى مقوم ثالث هو التجربة الإنسانية.
- التجربة الإنسانية
إنّ التجربة التي يخوضها المبدع في الأدب وفي غيره تمنح عقله مساحات من التأمل ومسافات من العطاء، فالحياة تجارب شتى وسير متنوعة ومواقف متعددة يختزنها العقل لتؤثر في إبداعه وأدبه، بل إنّ كل موقف وكلّ لحظة وكلّ لمحة تصنع للمبدع الموهوب حالة كتابية إبداعية يلتقطها من شرفة قلبه ليسطرها بقلمه، وهذه المتطلبات سابقة للنص ولا يمكن أن يقود زمامها سوى الأديب نفسه، فهو الذي يرعى موهبته بالتمرين والكتابة، وهو الذي يطور ثقافته بالقراءة والاطلاع، وهو الذي يعمق تجربته بالتأمل والملاحظة.
ولكن الملاحظ أن ما مضى هو خارج النص وقبله، فالنّص مع توافر هذه المتطلبات إذا لم يظهر للعيان مكتوباً ولا للقراءة مرقوماً فإنه يظل حبيس نفس المبدع ورهين قلبه، ومن هنا يحتاج النص إلى مقومات تبرزه للقرّاء وهي مقومات لا يمكن الفصل بينها، فهي لحمة واحدة وكيان متصل لا يمكن أن نفكك أركانه. وهذه المقومات هي التي تظهر في النص، وهي نتاج ما سبق من متطلبات، فالارتباط وثيق والعلاقة متينة.
مقومات النص
وعلى هذا تكون مقومات الأدب شعراً أو نثراً داخل النص، تظهر للقارئ، وهذا الداخل في النص وليدة قراءات متعددة وتجارب مختلفة صدرت من موهبة قوية، فالنص في تكوينه حروف وكلمات ومعان وأفكار، وتراكيب ودلالات وصور وخيالات، مشاعر وأحاسيس، وإيقاع داخلي وخارجي، وهذه كلها تنمو وتزدهر وتتطور في إبداع الأديب وكتاباته، وتتباين مع مرور الزمن في تجربته الكتابية والإبداعية، ولذا حين يتسع المخزون اللفظي وتتعدد الخيارات لدى الأديب وتنمو دائرة المفردات التي يستطيع أن يجدد من خلالها في كتاباته ويبحر في دلالاته ويخوض غمار التجريب مع وعي التجربة، وتتجدد لديه روح الكتابة، وليفطن الأديب الموهوب أن المفردة الواحدة تنزل في سياقها منزلة مهمة تؤثر فيه على المعنى وتقوده إلى العمق، فانتقاء الألفاظ الملائمة للسياق وملاءمتها لقريناتها وقربها منها يؤكد أواصر القوة والموهبة، ويساعد على بناء الصورة الفنية وتجديد الخيال الإبداعي، فالأدب موهبة وصنعة، مساران ينبعان من مصدر واحد ويسيران في اتجاه واحد، وبهما تترسخ قدما الأديب في كتابته، وتكون لديه القدرة على الإحلال والإبدال في إبداعه لغة وتركيباً وصوراً، وليضع الأديب بين عينيه أن قدرته على الكتابة وممارستها الدائمة هي التي تطور هذا المخزون الإبداعي، فالكتابة في وجه منها تمرين.
المؤثرات
ولا ريب أن النص بعد ولادته يقع تحت مؤثرات متعددة. ولكنها إن كانت أقوى من النص لم يفلح النص بالبقاء واندثر مع الأيام، لأن النص الذي يعتمد على مؤثرات خارجية تساعده على الاستمرار والانتشار يموت لا محالة. والمؤثرات تبدأ بالمتلقي الذي يصنف الأدب بحسب ثقافته ومشاعره وتأثيره عليه، ولذا قد يجد نصٌّ ما رواجاً وانتشاراً بين القراء لأسباب خارج النص كصورة مرافقة أو نغم مصاحب أو مقطع مرئي مدمج، ولذا يظل حكم القارئ على النص المكتوب ضعيفاً حتى يستقل النص بذاته وينظر إلى مقوماته.
ومن هنا فإن الأدب لا يمكن أن يكون رهين التقنية وما قدمته من خدمات جبّارة لمدعي الأدب بسرعة الانتشار وتعدد القراء وتنوع المتلقين لأنها خدعت القارئ بنصوص لا تثبت عند مقومات الإبداع، وأوهمت الأديب أو إن شئت قلت: المبدع بجودة ما كتب وأبدع وإن كان لا يستقيم له حال حين يخلص من كل مؤثر ويبقى وحيداً مستنداً على لغته ومفرداته وأساليبه وتراكيبه وصوره وخيالاته ومشاعره التي حملها ودلالاتها التي عبر عنها.