عبر تاريخها الطويل، المُمتد إلى قرون عديدة خلت قبل الميلاد، تلاقت العديد من الحضارات، في عموم الواحات والحواضر الليبية، وما زال كثير من الجداريات الأثرية، يقف شاهداً على خصوبة هذه المناطق، في تزاوج الحضارات، التي ساهم فيها الليبيون بشكل كبير.. وكانت ليبيا قد نجحت في صهر كُل الحضارات التي مرَّت عليها، في بوتقتها، وفي الوقت ذاته حافظت على خصوصية هويتها الوطنية، ومن يتجوَّل في عموم المناطق الليبية، يجد مدى حِرص الليبيين على حِفظ تراثهم، الذي يعتبرونه ذاكرتهم التاريخية الحيَّة، ولا يتواصل حاضرهم أو مستقبلهم من دونها، برغم كُل التحديات المُعاصرة، المُهدِدة لهذا التراث، الذي يتسم بالتنوع الكبير.. ويُعد فن المالوف، أحد أهم الفنون التراثية، التي يَحرِص الليبيون على الحفاظ عليها، وتطويرها، ومنع تغوُّل الحداثة عليها.
التعريف..والنشأة
المالوف، بهمزة مُخففة، يعني ما ألِفه الناس، وتعوَّدوا عليه، وهو فن غنائي موسيقي شعبي، لا يتقيَّد في صياغته بالأوزان والقوافي، ويستطيع الجمع بين الموشَّحات، والدوبيت، والقوما، والأزجال، إلى جانب باقات من بدائع وروائع الأشعار.. منه المالوف الديني، الذي يتركَّز على المدائح الصوفية، ومنه المالوف الدنيوي الذي يتركَّز على المُناسبات الاجتماعية، وكذا وصف الطبيعة، وبحسب ما أفضت إليه أسانيد المؤرِّخين لتأريخ هذا الفن، ثمة اتفاق على أنه نشأ في الأندلس، وذاع في ربوعها، وكان له أعلام ساهموا في انتشاره، من أمثال أبي بكر بن باجة، وأميَّة بن عبدالعزيز، ودعَّمه بقوَّة نفر من الأعلام المُتصوِّفة، من أمثال مُحي الدين بن عربي، وشعيب بن أبي مدين.
ومن الأندلس، انتقل هذا الفن، مع الهجرات الأولى للمورسكيين، إلى شمال أفريقيا، حيث مرَّ بالمغرب، والجزائر، وتونس، ليستوطن المناطق الساحلية في ليبيا، ومنها ينطلق إلى واحات الجنوب، في بدايات القرن السادس عشر، وكان أوَّل من احتضن هذا الفن في ليبيا، هم أتباع الطريقة العيساوية، المنسوبة إلى سيدي إمحمد بن عيسى، وهي إحدى أكبر الطرق الصوفية، التي ينتشر أتباعها في ليبيا، وعموم الشمال الأفريقي.
وفن المالوف يؤدَّى بمُصاحبة آلات موسيقية، سنأتي على ذكرها لاحقاً، في إطار نصائح وإرشادات توعوية، دينية وتعليمية وتربوية وثقافية، تستهدف بناء أجيال تحرِص على حِفظ لُغتها، وعاداتها الاجتماعية الراسخة، وبخاصة ما يتعلَّق منها بحُسن التعامل والحوار واحترام الآخر، مع التزام المُشاركين في الأداء الموسيقي والغنائي على ارتداء الزي الشعبي التقليدي.
آلات موسيقيَّة مُصاحبة
تُستَخدَم العديد من الآلات الموسيقية، عند أداء فن المالوف، نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر:
آلة الغيطة، وهي من آلات النفخ الشعبية، تتألَّف من أنبوب خشبي، ينتهي بشكل مخروطي، ويوجد فوق الأنبوب سبعة ثقوب، ستة من الأمام، والسابع من الخلف، وفي نهايته قِطعة من قِشرة الخشب، مُفرَّغة، تُسمى (الصيَّاح).
الطار، ويُسمى أيضاً بالبندير العيساوي، وهو أشبه كثيراً بآلة الرق في الموسيقى العربية، إطاره خشبي، موزَّع عليه أربعة صنوج نحاسية (شنشانات).
الزل، آلة إيقاعية شعبية، عبارة عن أسطوانتين نحاسيتين، لهما مقبضان من الجلد.
الطبلة، وهي الآلة الأشهر بين الآلات الإيقاعية الشعبية، تُصنع عادة من الفُخار المُجوَّف، ويُشد عليها جلد جمل.
النقرة، هي آلة إيقاعية صوفية، تتألَّف من نصفي كُرة، مشدود على كُل منهما جلد بقر، ولها مضربان مدببان عند الرأس، ومصنوعان من الخشب.
الزُكرة، آلة نفخ شعبية، عبارة عن قِربة من جلد الجدي أو الماعز الصغير، يثبت في وسطها من جهة البطن، أنبوب معدني طويل، يُسمى الساق، من خِلاله يتم النفخ لملء القِربة بالهواء.
وثمة عديد من الآلات الأخرى، التي تُستَخدَم من قِبل الفِرق والمجموعات الموسيقية، منها المِزمار المزدوج، والربابة، والمقرونة، والدنقة، والقصبة، والشكشاكات، وغيرها.
نوبات المالوف
ويشار إلى ما يُعرَف بـ(مجموعة نصوص الششتري)، نِسبة إلى الشاعر والزَّجال الأندلسي أبي الحسن الششتري (ت 666هـ)، باعتبارها منبع فن المالوف، الذي نهل منه كُل تلاميذه، ومن أتى بعدهم، وما زال كثير من هذه النصوص مُتداولاً إلى الآن.. وعلى منوالها ظهر الكثير من النصوص والمنظومات الشعرية والأزجال، التي تغنَّى بها كبار فن المالوف.
وصارت هذه النصوص تشتهر بـ(نوبات المالوف)، التي يُعرِّفها المؤرخ محمد أبو عجيلة، بأنها (الشَكل المُميَّز في الترتيب والأداء النغمي والتفرُّد بالإيقاع).. وعادة تتألّف الوصلة الغنائية، من أربع نوبات، هي: نوبة المصدر، وتأتي في قالب بطيء، يليها نوبة المربع، وهي أعلى نسبياً من سابقتها، ثم نوبة بروّل، والتي تأتي في إطار ميزان ثماني، في قالب سريع، ثم نوبة العلاجي، وهي النوبة الأخيرة والأسرع، وتأتي في ميزان سداسي سريع.
ومقامات نوبة المالوف الليبي، تتألَّف من ستة مقامات أصلية، تتوزع درجات استقرارها على سِلسلة نغمية، تمتد بين درجتي الراست (دو)، وحتى الجهاركاه..أما الضروب فتتكوَّن من أربعة موازين مُختلفة السُرعة، والتراكيب الإيقاعية، والضغوط.
عريبي.. ورفاقه
وبفضل جهود أعلام المالوف، استطاع هذا الفن أن يُحافظ على أصالته وهويته، ومن أكثرهم ذيوعاً الفنان حسن علي مختار عريبي، وهو من مواليد العاصمة طرابلس عام 1933م، ورث الاهتمام بالمالوف عن أبيه وجده، حيث تعلَّم منهما مُنذ نعومة أظفاره المقامات والضروب، وكان له إسهامات مُهمَّة في تطوير هذا الفن، ليواكب العصر دون أن يفقد أصالته، حيث أدخل بعض التعديلات على القصائد التي كان يُغنِّيها، وبخاصة التي تعود إلى نصوص قديمة، كما أدخل على الجُمل اللحنية بعد التهذيب.. وعند افتتاح الإذاعة الليبية عام 1957م، تم اختياره كمُستشار فني لقسم الموسيقى، وأسس فِرقة خاصة بفن المالوف، كما ساهم في تأسيس المجمع العربي للموسيقى، وتولَّى رئاسته لدورتين، في أوائل سبعينات القرن الماضي، وقد امتد نشاطه الموسيقي إلى المحافل العالمية، حيث ترأس المؤتمر العالمي للموسيقى، الذي عُقِد في مدينة طشقند.. وله ألحان لمُطربين كِبار من تونس ومصر ولبنان، من بينهم هدى سلطان، وسعاد محمد، ونازك، وعُليَّا التونسية، وسلاف، وزهيرة سالم، وكانت ألحانه سبباً في ذيوع صيت عطية مُحسن، وإبراهيم حفظي، وسيد بو مدين، الذين كان لهم دور كبير في الحفاظ على هوية الفلكور الغنائي الليبي..لقد ظل عريبي سخياً بالعطاء لفن المالوف، إلى أن وافته المنيَّة، إثر أزمة قلبية فاجأته وهو يقود سيارته في مدينة طرابلس.. تقول أ.د. رتيبة الحفني، عميدة معهد الموسيقى العربية بالقاهرة: إن ما قدَّمه عريبي للموسيقى، يظل مُضاء بأحرف من نور، وفرقة المالوف والموشحات التي أسسها، هي بمثابة (معهد موسيقي مُتميِّز).
وأيضاً من أعلام فن المالوف الليبي، محمد صدقي، الذي عاصر عريبي وارتبط معه بصداقة وطيدة، وقدَّم للإذاعة الليبية العديد من الموشحات ومقاطع المالوف الموسيقية والغنائية، من بينها أُغنيته الشهيرة (كيف نوصفك للناس وأنت غالي..؟) ومن رِفاق عريبي، الذين حافظوا على هذا الإرث الفني الثمين، محمد أبو بكر تومية إقنيص، الموشِّح الشهير وصاحب فرقة إقنيص، ومحمود أبو ريانة، ومصطفى القلالي، وخليفة بركة إشتيوي، ومحمد الشوشان، وحسن الكعامي، وعلي أمين سيالة، ومحمد مرشان، صاحب الموشح الغنائي الشهير (بعت المحبة)، وأحميدة بو نقطة، الذي ذاعت أُغنيته (نين نموت)، وتغنَّى بها عديد من فناني الشمال الأفريقي.
وبحسب الباحث والمؤرخ محمد الشريف، فإن عريبي ورفاقه، استطاعوا ليس فقط الحِفاظ على هوية فن المالوف، بل وطوَّروه، ونشروه في واحات وحواضر المعمورة الليبية، حتى صار يُمثل الفن الغنائي الشعبي الأكثر ذيوعاً في مُعظم المُناسبات الاجتماعية والدينية.
من روائع فن المالوف
ومن نماذج النَّظم الشهيرة لفن المالوف، ما كتبه أبو الفضل يوسف بن محمد المعروف بابن النحوي التوزري، الذي غنَّت له فِرقة عريبي:
يا رب بهم وبآلهم عجل بالنصر وبالفرج
اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلجِ
وظلام الليل له سرجٌُ حتى يغشاه أبو السرجِ
وسحاب الخير له مطر فإذا جاء الإبان تجي
وفي مالوف بعنوان (قلبي يهوى معيشق)، جاء هذا المقطع:
قلبي يهوى معيشق، وسحر عقلي جمالو
وله حويجب معرّق، والجمال ربي عطالو
وفي (ظبي سباني)، وهو عنوان مالوف شهير، مطلعه:
في الحُسن، مفرد بالله يا حادي الجمال
رِفقاً بعبدك، قد صار جسمي كالخيال
فاني في حبك، فأنعم لعِبدك بالوصال