لاريبَ أنَّ السُّيوطي بموسوعيته المعهودة أراد في كتابه الشهير (بُغْية الوُعَاة في طَبَقاتِ اللغويينَ والنُحَاةِ)؛ أن يبثّ في ترجماته لسابقيه ومعاصريه من اللغويين والنحاة ما يجعله مختلفاً عمن سبقه في هذا الفن، حين عمَدَ إلى أن يأخذ بالقارئ إلى سياحة علمية بسرد شيء من الطرف والنوادر والملح التي انطبعت بها شخصيات علماء اللغة والنحو في طبقاتهم المختلفة.
ولسنا في مقام التَّحري فيما جاءَ من طرف أو نوادر مازت شخصية هذا اللغوي أو ذاك، بقدر ما نقف على ملمح من الأهمية بمكان في شخصيات هؤلاء العلماء الذين شغلهم الهمّ البحثي أو العلمي بشيء مثير للعجب والغرابة، والذي تمثّل في أنَّ الشخصية العلمية أو البحثية لهؤلاء ممن حملوا على عاتقهم الهم اللغوي وما يتصل به من علوم وفنون؛ هي ككل الشخصيات من بني آدم تجري عليهم من المقادير ما تجري على غيرهم، فتنطبع شخصياتهم بالبخل أو الحرص، أو الجود والكرم المفرط. وبينما نجد أخرى تجنح إلى الزهد والانقطاع عن الدنيا بشتى حظوظها؛ نجد في مقابلها شخصيات تميل إلى الانغماس في الملذات والملهيات. وفي ثنايا هذه الطبقات نجد من عاش في رغد من العيش فأنفق بسخاء على اقتناء الكتب وتعمير الدور بالمكتبات؛ بينما يظل آخرون في شظف من العيش والفقر يتدثرون بثوب القناعة حتى ليحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، رافضين الوقوف على أبواب الحكَّام، في حين يختلفُ آخرون مجالسَ الولاة والأمراء، فيحظون بالقرب والهبات والأعطيات ما يسيل له لعاب كثيرين.
وفي هذا المقال نعرض لبعضٍ من هذه النوادر والأعاجيب، التي لم تصرف هؤلاء عن أن يضرب كل منهم بسهم، بل بسهام من فنه أو فنونه التي أجادها في تشييد صروح حضارتنا العربية الإسلامية.
براعة التَّلقي وجودة الحفظ
لا ريب أن مَن يطَّلع على ما أورده السيوطي في سِير هؤلاء الأعلام، إن لم يتمالكه الإعجاب من العقلية العلمية التي انماز بها مَن ترجم لهم مِن أقرانهم؛ فإنه سيشكك في صدق الروايات التي تناولت أعلام هذه الطبقات، لكنَّ الذي يُذهب هذا الشك إلى غير رجعه هو ذلكم التراث الضخم الذي تركه هؤلاء والذي لم يصلنا منه مع هذا إلا أقلُّ القليل.
اللغويّ أبو ملحم أَبُو محلم الشَّيْبَانِيّ السَّعْدِيّ، خير مثال على البراعة في التلقي وسرعة البديهة وجودة الحفظ، حُكيَ عَنه أَنه قَالَ: لما قدمت مَكَّة، لَزِمت ابْن عُيَيْنَة، فَلم أكن أُفَارِق مَجْلِسه، فَقَالَ لي يَوْماً: يَا فَتى، أَرَاك حسن الْمُلَازمَة وَالِاسْتِمَاع، وَلَا أَرَاك تحظى من ذَاك بِشَيْء، قلت: وَكَيف؟ قَالَ: لِأَنِّي لَا أَرَاك تكْتب شَيْئاً مِمَّا يمر، قلت إِنِّي أحفظه، قَالَ: كل مَا حدثت بِهِ حفظته؟ قلت:نعم، فَأخذ دفتر إِنْسَان بَين يَدَيْهِ، وَقَالَ: أعد عَليّ مَا حدثت بِهِ الْيَوْم، فأعدته فَمَا خَرَمْت مِنْهُ حرفاً، فَأخذ مَجْلِساً آخر من مَجْلِسه فأمررته عَلَيْهِ، فَقَالَ: حَدثنَا الزُّهْرِيّ، عَن عِكْرِمَة، قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس: يُقَال: إِنَّه يُولد فِي كل سبعين سنة من يحفظ كل شَيْء، قَالَ: وَضرب بِيَدِهِ على جَنْبي، وَقَالَ: أَرَاك صَاحب السّبْعين. (بغية الوعاة 1/258)
وأعجبُ من ذلك ما نقله السيوطي عن التبريزي في حديثه عن حافظة الشاعر المعروف أبي العلاء المعري، من أَنه كَانَ بَين يَدَيْهِ يقْرَأ عَلَيْهِ شَيْئاً من مصنفاته، قَالَ: وَكنت أَقمت عِنْده سِنِين، وَلم أرَ أحداً من أهل بلدي. فَدخل الْمَسْجِد بعض جيراننا، فعرفته فتغيرت من الْفَرح، فَقَالَ لي أَبُو الْعَلَاء: أيشٍ أَصَابَك؟ قلت: إِنِّي رَأَيْت جاراً لنا بعد أَن لم ألقَ أحداً من أهلِ بلدي سِنِين، فَقَالَ لي: قُم فَكَلمهُ، فَقُمْت وكلمته بِلِسَان الأزربية شَيْئًا كثيراً، إِلَى أَن سَأَلت عَن كل مَا أردْت، ثمَّ عدت. فَقَالَ: أَي لِسَان هَذَا؟ فَقلت لِسَان أذربيجان، فَقَالَ لي: مَا عرفت اللِّسَان وَلَا فهمته، غير أَنِّي حفظت مَا قلتما، ثمَّ أعَاد عَليّ اللَّفْظ بِعَيْنِه، من غير أَن ينقص أَو يزِيد. فعجبت من حفظه مَا لم يفهمهُ. (بغية الوعاة 1/315)
حرص على التَّلقِّي حتى آخر رمق
أعجوبة أخرى من أعاجيب هؤلاء الأفذاذ، تجلت في حرصهم الشديد على التَّعلم والتَّلقي، فها هو أَبُو الريحان الْخَوَارِزْمِيّ البيروني الذي وُصِف بأنه كان مكباً على تَحْصِيل الْعُلُوم، منصباً على التصنيف، لَا يكَاد يُفَارق يَده الْقَلَم، وعينه النّظر، وَقَلبه الْفِكر، دخل عَلَيْهِ بعض أَصْحَابه، وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ (أي يحتضر)، فَقَالَ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَال: كَيفَ قلت لي يَوْماً حِسَاب الْجدَّات الْفَاسِدَة؟ فَقَالَ: أَفِي هَذِه الْحَال، قَالَ: يَا هَذَا، أُودّع الدُّنْيَا وَأَنا عَالم بهَا، أَلَيْسَ خيراً من أَن أخليها وَأَنا جَاهِل بهَا، قَالَ: فَذَكرتهَا لَهُ، وَخرجت فَسمِعت الصريخَ عَلَيْهِ وَأَنا فِي الطَّرِيق. (بغية الوعاة 1/51)
أما الإِمَام الأكبر أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي، فحُكِيَ عنه أنه قَدْ رَأى يَوْماً بِالسوقِ جَارِيَة حسناء، فَوَقَعت فِي قلبه، فَذكرهَا للراضي، فاشتراها وَحملهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: اعتزلي إِلَى الِاسْتِبْرَاء، قَالَ: وَكنت أطلب مَسْأَلَة، فاشتغل قلبِي، فَقلت للخادم: خُذْهَا وامضِ بهَا، فَلَيْسَ قدرهَا أَن تشغل قلبي عَن علمي، فَأَخذهَا الْغُلَام، فَقَالَت لَهُ: دَعْنِي أكلمه بحرفين، فَقَالَت لَهُ: أَنْت رجلٌ لَك مَحلٌ وعقلٌ، وَإِذا أخرجتني وَلم تبين ذَنبي، ظنَّ النَّاس فيَّ ظناً قبيحاً، فَقَالَ لَهَا: مَا لك عِنْدِي ذَنْبٌ غير أَنَّك شغلتني عَن علمي، فَقَالَت: هَذَا سهل، فَبلغ الراضي، فَقَالَ: لَا يَنْبَغِي أَن يكون الْعلم فِي قلب أحدٍ أحلى مِنْهُ فِي صدر هَذَا الرجل.
وكيف لا، وَقد كَانَ يحفظ ثَلَاثمِائَة ألف بَيتٍ شَاهداً فِي الْقُرْآن، وَكَانَ يملي من حفظه، لَا من كتاب. وَحدَثَ أن مرض يَوْماً فعاده أَصْحَابه، فَرَأَوْا من انزعاج وَالِده أمراً عَظِيماً، فطيبوا نَفسه، فَقَالَ: كَيفَ لَا أنزعج وَهُوَ يحفظ جَمِيع مَا ترَوْنَ؟ وَأَشَارَ إِلَى خزانَة مَمْلُوءَة كتباً. وقيل أيضاً: إنه كَانَ يحفظ مائَة وَعشْرين تَفْسِيراً بأسانيدها. (البغية 1/213)
زهد وتورّع
كثيرٌ ممن ترجم لهم السيوطي إن لم يكن معظمهم قد عرفوا بالزهد والورع، وقد أسهب الحديث عن أعاجيب بعضهم، حتى ليخيل لنا أنهم ليسوا مثلنا، وإنما هم نوعية نادرة من البشر أو حتى من العلماء. من بين هؤلاء أَبُو سعيد السيرافي النَّحْوِيّ الذي عمل بالإفتاء فِي جَامع الرصافة خمسين سنة على مَذْهَب أبي حنيفَة، فَمَا وجد لَهُ خطأ، وَلَا عثر لَهُ على زلَّة. وَقضى بِبَغْدَاد هَذَا مَعَ الثِّقَة والديانة وَالْأَمَانَة والرزانة. ونُقِل أنه صَامَ أَرْبَعِينَ سنة أَو أَكثر الدَّهْر كُله. وعقَّب السيوطي بقوله: مَا رَأَيْت أحفظ مِنْهُ لجوامع الزّهْد نظماً ونثراً، وَكَانَ ديناً ورعاً تقياً نقياً، زاهداً عابداً خَاشِعاً، لَهُ دأب بِالنَّهَارِ من الْقُرْآن والخشوع، وَورد بِاللَّيْلِ من الْقيام والخضوع. مَا قرئَ عَلَيْهِ شَيْء قطّ فِيهِ ذكر الْمَوْتِ والبعثِ وَنَحْوه إِلَّا بَكَى وجزع، ونغّص عَلَيْهِ يَوْمه وَلَيْلَته، وَامْتنع من الْأكل وَالشرب. وَمَا رَأَيْت أحداً من الْمَشَايِخ كَانَ أذكر بِحَال الشَّبَاب، وَأكْثر تأسفاً على ذَهَابه مِنْهُ. وَكَانَ إِذا رأى أحداً من أقرانه عاجله الشيب تسلى بِه.
وكَانَ من زهده وورعه، أنه لم يَأْخُذ على الحكم أجراً، إِنَّمَا كَانَ يَأْكُل من كسب يَمِينه، فَكَانَ لَا يخرج إِلَى مَجْلِسه، حَتَّى ينْسَخ عشر وَرَقَات بِعشْرَة دَرَاهِم، تكون بِقدر مُؤْنَته. (1/507)
ومن هؤلاء أيضاً الْحسن بن مُحَمَّد بن عبدالله الطِّيِّبِيّ، إذ هو الإِمَام الْمَشْهُور الْعَلامَة فِي الْمَعْقُول والعربية والمعاني وَالْبَيَان. قَالَ ابْن حجر: كَانَ آيَة فِي اسْتِخْرَاج الدقائق من الْقُرْآن وَالسّنَن، مُقبلاً على نشر الْعلم، متواضعاً حسن المعتقد، شَدِيد الرَّد على الفلاسفة والمبتدعة، مظْهراً فضائحهم، مَعَ استيلائهم حِينَئِذٍ. شَدِيد الْحبّ لله وَرَسُوله، كثير الْحيَاء، ملازماً لأشغال الطّلبَة فِي الْعُلُوم الإسلامية بِغَيْر طمع، بل يخدمهم ويعينهم، ويعير الْكتبَ النفيسةَ لأهلِ بَلَدهِ وَغَيرهم، مَن يعرف وَمن لَا يعرف، محباً لمن عرف مِنْهُ تَعْظِيم الشَّرِيعَة. وَكَانَ ذَا ثروة من الْإِرْث وَالتِّجَارَة، فَلم يزل يُنْفِقهُ فِي وُجُوه الْخيرَات، حَتَّى صَار فِي آخر عمره فَقِيراً. وَكَانَ يشْتَغل فِي التَّفْسِير من بكرَة إِلَى الظّهْر وَمن ثمَّ إِلَى الْعَصْر فِي الحَدِيث إِلَى يَوْم مَاتَ، وفي هذا اليوم وبعد أنْ فرغ من وَظِيفَة التَّفْسِير وَتوجه إِلَى مجْلِس الحَدِيث، وصلَّى النَّافِلَة، جلسَ ينْتَظر الْإِقَامَة للفريضة، إذ بروحِهِ تفيضُ إلى بارئِها، مُتَوَجهاً إِلَى الْقبْلَة.
وقد ذكر فِي شَرحه على الْكَشَّاف أَنه أَخذ على أبي حَفْص السهروردي، وَأَنه قبيل الشُّرُوع فِي هَذَا الشَّرْح رأى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي النّوم، وَقد نَاوَلَهُ قدحاً من اللَّبن، فَشرب مِنْهُ. (1/523)
وبعد، فلا يزال سِفر السيوطي (بُغْية الوُعَاة في طَبَقاتِ اللغويينَ والنُحَاةِ) يعجُّ بكثيرٍ من أخبار علماء عصره ومن سبقه، سواء في جانب الطرفة والأعاجيب أو في جانب التلقي والتدريس والتأليف، الأمر الذي يجعلنا نسلم بأن هؤلاء طراز آخر من البشر، كان نُصب عينيه العلمَ تحصيلاً وبذلاً ولا شيء غيره.