في بداية أكتوبر من كل عام، يتوالى استيقاظ عدد قليل من العلماء والأدباء على اتصال هاتفي من الأكاديمية السويدية في (ستوكهولم) تبلغهم بأنهم قد فازوا بإحدى جوائز (نوبل) العريقة سواء في الطب/ الفسيولوجيا، أو الفيزياء، أو الكيمياء، أو الأدب، أو الاقتصاد أو السلام إلخ. ولا شك أن هذا الاتصال الهاتفي يغير مسار وحياة أي عالم وأديب واقتصادي وناشط سلام، لأنه سيدخله التاريخ من أوسع أبوابه. فحصوله على إحدى جوائز (نوبل) الست المرموقة يشبه بلوغ قمة جبل (إفرست) في مجال البحث العلمي، والإبداع الأدبي.
الأديبة (هان كانغ)
في بيانها الصحفي يوم الخميس (العاشر من أكتوبر 2024) أعلنت الأكاديمية السويدية في (ستوكهولم) أنه: (تم منح جائزة نوبل في الأدب لعام 2024 للمؤلفة الكورية الجنوبية (هان كانغ) لكتاباتها الشعرية المكثفة التي تواجه الصدمات التاريخية وتكشف عن هشاشة الحياة البشرية). وأشادت الأكاديمية السويدية بعمل (هان): (لإدراكها الفريد للارتباطات بين الجسد والروح، والأحياء والأموات). وقالت الأكاديمية: (إن هان أصبحت من خلال أسلوبها الشعري والتجريبي مبتكرة في النثر المعاصر). وقال السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية (ماتس مالم): (لقد تحدثت معها بالهاتف. كانت تقضي يوماً عادياً، وانتهت للتو من تناول العشاء مع نجلها. لم تكن مستعدة حقاً لهذا الأمر، لكننا بدأنا الحديث عن الاستعدادات لشهر ديسمبر/كانون الأول) (موعد تسليم الجائزة). وبذلك، كافأت جائزة نوبل للآداب شخصية أدبية من منطقة في العالم غير أوروبا أو أمريكا الشمالية، مع أن كتّاباً منتمين إلى الثقافة الغربية يهيمنون عادة عليها إلى حد كبير.
من هي الأديبة الكورية الجنوبية؟
(هان كانغ) أو (آن كانغ) (مواليد 27 نوفمبر 1970) روائية وشاعرة كورية جنوبية. ولدت في (غوانغجو)، في أسرة ذات خلفية أدبية، فوالدها الكاتب والروائي المشهور (هان سونغ وون) (1939). وانتقلت إلى منطقة (سيوري) في (سيول) في سن العاشرة. ودرست الأدب الكوري في جامعة (يونسي).
وبدأت مسيرتها الأدبية عندما نُشرت إحدى قصائدها في العدد الشتوي من مجلة (الأدب والمجتمع). وتابعت مسيرتها بقصتها القصيرة (المرساة الحمراء) التي فازت في مسابقة الربيع لصحيفة (سيول شينمون) اليومية. وأصدرت مجموعتها القصصية الأولى بعنوان (حب من يوسو) عام 1995. كذلك فازت بجائزة (يي سانغ) الأدبية عام 2005، وجائزة (الفنان الشاب اليوم)، وجائزة الرواية الأدبية الكورية عن قصتها القصيرة (الطفل بوذا) عام 1999، وجائزة (دونج ني الأدبية) عام 2010 عن (ارحل، الريح تلتقط). وهي أيضاً مؤلفة كتاب (الأفعال البشرية) و(الكتاب الأبيض). وإلى جانب كتابتها، كرست نفسها أيضاً للفنون والموسيقى، ويعكس عملها الأدبي شغفها الموسيقي. ومن أعمالها التي تحمل آثاراً واضحة لاهتمامها بالفن رواية (يديك الباردة) (2002). وتدور حول مخطوطة تركها نحات مفقود مهووس بصنع جص من أجسام الإناث. حيث الانشغال بتشريح الإنسان واللعب بين الشخصية والخبرة. ونشوء صراع لدى النحات بين ما يكشفه الجسم وما يخفيه: (الحياة هي ورقة تتقوس فوق هاوية، ونحن نعيش فوقها مثل البهلوانيين المقنعين)، كما تؤكد جملة في نهاية الرواية.
رواية وفيلم (النباتية)
جاءت الانطلاقة الدولية الكبرى لـ(هان كانغ) بروايتها الخيالية (النباتية) The Vegetarian صدرت في 2007، وتُرجمت من الكورية إلى ثلاث وعشرين لغة منها الإنجليزية، وترجمتها البريطانية (ديبورا سميث)، وفازت بجائزة (مان بوكر الدولية) لعام 2016. وعلى عكس ما قد يوحي عنوان الرواية، فإنها لا تتطرق إلا بإيجاز إلى (الفلسفة النباتية)، والنظام الغذائي المرتبط بها. لكنها رواية أنيقة في ثلاثة أجزاء: (النباتية)، و(العلامة المنغولية)، و(الأشجار المشتعلة) تدور حول أمور/ إشكاليات/ أسئلة متنوعة منها: التشكيك في العنف البشري واستحالة البراءة في هذا العالم، المختلط بالعنف والجمال، وتعريف العقلانية والجنون، واستحالة فهم الآخرين، وأن الجسد ملاذ أخير أو آخر. كما أنها ليست (لائحة اتهام للنظام الأبوي الكوري والضغط الساحق لآداب السلوك الكورية). وهذه الرواية مشحونة بخليط من المتاعب والمصاعب، والآمال الجميلة.
كما تأخذنا إلى عوالم فائضة الإنسانية وجامحة المشاعر حتى الاستهجان، وسط صراعات سطوة العائلة ورتابة المجتمع واستهلاك الذات في طاحونة يومياتنا ليستيقظ الجسد على انتفاضته القاطعة. وتحكي ببراعة مزعجة في آن معاً عن ربة منزل (ممزقة) بين مخزون خيارات حياتها الحذرة والتقليدية وبين أفراد أسرتها الذين ليسوا أبرياء كما يبدو. حيث تعيش (يونغ هي) وزوجها السيد (تشيونغ) في كوريا الجنوبية الحديثة. ويعمل الزوج موظفاً في مكتب، وهو ذو طموحات معتدلة وأخلاق لطيفة، لكن زوجته غير مُلهمة، بيد أنها مُطيعة.
وقبل معاناتها من كوابيس متكررة، عاشت (يونغ هي) وزوجها حياة عادية. لكنها تتحول فجأة إلى (نباتية) مما يزعج أسرتها ويكشف عن أسوأ الرغبات والدوافع البشرية. وهي تسعى إلى حياة أكثر (شبهاً بالنبات وتقرر الامتناع عن تناول اللحوم). ويتجلى تمردها في أشكال أكثر غرابة ورعباً. وينجرّ إليها في خيارها ذلك زوج شقيقتها الكبرى. لكن (يونغ هي) تتعمق أكثر فأكثر في خيالاتها حول التخلي عن سجنها الجسدي والتحول -بشكل غرائبي ومبهج- إلى شجرة. عندما استيقظت هي ذات صباح من أحلام مضطربة، وجدت نفسها قد تحولت إلى (وحش نباتي). ويتعمق السرد الروائي الموجز والمخيف تدريجياً في أماكن أكثر قتامة. إنها تتحدث عن الهروب وكيف يطير الحالم وتسلسلات قصيرة مكتوبة بخط مائل تصف أفكار (يونغ هي)، التي تتراوح بين الحوارات الداخلية الشبيهة بالمذكرات اليومية. ولكن ربما يكون أكثر ما لا يُنسى هو ذروة الرواية الساحقة، وهي لحظة خيالية ولكنها حقيقية. عاطفياً. وتعد بالتأكيد واحدة من أقوى اللحظات. والأهم من ذلك كله، أنها تتحدث عن الفراغ والغضب الناتج عن اكتشاف أنه لا يوجد شيء يمكن فعله عندما يفشل كل الأمل والراحة.
غلاف الرواية وأفيش الفيلم
واقتبست السينما العالمية هذه الرواية في فيلم درامي يحمل نفس العنوان (نباتي) Vegetarian أنتج عام 2009 من إخراج (ليم وو سيونج). وتمثيل: (تشاي مين سيو) في دور (يونغ هي)، و(كيم هيون سونغ) في دور (مين هو)، و(كيم يو جين) في دور (جي هي). وقد عُرض الفيلم لأول مرة في مهرجان (بوسان) السينمائي الدولي الرابع عشر في 8 أكتوبر 2009. وتم إصداره لاحقاً في (كوريا الجنوبية) في 18 فبراير 2010. وفي يناير 2010، تمت مشاركته في مسابقة السرد السينمائي العالمي في مهرجان (صندانس) السينمائي 2010. وكانت حيثيات ترشح هذا العمل الفني أنه: (دراما مستندة لنفسية جريئة حول رعب وفن الجسد). كما فازت بجائزة (ميديشي) الأجنبية لعام 2023 عن فيلمها (الوداع المستحيل).
لمحات عن أعمال أخرى
لها عمل يعتمد على الحبكة (الريح تهب، اذْهَب) (عام 2010)، وهي عبارة عن رواية كبيرة ومعقدة حول الصداقة والفن، حيث الحزن والتوق إلى التحول هما حاضران بقوة. في رواية (النقاهة) من 2013، يتعلق الأمر بجرح في الساق يرفض أن يلتئم وعلاقة مؤلمة بين الشخصية الرئيسة وأختها الميتة. لا يحدث أي شفاء حقيقي على الإطلاق، ويظهر الألم كتجربة وجودية أساسية لا يمكن اختزالها إلى أي عذاب عابر. ومنذ صيف عام 2013، قامت (هان كانغ) بتدريس الكتابة الإبداعية في معهد سيول للفنون بينما كانت تواصل مسيرتها المهنية كمؤلفة تواجه الصدمات التاريخية ومجموعات غير مرئية من القواعد. ففي عملها لعام 2016 (الكتاب الأبيض) يسود مرة أخرى الأسلوب الشعري لهان كانغ. الكتاب هو مرثية مكرسة للشخص الذي كان من الممكن أن يكون الأخت الكبرى للسارد، ولكنه توفي بعد ساعات قليلة من ولادته. من خلال سلسلة من الملاحظات القصيرة، وكلها تتعلق بأشياء بيضاء، يتشكل العمل ككل بصورة ترابطية من خلال هذا اللون الذي يعبر عن الحزن.
وفي عملها (لن نفترق) لعام 2021، الذي يتصل من حيث تصويره للألم بكتاب الأبيض. تستمر القصة في ظل مذبحة حدثت في أواخر الأربعينات في جزيرة (جيجو) في كوريا الجنوبية، حيث قُتل عشرات الآلاف من الأشخاص، بينهم أطفال وكبار السن، بشبهة أنهم (متعاونون). ويصور الكتاب عملية الحداد المشتركة التي يقوم بها السارد وصديقته (إنسيون)، اللذان يحملان معهما صدمة مرتبطة بالكارثة التي حلت بأقاربهما حتى بعد وقت طويل من الحدث. وبأسلوب تصويري دقيق ومكثف، لا تعبر هان كانغ فقط عن قوة الماضي على الحاضر، بل تتبع أيضاً محاولات الأصدقاء المتواصلة لتجلب إلى النور ما سقط في غياهب النسيان الجماعي، وتحويل صدمتهم إلى مشروع فني مشترك يعطي الكتاب عنوانه. الكتاب، بقدر ما هو عن أعمق أشكال الصداقة بقدر ما هو عن الألم الموروث، يتنقل بصورة مبتكرة بين الصور الكابوسية للحلم وميل (الأدب الشاهد) للتحدث بالحقيقة. ويتميز عمل (هان) بهذا التعرض المزدوج للألم، وهو توافق بين العذاب العقلي والجسدي ذو علاقات وثيقة بالتفكير الشرقي.
وستتسلم (هان كانغ) جائزة (نوبل) في الأدب في حفل يقام بـ(ستوكهولم) في 10 ديسمبر/كانون الأول. وستحصل على 11 مليون كرونة سويدية (821.209 جنيه إسترليني/ مليون دولار). ويحصل الفائزون أيضاً على ميدالية ذهبية عيار 18 قيراطاً، وشهادة في حفل توزيع الجوائز في ديسمبر. فهنيئاً لها الفوز، ومازلت أترقب بأمل ذلك الاتصال التليفوني صباح العاشر من أكتوبر من كل عام، وإن كنت لم أتحول إلى (نباتي) بعد!