شكَّل الاستعمار التخطيط الحضري والهوية المعمارية لمعظم العواصم العربية الحديثة، وذلك ارتباطاً بحركة التحديث ومتطلباتها المدنية، فتنوعت هذه الإنشاءات تبعاً لتطور الاتجاهات المعمارية الأوروبية وتفاعلها مع العمارة المحلية، ومن بين هذه العواصم طرابلس الليبية، التي كان من نصيبها الاستعمار الإيطالي في بداية القرن العشرين.
تعد المدينة الحديثة في العاصمة الليبية طرابلس مدينة إيطالية بتخطيطها الحضري الأوروبي وأساليبها المعمارية الممزوجة بالتأثيرات المحلية، ما جعلها متحفاً فنياً يجذب الأنظار ويطرح على ذهن من يتجول في شوارعها وأزقتها وميادينها أسئلة حول المراحل التي مر بها التخطيط الحضري الإيطالي للمدينة، وهوية المهندسين الذين أشرفوا على ذلك، وصمموا معالمها، وشكلوا هذا النسيج المعماري الفريد الذي أصبح من سمات المدينة.
منذ بداية المشروع الإيطالي لغزو ليبيا كانت العمارة جزءاً أساسياً من مبررات الغزو، فقد نظر الإيطاليون إلى الآثار المعمارية للإمبراطورية الرومانية في ليبيا على أنها دليل لامتلاك أجدادهم لهذه الأرض، ففي عام 1911 والذي يوافق بداية غزو إيطاليا لليبيا قال الشاعر الإيطالي (جيوفاني باسكولي) في خطاب شعبي حول الغزو (نحن قريبون من هذه الأرض.. سبق أن كنا هنا وتركنا رموزاً لم ينجح ولا حتى البربر أو البدو أو الأتراك في محوها، إنها رموز إنسانيتنا وحضارتنا، رموزُ بأننا لسنا بربراً ولا بدواً ولا أتراكاً، سوف نعود).
بعد دخول المستعمرين الإيطاليين إلى العاصمة طرابلس وجدوا أمامهم في المدينة القديمة تراثاً معمارياً تشكل خلال نحو أربعة قرون إبان حكم الدولة العثمانية التي أرست قواعد التخطيط الحضري للمدينة، فنمت البيوت والمدارس والحمامات والأسواق حول مبنى مركزي هو المسجد، وهي سمة تميزت بها معظم المدن الإسلامية.
مع دخول السنة الثانية من الاحتلال في عهد القائد العسكري والحاكم الإيطالي لطرابلس (كارلو كانيفا)، أرسلت وزارة الأشغال العامة الإيطالية المهندس المدني (لويجي لويجي) إلى طرابلس في يناير 1912، وذلك لتحديد الأشغال العامة الأكثر أهمية التي يجب تنفيذها، ووضع مخطط مستقبلي لحركة الإنشاءات في المدينة، وبعد معاينته للمدينة قدم تقريره الذي تضمن خطة لإعادة تأهيل الميناء والبنية التحتية وإعادة تنظيم محيط مدينة طرابلس وتوجيه التمدد العمراني نحو الجنوب الشرقي وفقاً لخطوط التطوير التي وضعها (رشيد بيك) في نهاية العهد العثماني الثاني.
في أبريل 1912 قام المهندس المدني الإيطالي (ألبينو باسيني) بتصميم الخطة المقترحة من المهندس (لويجي لويجي) على خريطة تركية قديمة للمدينة، لكن هذا التصميم تم رفضه لعدم دقة الخريطة، فقدم المهندس المدني الإيطالي (ريكاردو سيمونتي) تصميماً جديداً تم الموافقة عليه سنة 1914، وبدأ في تنفيذه مباشرة، لكن اشتعال الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) عطل هذا التحديث، وشهدت سنة 1914 تقلبات إدارية في المدينة تمثلت في تعيين ثلاثة حكام على التوالي هم: (غاريوني، سيغليانا، درويتي)، وتم استكمال الخطة الرئيسة العامة للبناء في سنة 1920.
بدأت النقلة النوعية الأولى في الإنشاءات الحضرية لمدينة طرابلس الحديثة مع تعيين السياسي ورجل الأعمال الإيطالي (جوزيبي فولبي) كحاكم لمدينة طرابلس بين عامي (1921 - 1925)، الذي عين المعماري الإيطالي (أرماندو براسيني) مستشاراً فنياً للمدينة، وأوكل إليه مهمة التحديثات المعمارية، وكان من أهمها حينها تطوير الواجهة البحرية للمدينة حتى تكون البصمة الإيطالية واضحة لزائري مدينة طرابلس، فقام بترميم قلعة (السرايا الحمراء) بين عامي (1922-1923)، وترميم الكورنيش وتطويره، وذلك بتصميم الشارع المطل على الواجهة البحرية للمدينة الذي سمي (شارع الكونت فولبي)، الذي أصبح اسمه الآن (شارع الشط)، وذلك بين عامي (1922 - 1924)، فزرع على جانبيه أشجار نخيل، وأنشأ على جنوبه في المدينة عدداً من المباني، كان من أهمها (الفندق الكبير) الذي جمع فيه بين العمارتين الحديثة والمحلية وبالأسلوب الموريسكي الجديد في العمارة.
كما صمم المهندس المعماري الإيطالي (سافو بنتيري) سنة 1923 (كاتدرائية طرابلس) التي افتتحت سنة 1928، فجاءت على نسق الأسلوب الرومانسي في العمارة، وهي الكنيسة التي تم تحويلها إلى مسجد سنة 1980، وسمي بداية بمسجد (جمال عبدالناصر)، ثم تم تغيير الاسم إلى مسجد (جمعية الدعوة الإسلامية).
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه بعد وصول الفاشيين إلى السلطة في إيطاليا بقيادة (موسوليني) سنة 1922، دعا عدد من المعماريين الإيطاليين من خلال كتاباتهم إلى أن تكون الشوارع في مدينتي طرابلس وبنغازي معبرة عن قوة الحضارة الفاشية وهيمنتها على مستعمراتها، ما جعل فن العمارة أحد أهم القوى الناعمة في الدعاية للأيديولوجيا الفاشية، وزاد من ذلك المنافسة الإيطالية الشرسة مع الاستعمار الفرنسي الذي سبقهم في استخدام العمارة كأداة سياسية في مستعمراته بتونس والجزائر والمغرب.
سنة 1928 التي كانت السنة الأخيرة من عهد الحاكم الإيطالي لطرابلس (إيميلو دي بونو)، صمم المهندس المعماري الإيطالي (السندرو ليمونجيلي) قوس النصر بالمدينة، ليتولى بعدها (بيترو بادوغيو) حكم المدينة، فعين المعماري (السندرو ليمونجيلي) مستشاراً فنياً للمدينة سنة 1929، فقام هذا المعماري ضمن مخطط ميدان إيطاليا -ميدان الشهداء حالياً- بتصميم فندق (تيشريتا) سنة 1930 الذي مزج فيه بين الطراز الكلاسيكي والطابع المتوسطي.
سنة 1930 عهدت السلطات الإيطالية في طرابلس إلى المهندسين المعماريين (البرتو نوفيلو)، (جويدو فيرازا)، (أوتافيو كابياتي) بوضع مخطط جديد للمدينة، وتمت الموافقة عليه سنة 1934، واستند هذا المخطط على نقاط رئيسة: الحفاظ على المدينة القديمة، وتطوير المدينة من خلال الارتباط المنتظم مع الطريق، وإعادة تنظيم الأحياء القائمة والمستوطنات الجديدة، والحفاظ على الفصل بين مناطق السكان الليبيين والمناطق الحضرية حتى في قطاعات التوسع الجديدة.
مع تعيين القائد العسكري والسياسي الإيطالي (إيتالو بالبو) كحاكم لمدينة طرابلس بين (1934 - 1940)، جاءت النقلة الكبرى في تخطيط وعمارة مدينة طرابلس الحديثة فأفسح المجال للمستشار الفني الجديد للمدينة المعماري الإيطالي (فلوريستانو دي فاوستو)، الذي كلف بتنفيذ المخطط الجديد للمدينة، فصمم عدداً من أهم مبانيها، (فندق الودان) الذي مزج فيه بين العمارتين الكلاسيكية الرومانية والإسلامية العثمانية وسمي حينها (جوهرة العمارة الأفريقية الحديثة)، و(فندق المهاري) الذي حاكى فيه المنازل المحلية، ببساطة الواجهة ووجود فناء في الوسط.
ولم تتوقف أعمال هذا المعماري عند ذلك، بل صمم قصر الحاكم سنة 1937 والذي سمي بعد ذلك (قصر الشعب)، ومبنى المؤسسة الوطنية للتأمين سنة 1938، كما صمم أشهر ميدان في مدينة طرابلس (ميدان الكاتدرائية) وهو المعروف الآن بميدان الجزائر، والذي تم تنفيذه بين عامي 1935 - 1938.
ومع الحديث عن أبرز معالم مدينة طرابلس يبرز قلب المدينة والمتمثل في (ميدان الشهداء) المجاور لقلعة السرايا الحمراء في المدينة القديمة، فقد كان هذا الميدان قبل الاحتلال الإيطالي في العهد العثماني تحت اسم (سوق الخبزة) - سوق الخبز- وتتفرع منه خمسة شوارع بشكل شعاعي تمتد إلى أنحاء المدينة، وبعد أن جاء الإيطاليون غيروا (سوق الخبزة) إلى ميدان أسموه (بيازا كستيلوا) أي ميدان القلعة، ثم أسموه (بيازا دي إيطاليا) أي ميدان إيطاليا، كما غيروا أسماء الشوارع الخمسة المتفرعة منه، فتحول الشارع الغربي إلى شارع (سيشيليا)، ثم شارع (بالبو)، وهو الآن شارع (عمر المختار)، وتحول شارع الوادي إلى شارع (فينا بيامونتي) وهو الآن شارع (عمرو بن العاص)، وتحول شارع العزيزية إلى شارع (عمانويل) -ملك إيطاليا- وهو شارع (إمحمد المقريف) الذي أصبح الآن شارع (الاستقلال)، وتحول شارع الحميدية إلى شارع (لومبارديا) ثم (كوستانسو تشانو)، وهو الشارع المسمى الآن (24 ديسمبر)، وتحول شارع ميزران إلى شارع (لازيو).
كما أدخلت السلطات الإيطالية تعديلات على هذه المنطقة، فوسعت الشوارع الرئيسة بمتوسط عرض بلغ من 16 إلى 18 متراً، وجعلت الشوارع الثانوية بمتوسط عرض ما بين 5 إلى 15 متراً، فنمت المباني المتلاصقة بين هذه الشوارع وفق تصنيفات المناطق وبنظام تقسيم القرن التاسع عشر حيث الأفنية المشتركة ومناور التهوية، وجعل متوسط ارتفاع المباني في المنطقة الشرقية دور أرضي، ومن 2 إلى 3 أدوار عليا، وفي المنطقة الغربية دور أرضي، ومن 3 إلى 4 أدوار عليا، وباستثناء المباني الحكومية والخدمية، تم تقسيم باقي المباني إلى جزئين، الأدوار الأرضية للمحلات التجارية المفتوحة على أروقة مضللة، والطوابق العليا للسكن والمكاتب الإدارية.
وضم تخطيط المدينة الحديثة بناء سور مرتفع يحيط بها وينتهي عند نقطتين على شاطئ البحر في شرق وغرب المدينة، وهو السور الذي أسماه الليبيون (الكردون)، واحتوى هذا السور على عشرة أبواب تضمن تحكم السلطات الإيطالية في الحركة بين المدينة والمناطق المحيطة بها، وبإنشاء هذا السور تم فصل المدينة عن المناطق المجاورة، ليضم التخطيط الإيطالي داخل السور المدينة القديمة والمدينة الحديثة التي تكونت من مركز المدينة والمنشية وبن عاشور والظهرة والنوفليين.
كما ركزت إيطاليا في أغلب إنشاءاتها السكنية الحديثة على توفير حاجة المستعمرين بالدرجة الأولى، وبقي أغلب الليبيين في مساكنهم التقليدية بالمدينة القديمة، واستقر بعض التجار والحرفيين الليبيين والإيطاليين في بيوت متوسطة المستوى في بعض شوارع وسط المدينة كشارع ميزران.
بينما استقرت بعض الجاليات كالمالطيين في بيوت بسيطة المستوى في منطقة الظهرة، كما أنشأ الاستعمار الإيطالي عدداً من القرى خارج سور المدينة الحديثة في عدة مناطق مثل باب بن غشير وباب تاجوراء، وذلك لإقامة مجموعة من الليبيين العاملين معه، لكن هذه القرى عانت من غياب البنية التحتية، واضطر الليبيون المعوزون إلى بناء مساكن من الصفيح وراء السور، والتي تحولت بعد زمن إلى قرى صفيح في مناطق كان من بينها (باب عكارة).
و قبل انتهاء عقد الثلاثينات أصبحت مدينة طرابلس بسورها الحديث وتحت إدارة الاستعمار الإيطالي مدينة حديثة متكاملة بتخطيطها الحضري الأوروبي ومبانيها وطرقاتها وشبكات الإنارة والمياه والغاز والصرف الصحي، إضافة للمستشفيات والمدارس والبنوك والمسارح ودور السينما والملاعب الرياضية والمصائف وسكة حديد خصصت لنقل الركاب والبضائع وربطت المدينة بمنطقة (تاجوراء) شرقاً ومدينة (زوارة) على الحدود مع تونس غرباً، ومع خسارة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) توقف مشروع التخطيط الحضري للاستعمار الإيطالي في ليبيا.