في ربيع عام 1885 كان الرسام الروسي إيليا ريبين (1844- 1930) يعرض لوحته الفنية (إيفان الرهيب وابنه) لأول مرة في معرض الفنون بمدينة سانت بطرسبورغ عاصمة روسيا القيصرية آنذاك. هذه اللوحة التي أصبحت إحدى أشهر اللوحات الفنية الواقعية في العالم، تصوّر مأساة شهيرة في التاريخ الروسي حدثت قبل ثلاثة قرون من إنجاز اللوحة عندما قَتل القيصر إيفان الرهيب ابنه ووريث عرشه تساريفيتش في لحظة غضب!
تصوّر اللوحة بشكل مروع لحظة الهلع واللوعة والندم البادية على وجه القيصر إيفان الرهيب وهو يجتذب ابنه الملقى على الأرض في نزعاته الأخيرة، ويحتضنه بشدة، ممسكاً برأس ابنه الدامي لإيقاف النزيف بيده، وهي ذات اليد التي ضربته بالصولجان على رأسه فأردته قتيلاً.
يا لها من مأساة، ويا له من مشهد بالغ القسوة.
أثّرت لوحة ريبين تأثيراً بالغاً على زوار المعرض الذين بدؤوا بالتزاحم حولها متمتمين بذهول: دم دم!
لم تحتمل بعض النساء المحدقات في وجه القيصر المذعور وابنه المغدور؛ وقْع المشهد، فأصبن بحالة إغماء.
لقد كانت لوحة تراجيدية قاسية وصادمة، مخيفة ومرعبة، تجعل من يراها يعيش لحظة المأساة وكأنها حدثت أمامه، وتشجي قلبه بمشاعر الأسى والحسرة والندم لأب جنى على ابنه في لحظة جنون، ومشاعر الرثاء لابن وديع الصورة، بريء الملامح، يغادر الدنيا بنظرة تعتصر الألم بداخلها وتكاد تنطق فتقول: هذا جناه أبي عليَّ.
أراد ريبين بلوحته الرهيبة التي استغرق عامين في إنجازها، التعبير عن بشاعة جريمة القتل وما تتركه من حسرة وألم وشعور بالندم يلازم القاتل إلى الأبد. وقد تأثر ريبين بالأحداث الدامية من حوله، ففي عام 1881، اُغتيل القيصر ألكسندر الثاني بعد إلقاء قنبلة على موكبه من قبل أفراد في منظمة (نارودنايا فوليا)، وقُتل في الحادثة 20 شخصاً من بينهم طفل كان من المارة.
تألّم ريبين جداً لهذه الحادثة وظل الألم مكبوتاً بداخله فترة طويلة لم يستطع فيها التعبير عما تختلجه نفسه الحزينة في لوحة فنية. أحسّ بالضعف، فالفنان يضعف ويذبل إذا لم يستطع التعبير عن مشاعره بما حباه الله من موهبة. كان بحاجة إلى مصدر إلهام قوي مزلزل، يُخرج الشعلة التي اكتوت بها أضلاعه وتكاد تنطفئ وتُطفئ روحه.
وجاءت الليلة الموعودة تحمل معها إلهاماً قادماً من جهة بعيدة لم تخطر له على بال، فهو ينتظر كل يوم أن يأتيه الإلهام من الغرب، وإذا به يأتي من قلب جزيرة العرب، من أحد أبطالها التاريخيين، بل من رمزها الكبير في ميادين الحرب والبطولات، الفارس والشاعر العربي عنترة بن شداد العبسي؛ فكيف كان ذلك؟!
كان الموسيقار الروسي ريمسكي كورساكوف (1844 - 1908) يفكر في تأليف عمل موسيقي جديد بعد نجاح الأعمال الموسيقية التي قدمها في بداياته. أراد هذه المرة أن يقدم سيمفونية رومانتيكية ملحمية تحمل مشاعر الحب والقوة معاً، ووجد ضالته في قصة (Antar) / (عنتر) للكاتب والمستشرق الروسي أوسيب سينكوفسكي (1800 - 1858) رئيس قسم اللغات الشرقية في جامعة بطرسبورغ الذي كان مولعاً بالتراث العربي الكلاسيكي. وقد نشر سينكوفسكي عشرات القصص والحكايات والقصائد العربية، مثل (موت الشَّنْفرى) و(معلقة لبيد بن ربيعة)، و(عنتر).
تحمل رواية (Antar) التي كتبها سينكوفسكي عام 1832 طابع الفانتازيا التاريخية، فهي لا تروي السيرة الحقيقية للشاعر والفارس العربي -وهذا ما أشار إليه سينكوفسكي في مقدمة روايته– ولذلك نجد عنترة في هذه الرواية في أرضٍ غير أرضه، وزمان غير زمانه، يعيش حياة لم يعاصرها دخل إليها من باب الأحلام. لكن الرواية على كل حال استمدت من عنترة كل حقائقه: اسمه، وشخصيته، وصفاته، ورمزيته المتمثلة في قوته، وشجاعته، وفروسيته، ونجدته، وعشقه ووفائه لمحبوبته.
تبدأ الرواية بذهاب عنترة إلى صحراء الشام مبتعداً عن ظُلم قومه نائياً بنفسه عنهم، يقترب من أطلال مملكة تدمر القديمة، فيصادف غزالة جميلة، يلحق بها على فرسه، ثم يظهر طائر ضخم متوحش يغطي ظلاله الأرض قاصداً اصطياد الغزالة، ولكن عنترة كان دائماً مدافعاً عن الضعفاء، فنسي في الحال أنه كان يطارد الغزالة لاصطيادها، ووضع هدفه في إنقاذ الغزالة من هذا الطائر المتوحش، فرفع عنترة رمحه عالياً صوب الطائر، ورماه به فأصابه في مقتل، وأنقذ الغزالة. بعدها يعود عنترة إلى أطلال قصر تدمر التي يخاف الناس الاقتراب منها لاعتقادهم بوجود الأرواح الشريرة، لكن عنترة لا يهاب البشر والأرواح، فدخل القصر الخاوي ليرتاح، وأخذه النوم ليحلم بأن الأطلال قد دبت فيها الحياة مرة أخرى، والخدم والجواري حوله يدعونه إلى مقابلة الملكة الجنيّة الجميلة (جولنازار)، فامتثل للدعوة، وقابل الجنيّة من وراء ستارة حمراء، فبينت له أنها هي الغزالة التي أنقذها، وأنها اضطرت إلى التنكر في هيئة غزالة لتهرب من الروح الشريرة التي جاءت على هيئة طائر ضخم مخيف، وشكرت عنترة على إنقاذه لها، وقدمت له ثلاث هدايا كل واحدة منها تحقق له أمنية من أمانيه الثلاث في الحياة وهي: الانتقام، المُلك، الحُب. وطلبت منه أن يخبرها عن أمر كل واحدة منها. ثم أفاق عنترة من حلمه، فذهب إلى الصحراء لتحقيق أمنيته الأولى وهي الانتقام من الذين ظلموه وحرموه من ميراث أبيه، وقابلوا كرمه بخيانته، لينتقم منهم، وبعد رحلته الطويلة التي حقق فيها مراده، يعود عنترة إلى أطلال تدمر لينام ويدخل عالمها السحري، فيرى الملكة الجنيّة (جولنازار) التي سألته مباشرة عن لذة الانتقام، فيجيبها عنترة بأنها لذة زائلة وعواقبها وخيمة باقية. فتقدم له الهدية الثانية وهي الملك والسيادة، فيذهب مرة أخرى إلى الصحراء، ويغيب فترة من الزمن ثم يعود إلى أطلال قصر تدمر ليرى عالمه السحري قد أصبح حقيقة، فتسأله الجنية الحسناء عن لذة المُلك فيخبرها عن مدى سروره وهو يرى ألوفاً من الناس تأتمر بأمره وتستمد إرادتها من إرادته، لكن هناك حداً تذهب عنده اللذة وتبدأ بعده المرارة الرهيبة.
ثم تقدم له الهدية الثالثة وهي الحب، فتفيض عينا عنترة بالدموع، فقد تذكر حبيبته الغائبة ذات العباءة الزرقاء التي بحث عنها في الصحراء طويلاً دون جدوى ولم يكف عن التفكير بها والأمل في لقائها مرة أخرى، وفي أثناء حديثه عن حبيبته، انفتحت الستارة الحمراء وظهرت له حبيبته في ردائها الأزرق، وأخبرته بأنها كانت تنتظره منذ زمن طويل، ونهضت من مكانها وأخذت بيده وأجلسته بجانبها على عرشها.
يعيش الاثنان في حالة من الحب والهيام لا تهدأ ولا تنطفئ، يحمل عنترة حبيبته بين ذراعيه وينظر إليها بعينيه العاشقتين ويخبرها بأنه لا توجد لذة في الحياة يمكن أن تضاهي لذة الحب، ثم يتوسّل إلى حبيبته بألّا يغادر الدنيا إلا وهو في غمرة هذه اللذة الأبدية، وأن تأخذ روحه وتنهي حياته إذا فتر حبه، فرمت نفسها في حضنه، وبعد صمت طويل معبّر، مزقت شفتيها بألم وبصوت مرتجف تخنقه الدموع قائلة له: أقسم لك بذلك.
وبعد سنوات من عشقهما، كان عنترة مستلقياً على السرير ممسكاً بيد حبيبته، لكنه كان شارد التفكير، يبدو أن الملل قد تسرب إليه وبدأ يفكر في الصحراء، تنظر إليه حبيبته وترى أن الوقت حان لتفي بوعدها له، فتلف ذراعيها حوله بشغف وتضمه بقوة إلى صدرها وتعطيه قبلة أخيرة، ليغفو بعدها. لقد انطفأت حياته، لكن روحه ستظل في سعادة أبدية.
أخرج كورساكوف هذه الرواية في متتابعة سيمفونية استخدم فيها ألواناً من الموسيقى العربية، وتتألف من أربع حركات: الأولى (عنترة يفيق من حلمه)، الحركة الثانية (الانتقام)، الحركة الثالثة (القوة)، الحركة الرابعة (نشوة الحب ونهاية عنترة). وقد ألّف هذا العمل وهو في مقتبل العمر، في الرابعة والعشرين من عمره، ولم يعرضه مباشرة بعد إتمامه، لأنه كان يشعر بأنه لم ينضج موسيقياً بعد، وأراد تعلم المزيد، فظل يراجع العمل ويُعدّل عليه بين حين وآخر حتى أتاحه للعرض بعد أكثر من عشر سنوات من تأليفه، وقد لاقى العمل نجاحاً كبيراً. وبالمناسبة فإن شهرة الموسيقار كورساكوف في عالمنا العربي -وفي العالم أجمع- ليست قادمة من خلال عمله (عنتر) الذي ألفه في ريعان شبابه، بل جاءت عن طريق عمله (شهرزاد) الأكثر نضجاً واكتمالاً، وكان لاستخدام مقطوعاتها الموسيقية في المسلسل الإذاعي المصري (حكايات ألف ليلة وليلة) -الذي وصل عدد حلقاته لأكثر من ثمانمئة حلقة على مدار ست وعشرين سنة ابتداءً من عام 1955- الدور الأبرز في تعرف الأذن العربية على موسيقى كورساكوف.
كانت سيمفونية (عنتر) الملحمية هي التي ألهمت الرسام ريبين ليعبر عن مشاعره الحزينة برسم لوحته الخالدة، فبعد حضوره عرضها الموسيقي الأول عام 1882 شعر ريبين بقوة داخلية تريد أن تعبر عن مآسي الحاضر برسم مشهد تاريخي مؤثر. يقول ريبين: (لقد أسرتني ثلاثيته الموسيقية –الحب والقوة والانتقام- إلى حد كبير، وأردت بشكل لا يمكن كبته في الرسم أن أصور شيئاً مماثلاً لقوة موسيقاه... كان من الطبيعي أن أبحث في التاريخ عن منفذ للمأساة المشتعلة).
اختار ريبين تصوير مأساة حادثة قتل القيصر إيفان الرهيب لابنه تساريفيتش، ثم بحث عن الشخصيات المناسبة لتمثيل الحدث. بدأ ريبين يتأمل في وجوه أقاربه وأصدقائه وزملائه وحتى المارة في الطرقات، ورأى في ملامح الرسام غريغوري مياسويدوف مثالاً جيداً لتجسيد دور القيصر القاتل. أما دور الابن الضحية فلم يتردد ريبين في اختيار الكاتب فسيفولود غارشين لتجسيده، وعندما سُئل عن ذلك قال: (لقد رأيت في وجه غارشين الهلاك، كان لديه وجه رجل محكوم عليه بالفناء). وصدق حدس ريبين؛ فقد انتحر غارشين في عمر الثالثة والثلاثين.
استُقبلت لوحة ريبين بجدل واسع في الأوساط الفنية والثقافية بين معجب وناقد، وكان النقد الفني لها مرتكزاً على إفراطها بالواقعية. ويمكن تفهم سبب هذا الانتقاد كون أصحابه من تيار المدرسة الرومانسية للفن التشكيلي المضاد لتوجه المدرسة الواقعية التي ينتمي إليها ريبين.
ولم يكن لهذا الجدل الفني -المتوقع على كل حال- أي تأثير على الحد من نجاح وانتشار اللوحة، بل كانت المشكلة الكبيرة التي واجهتها -ولا زالت تعاني منها حتى الآن- هو اتهامها بتزوير التاريخ وتشويه سمعة أول القياصرة الروس، وبالتالي، تشويه التاريخ الروسي حسب وجهة نظر المعارضين لها. وكان القيصر الروسي ألكسندر الثالث (1845 - 1894) قد استاء من اللوحة حين عرضها، وأصدر قراراً بحظرها من العرض، لكنها عادت بعد حين بتأثير أصدقاء مقربين منه كانوا من أشد المعجبين باللوحة، وبخاصة الرسام بوجوليوف الذي قدم التماساً لرفع الحظر المفروض على اللوحة فوافق القيصر على طلبه.
وفي عام 1913 تعرضت اللوحة للتخريب من قبل رجل روسي رأى فيها تشويهاً لسيرة القيصر إيفان الرهيب، مما اضطر ريبين إلى ترميم لوحته المنكوبة.
وبعد مرور قرن من الزمان على هذه الحادثة، وتحديداً في عام 2013 تظاهرت مجموعات قومية متشددة ضد عرض اللوحة، وطالبت بسحبها من العرض في متحف تريتياكوف الحكومي في موسكو، الأمر الذي رفضه المتحف.
وتعرضت اللوحة للتخريب مرة أخرى في عام 2018 عندما قام مواطن روسي اسمه إيغور بودبورين باقتحام قاعة عرض لوحات ريبين في متحف تريتاكوف والتقط قضيباً معدنياً وضرب به اللوحة عدة مرات مُحدثاً بها أضراراً جسيمة أدّت إلى استغراق العاملين على ترميمها مدة أربعة سنوات لتعود إلى المتحف في عام 2022.
وبرّر بودبورين عمله التخريبي بشربه للخمر في مقهى المتحف، لكنه بعد حين اعترف أنه فعل ذلك لأن إيفان الرهيب كان قدّيساً، وقال: اللوحة كاذبة، إنه -أي إيفان الرهيب- يعد في مصاف القديسين.